"وفي فضائنا المجهول .. حطمنا قيود الماضي واتخذنا خطوتنا نحو المستقبل"
فور أن حان وقت الظهيرة أخبرتني عمتي أنها ستذهب مع إخوتي لزيارة أمي وسورا في المشفى فقد سمحوا بزيارته الآن، حاولت جاهدا إيقاظ يوكي لكن دون أي فائدة لذا استسلمت للأمر الراهن ورافقت عمتي إلى هناك، بدا سورا في حالٍ أفضل مما كان عليه في الصباح مما رفع مستوى الطمأنينة في قلبي بعض الشيء، بقينا عند سورا حل المساء ثم عدنا جميعًا إلى المنزل، بمجرد أن دخلت غرفتي وجدت يوكي جالسًا على طرف سريري ومخفضا رأسه بشكل مريب، دنوت منه قليلًا ثم سألته:
- يوكي، أنت بخير؟
- أجل، أين كنت؟
- لقد عدت من زيارة أخي للتو
- ظننتك ستوقظني
- حاولت
رفع يوكي رأسه وأخذ نفسًا عميقًا ثم كتمه داخل صدره بضع لحظات وبعدها أطلقه بارتياح، نظر إليه بهدوء ثم سأل:
- كم الساعة الآن؟
- الخامسة مساءً
- يجدر بنا المغادرة إذن
أومأت موافقًا ثم تقدمت نحو خزانة الملابس وأخرجت بعض الغيارات لي وله، تجهزنا للسفر بهدوء بينما نتجاذب أطراف الحديث، أخبرته بأني قمت بالتوقيع على نقل أخي إلى مشفى أكبر في قلب طوكيو وقد أيدني على ما فعلته، كما شرحت له حالته بالضبط والتي كانت تشير بشكل عام إلى عدم تعرضه إلى إصابات بالغة في العمود الفقري، كل الأمور بدت مستقرة نوعًا ما، كل ما علي فعله هو العود للجامعة لمدة يومين لأداء الاختبارات اللعينة ومن ثم الرجوع إلى هنـا والبحث عمن سبب كل هذه المصائب.
كان يوكي يستمع إلي بصمت طوال الوقت، وفور أن انتهينا من تجهيز أنفسنا قمت بإيقاظ آتسو وتجهيزه هو الآخر، غادرنا المنزل بعد أن ودعنا عمتي وانطلقنا بسيارتي في خضم شوارع طوكيو المزدحمة قاصدين وجهة يوكي المجهولة.
مبدئيًا اخبرني أن أسلك طريق المطار فوجهته بنفس تلك الجهة نوعًا ما وفور أن أصبح المطار ببعد ساعة عن مكاننا أخبرني أن أسلك المخرج الأيمن والذي كان يؤدي إلى بعض الأحياء السكنية حسب ما كان مكتوبًـا على اللافتة، وبالفعل ما كانت إلا لحظات حتى تراءت لنا تلك البيوت بمظاهرها الأنيقة، بدا حيًا فاخرًا نوعًا ما مما بعث بشعور الارتياح في قلبي، نظرت إلى يوكي الذي كان يحدق بهدوء مرعب في المكان وسألته إلى أين بالضبط فما كان منه إلى أن قال بصوت هادئ "تابع إلى الأمام"
فعلت ما طلبه مني بالضبط تحت ضغط ذلك الهدوء الموحش، حتى آتسو الذي اعتاد على الالتصاق بالنافذة وتأمل الشوارع قد التزم مكانه بهدوء وأخذ يحدق بقدميه تارة وبأخيه تارة أخرى، شيئًا فشيئًا بدأت تلك البيوت حسنة المظهر بالاختفاء فكلما تعمقنا في ذلك الحي أكثر كلما أصبحت البيوت أبسط وأفقر، حتى تلك الإضاءات التي تنير الطريق تلاشت في لحظة، لم يقل يوكي أي كلمة فتابعنا طريقنا حتى وقفنا أمام جدار حجري تتخلله سلالم طويلة كتلك المؤدية إلى المعابد. أخذ يوكي نفسًا عميقًا ثم لف وشاحة ليغطي نصف وجهه ونزل من السيارة وقال "انتظراني هنا، لن أتأخر"، شعرت بانقباض في قلبي فأطفأت السيارة بدوري ورددت عليه بصوت عالٍ "سنأتي معك!"
