في أحد المقاهي العريقة، كنتُ أجلسُ في زاويتي المفضلة أحتسي فنجان قهوتي.. لطالما أحببتُ تلك الزاوية لأنها تُتيحُ لي مراقبة الجميع مِن خلف جريدتي. لم أفوت يومًا قط، أزور المقهى كُل يوم.. أُشبه بائع الحليب الذي يبيع كُل يوم ولا يضيعُ يومًا أبدًا. وعلى حين غَرة دلفت فتاةٌ، جلست على الطاولة المُقابلة لي، تقرأ كِتاب "how to change the way you think | كيف تغير طريقة تفكيرك"، خصلاتها الحَمراء المُسدلة على صفحات الكتاب، عينيها البنيتين الهادئتين.. وأصابعها النحيفة الطويلة تُمسك بفنجان.. راقبتها من بعيد، من خلف الجريدة.. حتى تلاقت نظراتنا، أشحت بوجهي للناحية الأخرى على الفور! وعِندما أعدتُ النظر رأيتُ وجهها الأصهب يحمرُ خجلًا مع بثورهِ الورديه. لم أستطع منع ذاتي عن مراقبتها بل حتى أنني سمحتُ لنفسي في التدخل بشؤونها الخاصة متسائلًا عن حالها، ثم أفرض الفرضيات وأقول حائرًا : "هل تنتظرُ حبيبها؟، ربما مخطوبها!".. "لم أرها مِن قبلُ هنا.. لعلها انتقلت مؤخرًا!" "تبدو مزاجية، لابد مِن كونها كذلك، وهي تحاول الآن تغيير ذلك عبر ذاك الكتاب.. يالي من عبقري، إنني أذكى من سينشي كودو حتى هاهاهاها" ~سحقًا~ وضعتُ يدي على جبهتي و أنا أضحك ساخرًا من وضعي. وبدلًا مِن التركيز مع الجريدة كعادتي، وجدتني أركز جُل اهتمامي بها.. هل سرقت قلبي برشفة قهوة واحدة!!! - توجهتُ للمقهى، و جلستُ قِبالة النافذة لم أعر أيًا مِن الجالسين انتباهًا، كنتُ أفكر فقط بالاسترخاء و انهاء ذاك الكتاب.. مصادفةً أردتُ استكشاف المكان لكن، نظراتي وقعت عليه! تلاقت أعيننا.. فنظرتُ في الاتجاه الآخر على الفور. كنتُ أنظرُ للصفحات دون تركيز، حاولتُ ادعاء أنني أقرأ و بينما عقلي في وادٍ آخر!! ~سحقًا، لا أستطيع التركيز هكذا~ تركتُ الكتاب جانبًا و أخذتُ فنجاني. - لازلتُ أراقبها، توقفت عن القراءة.. وها هي تحتسي قهوتها! شعرها القصير رائعٌ بحق، لاسيما من تلك الزاوية. وددتُ أن أقتحم عالمها، كنتُ قد قررتُ ذلك بالفعل.. أزحتُ الكرسي لكي أذهب لكن، تراجعتُ وعدت إلى مكاني. أمسكتُ بالجريدة مرة أخرى أحاول التركيز وترك الفتاة وشأنها. لكن كيفَ أركز وهي هُنا!! طويتُ الجريدة وضعتها جانبًا، عندما نظرتُ إليها كانت تُشيح بنظرها نحو النافذة، تُراقب الشارع و المارة.. لم أدر ما أفعل. لذا خلعتُ نظارتي واضعًًا رأسي فوق الطاولة. - حاولتُ الاسترخاء عبر النظرِ للنافذة، حتى ذلك لم ينفع.. لذا عاودتُ النظر إليه فوجدتهُ قد ألقى بالجريدة بعيدًا واستسلم للهدوء.. خصلات شعره البنية! و رقبتهُ القمحية.. كُل ذلك يجعل تركيزي في مهب الريح. لم أمنع ذاتي من أن أتساءل عن الرجل الغريبِ "هل يأتي هُنا كُل يوم؟، هل ينتظر أحدًا؟ محبوبته وربما مخطوبته.. آآه!!" ~مالي وماله!~ بينما كنتُ أحاول طرده من عقلي، دون ان انتبه سقط الفنجان على الأرض ملوثًا لثيابي.. "هذا آخر ما ينقصني" لحسن الحظ انسكب على المعطف. - سمعتُ صوت كسرٍ، كان واضحًا فلم يدوي صوته في أنحاء المقهى وحسب، بل حتى أنه اخترق أذني! رفعتُ رأسي لأرى ما يحدثُ، فرأيتها تخلعُ معطفها الرمادي و تمسحُ بمنديل ورقي ما انسكب لكنه بلا فائدة.. آتى النادل ألتقط الفنجان المكسور و نظفَ الطاولة.. لم أفكر كثيرًا، ذهبتُ إليها. أخرجتُ منديلًا قماشيًا ومددتُه إليها -"تفضلي، سيكونُ ذلك أفضل" آخذته وهي تقول "شكرًا". عدتُ أدراجي، بعدها بقليل أتت إلي وهي تعيدهُ إلي وتشكرني مرةً أخرى.. بينما هي تعود أدراجها ناديتها : -"أيتها الفتاة، أتسمحين؟" استدارت متسائلة "عفوًا؟" -"أتسمحين أن نتشارك نفس الطاولة؟" سَحَبَتْ كرسيًا و جلست، طلبتُ فنجاني قهوة.. كان الجو هادئًا حتى نطقت -"هل تنتظرُ أحدهم؟" لم أنتبه لما قالتهُ لذا "هل كنتِ تقولين شيئًا؟" -"كنتُ اسأل هل تنتظرُ أحدًا؟" أجبتها -"كلا.. أنا وحدي، وأنتِ؟" -"هممم.. أظنني وحدي أيضًا!" احتسينا القهوة ولكني بادرتُ هذه المرة قائلًا "هل أنتِ جديدة هنا؟ هذه أول مرة أراكِ في المقهى.." ضحكت ساخرةً وهي تجيب "قارىء أفكار أم ماذا!" أجبتُهاُ "لم أفوتُ يومًا، أعرفُ كل الوجوه هُنا، متى يأتون ويغادرون أيضًا!.. بديهيٌ أن أعرف ذلك" رفعت إحدى حاجبيها ثم قالت "لا عجب مِن ذلك، ماذا تعرفُ أيضًا؟" وضعتُ يدي فوق رأسي وكأنني أفكر ثم قلتُ مازحًا "لا أعرف، لمَ لا تخبرينني أنتِ؟" صمتتَ قليلًا ثم قالت "هل تقرأ نفس الجريدة كُل يوم!" ضحكتُ ساخرًا مِن قولها بينما أقول "هل أنا مجنونٌ للدرجة؟، بالطبع لا!" عمَ الصمت أرجاء المقهى، كانت تشبك أصابعها ببعضها من التوتر بينما كنتُ أحاول التركيز مع القهوة والجريدة، ورغم ذلك بداخلنا كان يحدثُ العكس تمامًا -"هل..." -"هل..." نطقنا بوقتِ واحد، شعرَتْ بالحرج فقالت "تفضل أنتَ أولًا" -"لابأس حقًا، يُمكنكِ البدء أولًَا" أشاحت بوجها بعيدًا ثم عادت لتنظر إلي وهي تقول "أممم حسنًا، كنتُ أسأل هل تعيش وحدك؟" -"نعم، منذُ مدة طويلة" -"لماذا؟ لا تبدو من الأشخاص الذين يفضلون العزلة والوحدة.." أجبتها بهدوء "ذلك صحيح، هل أنا واضحٌ للغاية؟.. لم تسنح لي الظروف أن أجد شريكًا يتقاسم معي الحياة، ماذا عنكِ؟" أجابت بتوترِ يظهر في صوتها "إنتقلتُ لأهرب منه، أتنقل في كل مرة تواجهني ذكرى و ماضٍ وحتى الروائح عندما تُداهمني أهرب مِنها.. ولهذا ليس لي مكانًا محددًا ولا زمانٌ محدد كما يقولون أنا كورقة شجر أذهب حيثما تذهب بي الرياح" -"هل تحاولين تغيير ذلك؟" سألت بتعجب -"لماذا تظن ذلك!" -"كتابكِ، كأنكِ سئمتِ الطريقة الروتينية في تفكيرك وتحاولين تغييرها، هل تحاولين الاستقرار؟" -"من يعلم!" تقابلنا بعدها بعدة أيام، ظللنا على حالنا هذا خمسةُ أيام نتقابل ونتحدث عن حالنا و عما يجري من حولنا وكانت البداية مِن اليوم السادس عِندما ذهبتُ كعادتي للمقهى ولكن بشغفٍ أكبر، متشوقٌ لرؤيتها ولكن، جلستُ على طاولتي المعتادة. فتحتُ جريدتي و انتظرتها... مرت ساعة فقلقتُ، مرت آخرى فـازداد نبض قلبي هلعًا، مرت غيرهما أثنتان فعلمتُ أنها قد عزمت على الرحيل وفي حقيبتها قلبي... انتظرتها كثيرًا وأنا أعلمُ أنها لن تأتي، لم أعلم حينها أن طعم الحُب مرٌ هكذا، وأن مرحبًا التي نرددها على أحبابنا هي في الحقيقة "مُر حُبًا لأحبابٍ لم يعرف القلب لهم وداع" - كنتُ أرتبُ حقيبتي للرحيل مرةً أخرى، لم أنم ليلة أمس وأنا أفكر فيه وهل سأستطيع الذهاب وتوديعه أم لا! ترددتُ كثيرًَا.. حتى هطل المطر و أنساني مشاغلي كُلها ففضلتُ مُراقبة زغات المطر مِن نافذتي، وعندما انتهى.. كتبتُ رسالة بخط يدي..رسالةً لن تصل أبدًا ولن يُعرفَ مُحتواها. كنتُ أعلم أن برحيلي أسرقُ فرحة أحدهم و فرصتهِ في أن يعشق بشكلٍ صحيح، لم أعلم فيما كان يُفكر ولن أعلم... لكنني أعلمُ فقط أنه لن يكرهني. أندبُ حظي فقط أنني لم أعرف اسم ذاك الغريب الذي استوطن قلبي بفنجان قهوة عربي. - "سحقًا! لم أسألها عن اسمها!" تذكرتُ فقط أنني التقيتُ بِحبي ها هُنا، وجمع بيننا مرارُ القهوة و قلبٍ فارغ مُشتت في الأوطان، كانت تلك النهاية.. ومن يومها أعود للمقهى، لجريدتي.. ولم أعد أراقب الناس لأنهم راحلون. - EVilCLAW TEAM |