كانت مُمدة داخل غُرفة العمليات، تصرخُ بكل ما أوتيت من قوة تحاول إخراج الكائن الساكنَ داخلها... يقفُ عن يمينها إحدى المُمرضات و عند قدميها هُناك الطبيبة حيثُ تُحاول سحب رأس الطفل! -" تبقى القليل، تحملي أرجوكِ.." -" لا أستطييييع، آآآآآآآآآآآآآآ <صرخة> ..." صوتُ طفلٍ صغير، كائن صغير لين يكسوه الدم من فوق رأسه حتى أخمص قدميه يبكي بحرارة وكأنه يُخبرهم "أنا هُنا".. لكن فرحة الأم لم تكتمل، وفرحة الصغير بدخوله العالم كذلك.. توفيت الأم على الفور، مع أول صرخة للصغير، و كأنها سلبت نفسها قواها لأجل وليدها الضعيف، ولم تسلب نفسها وحسب بل أخذت أعين الصغير داخلها. -" مُبارك لقد رزقتِ بفتاة جميلة..." -" هل توفيت؟!" تحدثت الطبيبة على الفور : -"أحضروا جهاز الإنعاش، هيااا بسرعة!" جربوا إنعاشها مرارًا وتكرارًا لكن ذلك لم يُفلح أبدًا! تركت الأم وليدتها وحيدة مع زوجها و طفليها الآخرين.. [ بعد خمسة أعوام ] لم يكونا إخوة الطفلة بذلك الكُفء، تهربا دومًا من رعايتها تاركين ذلك لوالدهما ... كان الوالد مصدومًا منهما، ظنّ أن الأخوة سيكونا الظل لشقيقتهما وأنهما سيدلانها على نهاية النفق المضيئة لكنه لم يتوقع الكثير منهما لذلك، عكف على الأعتناء بها طوال تلك الأعوام ولا يزال.. يشعر بالشفقة على ابنته الصغيرة التي من المفترض أن تركض وتلعب كالآخريات لكنها تفعل عكس ذلك وتظل في غرفتها تتخيل شكل العالم الذي استقبلها بالظلام المُحتم.. تركهما في ظلامهما و ذهب إلى النور، حيث تجلس على الفراش تركز انتباهها على الأصوات و تحرك يدها بعشوائية تلهو بأصابعها! عندما فتح الباب نظرت فتاة في ربيعها الخامس، بعينيها العسلية الذهبية .. تترقب صوت الداخل! صرخت الطفلة بخوف :-"من هُناك!" أجاب والدها برقة متناهية : -"لاتقلقي يا إيمان، أنا والدكِ" [ على الجانب الآخر ] قال أبي أنني سأبقى في النور طويلًا، لكنني لم أعرف ماهو النور.. أو حتى كيف هو لونه؟ لا أستطيع تمييز أي شيء، الألوان، و الأسماء، و الناس في الخارج.. منزلنا الصغير إنني لا أعرف عما يحتوي، دائمًا أجد نفسي أتخبط في زوايا كثيرة.. يقول أبي إنه الجدار! بينما كنتُ أفكر دلف أحدهم إلى الغرفة، ذلك صحيح فأنا جيدة في تمييز الأصوات.. كنتُ خائفة فالسواد يُحيط بكل شيء، لذا صرختُ "من هُناك!" لكن الصوت الذي أتاني كانت نبرته هادئة و حانية، إنه أبي! هكذا أجاب الرجل أيضًا. جلس بجانبي وهو يسألني عما أفعل، حركت رأسي و سألته "أبي! قلت لي أنني سأبقى في النور، هل لون النور أسود؟" هدأ الأب يُفكر كثيرًا وثم أجاب بهدوء "نعم يا عزيزتي، و سيُزاح النور عن عينيكِ قريبًا بإذن الله" عقبتُ بسعادة "حقًا؟ هل سأستطيع رؤية أخواي و المنزل والشارع؟" قال بكسرةٍ في صوته : -"إن شاء الله.." كان يشعر بالحزن عليها وهي تتحمس لكل ذلك لا يعرف كيف يُخبرها أن العالم الوردي الذي تتخيله مختلفٌ تمامًا و أنه هو الظلام و ما تتخيله نور! قطعتْ حبل أفكاره قائلةً "أبي، ما لون منزلنا؟ كيف هما أخواي؟ هل سأذهب للمدرسة العام القادم؟" طرحتهم دفعةً واحدة وهي تتحمس للأجابة التي سيقولها والدها.. قال بحنان : -"جدار منزلنا لونه سُكري إنه لون لطيف وهادىء و يوازي ما بين الأبيض و الأصفر و الأبواب لونها بُني غامق. سطح المنزل لونه أحمر و الأرضية بيضاء، أما إخوتكِ فالكبير يَملك شعرٌ بني و عينان سوداوتان مثل والدتكِ و الأصغر لديه شعر أسود و أعين عسلية مثلكِ و كلاكما أخذتما ذلك مني" تنهد قليلًا ثم تابع "لايزال الشارع خطيرًا عليكِ يا بُنيتي، لذا ليس العام القادم بل ما يليه" كُل ذلك كان جيدًا بالنسبة له، مقارنةً بالحوار القادم.. على الأقل حتى تسألت ببراءة "كيف هو اللون الأحمر؟ و ما هو اللون الأصفر؟ هل الأبيض أجمل من الأسود؟!" سكتَ قليلًا و ثم قال :"اللون الأحمر لون مشع، عندما تنظرين إليه تجديه كما لو كان يقتحم عينيكِ متفجرً، أما الأصفر فهو لون هادىء و لديه بريق لامع عند النظر إليه يبدو كما لو كان مكسو بالذهب، الأسود سيد الألوان لكن الأغلبية لا يحبون الأسود لذا نعم الأبيض أجمل ^^" أجابته على الفور "وكيف تبدو غرفتي؟ هل هي جميلة؟" رد قائلًا "إنها وردية!، الجدار لونه وردي و الباب أبيض و فراشكِ مكسو بالبنفسجي". تحمستُ كثيرًا، عرفتُ أن هناك ألوان أخرى غير الأسود في عالمنا، و هي في ازدياد.. خرج أبي ليعد الطعام، أحب طبخ أبي كثيرًا.. المرة السابقة بينما كنتُ مع أخي سكب على ثيابي الطعام ثم صرخ بي "أيتها الحمقاء، هل أنتِ طفلة؟ لقد اتسخت ثيابكِ الآن..مزعج..!" إنهما مختلفان عن أبي كثيرًا، أخي الأكبر لايجيد تمشيط شعري فهو يفعل ذلك بطريقة مؤلمة ثم يدعي أن شعري مجعد و سيء.. الأمر مختلف مع أبي فهو دومًا يُخبرني أن شعري أملس كالأميرات. [ بعد مرور عدة أعوام ] كبرتُ أكثر، أنا الآن في المدرسة بالتحديد المرحلة المتوسطة، إلتحقت بمدرسة خاصة بالكفيفات. أستطيع تناول الطعام بمفردي و تعلمت كيف أمشط شعري وترتيب الغرفة، تقريبًا بت أحفظ كل مخارج و مداخل منزلنا، أبي صحيح لايزال يخاف علي لكنه يُعطيني حريتي في اكتشاف العالم.. عادةً وأنا أسير بعصاي إلى المنزل أسمع تلك الضحكات والسخريات والهمسات، نعم لا يَكف الناس عن السخرية من كوني كفيفة لكن ذلك لا يُهمني طالما أبي بجانبي، لقد كان سندي و عضدي طوال تلك الأعوام، لقد أنهكته و أزعجته.. لا بد أن الطريق كان طويلًا للوصل إلى هذه النقطة. بتُ أعرف أكثر عن عيني، النور الذي حادثني أبي عنه لم يكن سوى الظلام! لكنه لم يعرف كيف يُخبر طفلة في الخامسة من عمرها بأنها كفيفة ولا أمل في أن ترى مرةً أخرى!