وهكذا دون انتظار موافقة منه حتى، نزلت من السيارة وأنزلت آتسو منها أيضًا ليسأل يوكي باستغراب:
- ما الأمر؟ لمَ ستنزلان معي؟!
- المكان يبدو خطيرًا أخبرني ما الذي تريده من هنا بالضبط ..؟
- خطير..! ليس كذلك! إنه مهجور فحسب ~
- وماذا إن لم يكن كذلك؟ دعنا نذهب معًا ..
صمت يوكي بضع لحظات ثم قال مستهزئًا " لو كان خطيرًا كما تقول لما أنزلت آتسو، قل أنك تخاف من الظلام وخلصنا"
لم أجب عليه فكلامه عين الحق، تقدمنا يوكي صاعدًا ذلك السلم الخطير ثم تبعناه أنا وآتسو بخطوات مرعوبة نحو ذلك المكان المجهول، بالرغم من الظلام الدامس إلا أن يوكي كان على معرفة تامة بالطريق، لم تمضِ الا لحظات حتى أصبحنا قبالة منزل خشبي قديم بالكاد يزال صامدًا حتى هذه اللحظة! قام يوكي بتشغيل إضاءة هاتفه وأخذ يتأمل المكان بعمق شديد قبل أن يقول بصوت مسموع .. "مقزز!" .. توجه بعدها إلى السور الذي كان مكسورًا بالفعل ودخل حرم المنزل لأتبعه أنا وآتسو
- يوكي ما هذا المكان؟! إنه موحش بالفعل؟
- لا حاجة لأن تعرف
- اه منك! أخبرني فقط ..
- لم أجبرك على القدوم!
تجاهلني ذاك الوغد وصعد على عتبة باب المنزل فصعدت معه ولكن الأرضية ما لبثت إلا وأن تهشمت تحت قدمي اليمنى فأمسكت بمعطف ذلك المتجمد كي لا أتعثر.
- هوااااااااااهه! كان هذا وشيكًا .. هذا المنزل مهترئ بالفعل!
- اتركني يا صاحب العقل الفارغ
- رائع! كيف سأخرج قدمي الآن؟!
- اسحبها فقط ..!
- أخشى أن تدخل نشارة الخشب في قدمي
- ومن يكترث =="
أفلت معطف ذلك المتجمد وجلست بهدوء دون أن أحرك قدمي ثم أخرجت هاتفي من معطفي ووجهت الإضاءة نحو قدمي وبدأت أحاول إخراجها بهدوء، تقدم عندها آتسو وجلس بجواري ثم سأل بقلق:
- تؤلمك .. ؟
- كلا لا تقلق .. إنها عالقة فحسب! تريد مساعدتي؟
- أها ..
- خذ أمسك هاتفي ووجه الإضاءة نحو قدمي
- حسنًا..
فعل آتسو ما طلبته منه أما يوكي فقد نظر إلينا قليلًا ثم عادت أنظاره إلى ذلك الباب القديم والذي بدأ يضربه بكتفه عدة مرات أملًا في أن يتمكن من تحطيمه! تمكنت من إخراج قدمي التي أصيبت ببعض الخدوش البسيطة بعدها ثم وقفت أتفرج على يوكي الذي لم تنجح أيًا من محاولاته حتى الآن
- يالك من ضعيف ..
- أكرمني بسكوتك!
- تنحى جانبًا سأريك كيف يتم الأمر
تراجعت للخلف بضع خطوات ثم تقدمت نحو الباب بسرعة كبيرة وضربته بكتفي فلم أعي بنفسي إلا وأنا مرمي على أرضية المنزل، دخل يوكي بعدها بهدوء ثم نظر لي وقال بسخرية "أبدعت!"
رفعت نفسي بعدها بتثاقل ونفضت الغبار عن ملابس ثم أخذت أنظر يمنة ويسرة في أرجاء ذلك البيت الخرب .. لوهلة راودني شعور غريب .. أخذ يوكي الممر الأيمن فتبعته مع آتسو بهدوء حتى وقف أمام سجادة عتيقة، رفعها بقدمه بتقزز شديد ليترائى لنا شق بسيط في الأرض يدل على وجود مخزن بسيط تحت أرضيت تلك الغرفة الصغيرة.
شعرت حينها بشعور غريب .. شعور لم أجربه في حياتي قبلًا .. تلك القشعريرة ملأت أنحاء جسدي قبل أن يتحرك لساني الفضولي وأسأل يوكي شيئًا كنت أعرف إجابته مسبقًا ..
"يوكي! أهذا منزلك؟"
لم يجب يوكي على سؤالي بل انحنى بشكل بسيط قبل أن يفتح ذلك الباب الصغير الموجود على الأرض، وجه إضاءة هاتفه نحوه ثم تأمله بضع لحظات وأردف "وأنا الذي كنت أراه كبيرًا.. حتى النملة ستختنق إن دخلت هنـا!"
عم الصمت لفترة فاستدار يوكي وخرج من الغرفة تاركًا إيانا خلفه، تقدمت حينها وأغلقت ذلك الباب وأعدت السجادة إلى مكانها ثم أمسكت بيد آتسو وتبعته، كان يسير دون أن يعير أسئلتي أي انتباه.. كنت أتساءل لمَ أتى إلى هنا؟ وما إن كان يبحث عن شيء محدد؟
كل تلك التساؤلات كانت تتصارع داخل رأسي دون أن تجد لها مجيب، ولكن الشيء الوحيد الذي كنت متأكدًا منه هو أن صاحبي قد يفقد صبره في أية لحظة.. فبالرغم من هدوءه إلا أنن قادر على رؤية يده ترتجف بعض الشيء ناهيك عن عدد التنهدات التي أطلقها حتى الآن .. كنا نتجول في أنحاء البيت دون هدى .. كل ما أعلمه أن يوكي يبحث عن شيء ما بالتأكيد .. فها نحن في غرفة نوم خالته وها هو يفتش المكان شبرًا شبرًا دون توقف، كان آتسو يقف مستندًا بظهره على الجدار يراقب كل شيء بهدوء أما أنا فقد جلست على السرير بحذر خوف أن ينكسر وبقيت أتأمل يوكي بصمت قبل أن يكسر الجليد بنفسه ويسأل دون أن ينظر لي:
- شيجيرو ..
- همم؟
- أتعلم ما أفضل طريقة للتخلص من الذكريات؟
- أتعني نسيانها؟
- أجل .. لكن .. بشكل كلي .. أعني .. بطريقة تشعرك أنها لم توجد من الأساس .. !
- هذا صعب .. لكني سمعت أن العقل البشري مبدع في مثل هذه الأشياء ..
- ماذا تعني ..؟
- يقال أن الإنسان إن مر بتجربة غاية في السوء فإنه ينساها بشكل تام في بعض الأحيان ..
- هُراء .. ما أزال أذكر ما حدث في الماضي كما لو أنه الأمس ..!!
- من يدري .. إن حدث وأن قام عقلك بنسيان شيء ما بشكل كلي، فكيف ستدرك أنك نسيته أصلًا؟ ربما مررت ببعض التفاصيل الفظيعة التي نسيتها تمامًا ولم تعي حتى أنك نسيتها ..
- لمَ لا أنسى الباقي إذن؟!
- هاه؟!
- لقد أصبح كل ما حدث لي ماضٍ سحيق.. لمَ لست قادرًا على نسيانه إذن؟ لمَ يعود لي شريط ذكرياتي عند المنام ليروي لي كل ما حدث؟! لمَ لست قادرًا على التنفس براحة كباقي البشر؟ لمَ أصبح وأمسي على صوت الضمير ونغزات الندم؟!
- يوكي ..
- كان هذا البيت ولا زال يظهر في مخيلتي .. وها قد أتيته الآن.. فهل سيكف عن الظهور في مخيلتي كل لحظة يا ترى؟! كيف لي أن أنسى أمره على الأقل .. لقد سئمت ذلك بحق!
- .....................
- إن استمر الوضع هكذا .. أقسم أني سأفقد عقلي يومًا ما ..
للحظة أدركت أني أصبحت عاجزًا عن الكلام أنا الآخر.. رفعت رأسي إلى الأعلى ورحت أتأمل ظلالنا على السقف أما يوكي فقد عاد لصمته مجددًا وأكمل بحثه دون أن يطلق أي كلمة أخرى.