، بطريقةٍ أصبحت أرى الألوان أو بالأحرى أستشعر هالتها و أميزها... لقد كان أبي سعيد للغاية وأنا أخبره "هل ترتدي قميص أزرق يا أبي!"، في بادىء الأمر قد صُدم من كوني لا أرى لكنه عرف بعدها أن الله يُلهمني رؤيتها. رغم ذلك أتفقت مع أبي أن أسير حتى المحطة وهُناك نلتقي وثم نعود للمنزل معًا، لم ترقني الفكرة في البداية أردت العودة للمنزل بمفردي والتعود على العالم الخارجي، لكن أبي أصر قائلًا "لاتزالين صغيرة يا بُنيتي، العالم ليس مكانًا آمنًا، و المسافة بين المدرسة و المحطة قصيرة لن يُرهقكِ هذا" - جاءني أبي في الغرفة يوم الجمعة وهو يقول "سنخرج غدًا معًا" كنتُ متحمسة للغاية لهذا سألت بلهفة "حقًا؟ إلى أين" أجاب بهدوئه المعتاد "ستعرفين بالغد" بالفعل خرجنا أخذني أبي إلى الشارع، السير للمدرسة لا يُضاهي السير مع أبي أبدًا ما يجعل أبي الأفضل هو كونه يُضحي بكل عاداته و طباعه في سبيلي، أبي من الأشخاص الذين هم خطواتهم متسارعة و غير معتادين على السير ببطء.. رغم ذلك إنه يسير بخطى متباطئة معي و لايتذمر بشأن ذلك، وصلنا إلى المكان رائحة المعقمات تفوح منه، وأصوات كثيرة.. الناس هُنا كُثر، هل نحن في المشفى؟ جلسنا في صالة الانتظار، لم يلبث الوقت كثيرًا حتى تمت مناداة اسمنا فتوجهت مع أبي إلى الغرفة حيث الطبيب الطبيب بدأ الحديث قائلًا : -"أووه سيد عاصم! أهلًا بك، مرت فترة طويلة منذ آخر مرة.. هل أتيت للكشف هذه المرة؟" أجاب أبي : -"في الحقيقة لقد أتيت لفحص ابنتي الصغيرة، كما ترى..فهي كف..ي..فة" جلسا يتحدثا حول حالتي، وأن هناك حالات كثيرة مشابهة مرت عليه وبعضها تمت معالجتهم..الكثير من كلام الكبار الذي لا أفهمه لقد تخيلت شكل الطبيب في راسي، فقلت "ربما أشيب، و لديه شارب، عيناه سوداوتان و متوسط الطول قد يُصبح 180!" قطع صوت الطبيب حبل أفكاري وهو يقول : "اسمكِ إيمان إذًا؟، اسم جميل.. ستحتاجين لإجراء بعض الاشعة و الفحوصات، لا تخافي يا بُنيتِي سيكون كل شيء بخير" عقبتُ قائلةً : "هل هناك آمل في أن أرى؟" أجابني "نعم!، أغلب الظن سنجري عملية جراحية للعين، نسبة الشفاء فيها 50 في المئة.." قلتُ في نفسي "كذلك نسبة الآخرى". عندما خرجنا من المكان سألتُ أبي بفضول "هل كنت تأتي هُنا للفحص أبي؟" تعلثم قليلًا قبل أن يعود لهدوئه ويقول "بل والدتكِ، كانت ضعيفة النظر وكنت أخشى عليها من المرض" سكتُ قليلًا قبل أن أعاود الحديث "هل ورثتُ النور مِنها؟" "تقريبًا". - ها أنا في عامي الثالث عشر، أجرينا تلك الفحوصات لمدة ثلاثة أشهر متتالية، تقرر الأمر سأخضع لتلك العملية الجراحية.. لا أخُفي ذلك أنا خائفة كثيرًا، مع أنني قد خسرتٌُ عيناي بالفعل، لكنني لا ازال خائفة. كنتُ في الغرفة أجلس على فراشي كالعادة.. أحاول تخيل المنظر خارج نافذتي، أسمع تغريدة بلبل لذا خمنت أن هناك شجرة تمتد أغصانها على طول نافذتي وهي ما يقف عليها، بالتالي نحن نملك ما يُشبه الفناء الخلفي لكنه أمامي هذه المرة، تمتد منه الشجرة.. فُتِح الباب.. خطواتُ تلك الأقدام أعرفها جيدًا، إنها تدب بي الخوف دومًا سارعت بالقول "مالذي تريده أخي؟" أردف قائلًا "طالما تستطعين معرفة من الداخل، فلماذا لاتفعلين ذلك بنفسكِ وحسب! أبي يزعجنا برعايتكِ تلك، ألم أخبركِ؟ نحن نكرهكِ كثيرًا!! فلتذهبي إلى الجحيم" أجبته بهدوء "أخبرني ما تريده و إن كان بمقدوري فعله فسوف أفعله، على أية حال أليس من السخرية أن الكفيفة تُجيد فعل الأمور أفضل من المبصرين أمثالك أخي!" ثارت حفيظته فصفعني بقوة وقال "لاتنسي حالكِ، أنتِ فتاة عاجزة..مهما تعلمتِ و خرجتِ للعالم فستظلين عاجزة حتى الموت! أنتِ مولودة بمرض ليس له علاااج!" خرج من الغرفة، بعد خروجهِ لامستُ وجنتاي فوجدت قطرات ماءٍ! "هي لا تُمطر في الغرفة صحيح؟ ما تلك يا تُرى!" وكانت تلك مرتي الأولى مع الدموع. بعد دقائق دلف أبي إلى الغرفة، قال متوترًا "ألم تجهزي بعد! علينا أن نكون في المشفى خلال دقائق!" أجبته "آسفة يا أبي، سأجهز في الحال.. لكن هناك سؤال يراودني" -"تفضلي يا بُنيتِي" -"هل يُمكن للسماء أن تُمطر داخل الغرفة؟" -"بالتأكيد لا! هل حدث شيءٌ ما؟" -"وجدتُ قطرات ماء على وجنتاي!" ضحك أبي بصوتٍ عالٍ ثم قال "إنها الدموع يا ابنتي! ألم تبكي من قبل؟" .... ذهبنا للمشفى، طمأنني الطبيب أن العملية ستجرى بسرعة، وأنني سأكون بخير إن شاء الله ابدلوا ثيابي بتلك الخضراء الخاصة بالمرضى و ذهبوا بي حيث العملية. مرت ساعتان حتى خرج الطبيب و هو يُخبرني : -" ستكون إيمان بخير إن شاء الله، نجحت العملية!" -"حقًا؟ حقًا؟!.. الحمد لك و الشكر يا الله!! هل يُمكنني رؤيتها؟!" -" ليس الآن عليها أن ترتاح، حتى ثلاث ساعات حينها يُمكنك رؤيتها.. - [ بعد ثلاثة أيام ] عُدنا للمشفى لينزعوا ربطة العين و نقوم بالفحوصات المتبقية.. بدأ الطبيب في فكها، هاهو يقوم بالدوران معها حتى وصل لنهايتها ها أنا!.. حانت اللحظة.. نزعها! أمرني بفتح عيناي ولكن ببطء شديد.. أمتثلت لأمرهِ.. عندما فتحت عيناي كان هناك رجلٌ بشعر أسود و أعين عسلية ذهبية بلحية سوداء خفيفة يقف أمامي، كان طوله يتراوح ما بين 180 و 185 عريض المنكبين، يرتدي نظارة طبية.. ما إن رأيته قفزت بين أحضانه و أنا أقول "أبي!! إنني أراك جيدًا.. إنني في النور أخيرًا يا أبي". - في صغري عرفتُ أن النور لونه أسود، و عندما كبرتُ علمت أنه أبيض لكنني عرفتُ أن اللون الحقيقي للنور هو الأسود و رغم ظلامهِ هو الشمعة و الظلام لونه الأساسي الأبيض ورغم نصاعته إلا أنه القاع بذاته! أغمضتُ عيني على أمي المتوفاة، وفتحتها على أبي.. كانت تلك قصتي ما بين الموت والحياة و بين النور و الظلام.. إنني سوداء و أحبُ ذلك. |