حوار البطلة حوار البطل الازمنة سرد البطل سرد \ حوار لشخص آخر ~ تِلك لمْ تَكُن سِوى البداية، حِينما تلاقت أعيننا وتبادلنا الروح بِكل صفاتها.. قَبل أن تتقدم لِخطبتي، ظننتُ أنني أعيشُ حلمًا! لَكن الأمر كَان من بدايته واقعًا، لم يتحملهُ قلبي، فلم أكن أعتقد أن حامل باقات الازهار سيأتيني يومًا حاملًا نفسه عوضًا عنها.. - نظرتُ في عَينيها ذلك الوقت، كانت مُميزة بشكل عادي، كانتا تتمايلُ ما بين السماوي والرمادي وكأنها السماءُ مشبعةً بالغيوم.. ترددتُ كثيرًا قبل أن أخطو إليها، لتصيرَ مِن بعدها روتيني، نتقابل في الأسبوع مرتين أُهديها باقة ورد أزرق، وتهديني خاطرةً مشبعةً بالكلمات، الكلمات التي لم تستطع قولها فهي تكتبها! - أرواحنا الآن هَي روحًا واحدًا، فهو اليوم لم يُقدم لي الأزهار ولا كُل تِلك الهدايا، يُقدمُ لي اليوم خاتم زِفاف! لم تُظهر ملامحي ولا ملامحه تلك السعادة المكنونة في قلبينا، بقدر ما تُظهره نظراتنا الخجِلة التي نتبادلُها اليوم سرًا، كما لو كُنا حديثي عهدٍ بالعشق وهواه. - بِذلك الوقت لم أدرِ ما أفعل عدا أن أبقى وفيًا بعهدي إليها، فقد تعاهدنا للتوِ على أن نحلق في سماء الحُب بعيدًا جدًا عن صواعقه وعواصفه، فقط في سماءه الصافية، أنا وهيّ وحدنا! لم أتخيل قط أن يوافق والدها على منحي إياها.. فقد ذهبتُ إليه بخفة وأنا أطرق الباب ثلاثًا، جلستُ قِباله وتحدثتُ بغير رسمية: -"أبتِ، أنا طائرٌ منكسر الجناح، كبرتُ فما عدتُ أحلق مع أهلي تباعًا، أحتاج ابنتك فهي جناحيّ ومعها أستطيع الوصول للشمال وبل للف الكرة الأرضية، فهيّ سمائي وأنا قمر لن ارضى أن اضيء بغير سمائي." تحدث بصوته الخشن الوقور: -" بُني، لن أجد من يحتوي ابنتي مِن بعدي مثلك، فتِلك الصغيرة تهوى وأخشى أن تهوى فتسقط وأنكسرُ أنا، فأنت دواءها وقمرُ سمائها، أعرف ابنتي فلن يُبدد عتمتها سواك، انتما لبعضكما وخير ما فعلت جئت لتأخذها لا لتسرقها!" - [ بعد مرور أسبوع ] -أملزمٌ أنت بالذهاب؟ -نعم يا حُلوتي، تعلمين سابقًا أنني مُلتحق بالخدمة العسكرية -أخشى علي من فقدك! -وأخشى علينا فقد وطني -عِدني أنك ستعود، سالمًا غانمًا، لابمنكسرٍ ولا مصابٍ -على رس..لكِ، أعدك . . . . ومَرت الشهور، ولايزال الحال مجهول، تنتظرهُ كل يومٍ بشغف تتعطر وتتأنق وتنتظر السماء احتضان القمر! فَهي معتمة دونهِ، وحيدة وبائسة.. فراحت تكتبُ.. - عقاربُ الساعة مَا هُم إلا مسافات، رصيف خلف رصيف وبلادٍ تفرقنا، رحلت عني والفقدُ أخشاهُ، طمأنتني ألا مني ينال، وعنك الحال بات في الزمانِ مجهول. انتظرُ عسى أن تُضيءُ فتنيرُ معك السماء و تُنعش القلب الحزين، شهورٌ مرت دهور.. واسمك في العَنان مشهور، ناجيتكَ قبل الذهاب أن تعود، ووعدت وها أنت تختفي وتنسى أن تعود.. بدونك الحياة مَنسية، والنهاية ممضية.. طرقتُ على قلبك فلا مُجيب، وطُرقَ على قلبي فناديتُ باسمك ثلاثًا يا حبيب.. فعد إلي محبوبي وزوجي فأنت نبض فؤداي ومنير سمائي وحُب حياتي. - لم تَعرِف الفتاة أن صدق كلماتها قد تُعيد لها روحًا أفقدتها إياها الأيام، وذلك لطف الله الخفي بُنا يسمع مناجاتنا فيجيب، إنه هو السميع العليم. - . . عدتُ مِن الحرب بعد خَمسة أشهر، كان الاتصال هُناك ضعيف، فلا هواتف ولا بريد.. أخشى أنني نكثتُ بعهدي لها، حتمًا تغرقْ سمائي الآن في دموعها! أسرعتُ إلى المنزل محملًا بالأظرف التي لم تصل قط.. -طرقتُ ثلاثًا بطريقةٍ تعرفها-لكنها لم تَفتح! شعرتُ بالقلق فطرقتُ مرةً أخرى.. عِندما يأست، كنتُ على وشك كَسر الباب قبل أن تفتحَ لي بعيناها الحمراوتين. كانت تنظرُ لي بِصدمة قبل أن تقفز لاحتضاني وهي تبكي. -"لقد طرقتُ كثيرًا.." -"لم أعتقد أن الطارق أنت" -"أعلم أن عهدي منقضي، وأن روحي معذبةً بسببي، كفى بكاءً أرجوكِ، فها أنا قد عدتُ لأرتمي بين ذراعيكِ!" -"لقد كنتُ شاردة الذهن، وعِندما يأست من رحيل الطارق، فتحتُ الباب.." . . . وضَعت لي الطعام، وجلست قِبالي لكنها لم تَمد يدها لتتناول الطعام، عمّ الصمتُ بيننا حتى.. "جميلتي، هل ترين تلك الرزمة الورقية أعلى الطاولة؟ أيمكنكِ أحضارها؟" وضعتها أمامي بهدوء وكانت على وشك العودة لمقعدها قبل أن أمسك بذراعها.. "إنها لكِ، بالحرب لاتوجد متاجر لبيع الزهور، ولا وقت لشراء الهدايا.. لكنها أعظم ما أستطعتُ الخروج بهِ منها" - كانت مجموعة من الأظرف، داخل كل ظرف رسالة، أحرف كثيرة مُعبرة صادقة. وصف دقيق لساحة المعركة والأيام، لكنها رسائل برغم جهد صاحبها لم تصل.. لقد حاول التواصل معي ولم يفلح، لم يفقد الأمل والأجمل لم ينسى القمر سمائه فعرج يكتُب لها كلما تفرغ!. أعادت تلك الرسائل لنبضي الحياة. صعدتُ لغرفتي وأخرجتُ رزمة أخرى من الأظرف، وبينما كان يضع الصحون بالمطبخ ناولته إياها -"ما تِلكُ يا فؤادي؟" -"تِلك، نبض فؤادك.. الردود على أحرفك.. لم يُكتب لهم اللقاء، إلا منك وإليك" -"لايهم، فصاحبة الرسائل أمامي ومعي، ألايكفيني هذا!" -"هل سترحل مجددًا!" -"لماذا تسألين، نحنُ بخير.. لاداعي للقلق" صرختُ بحدة "بل هُناك، أخبرتني ألا أقلق لاختفائك واختفيت، أنا.. خائف..ة بدونك! قد هدأتُ وأكملت عِندما ترحل يتملكني الظلامُ والوحدة! أنا بدونك لا شيء! لاتتركني وحدي مرةً أخرى رجاءً.." -فاجئتني بكلماتها، فما كان مني إلا أني عانقتها بينما اسمح على رأسها وأقول: "أنتِ التي جعلتِ لي كيان، قبل أن ألتقيكِ وأبحر في زرقة عينيكِ كنتُ مجرد تائه.. عابر سبيل بلا وجهة، أنتِ بددتِ ظلام روحي وعزلتها! أنت هيّ الكل شيء في حياتي.. لا العكس. غَفت بعد نوبة بكاء طويلة، لم تتكبد حتى عناء الذهاب للأريكة. كَيف لتلك الروح النقية أن تستسلم للبكاء والآلم هكذا! حِينما أتذكر أنني سببٌ في هذا أكرهني جدًا وللغاية. - خفت أن احملها للفراش فتستيقظ، فنمتُ على الاريكة حتى أكون في محيطها حتى اذا استيقظت لم تفزع لغيابي.. فتلك الطفلة الان نائمةً بسلام أمام طاولة الطعام! [ بعد مرور يومآن ] -"عليكَ الاستقالة مِن الخدمة العسكرية!" -"تعلمين أنني لا أستطيع!" -"وأنا لن أتحمل بُعدك، أنا لا أعلم ماذا يَحدثُ هناك! قد تُصاب أو حتى تُقتل مَن يعلم! لا..لا.. لا أستيطع تحمل ذلك" -"والوطن ياحَبيبتي!، مَن سيحمي الوطن..!" -"هُناك الكثير من الشباب غَيرك، أنت ستبقى هُنا، ستعمل بوظيفة عادية وتعيشُ حياة عادية، وستبقى بقربي!" . . . كنتُ قد تَركتُها تهدأ قليلًا ريثما أفكر بأقناعها، صحيح أن في الحرب لا سلام، ولا آمل في عودة الذاهبين إليها إلا بإذن الله هُناك القَتل كَسكب الحليب، والجرحى ملؤ الساحات، والدم.. والدم يجري كأنهُ النهر في الوديان! أعرفُ أنها خائفة، لكن الوطن لايُعوض ولايُباع، إن تركناه للعدو غدر به! وإن تركناه لأنفسنا أضعناه.. سبيلنا في الحياة هو القتل، نحنُ ندافع عن أرضنا لا نقتلُ للهوى.. ماذا أفعل! تِلك الصغيرة عَليها أن تفهم عاجلًا غير آجل.. فهي على شفا حفرةً مِن واقع جديد ومر.. إن لم أمت اليوم في الساحة فربما غدًا في المعركة. قُلوب النساء ضعيفة! وعقول الرجال قوية.. فكيف نجمعُ القلبُ الضعيف مع عقل قوي؟ ألهمُ سداد دربٍ لاباطل فيه. تَنهدتُ وأنا أتناول الطعام لتسألني بقلق: -ماذا يجري؟ نظرتُ إليها بأطراف عينآي، لأعود بهما إلى صحني دون أن أجيبها -إن كنتَ تتجاهلني فأفعل ذلك بشكل صحيح! -لا أف..عل، كنتُ أفكر ألا يوجد حل آخر! ألن تكوني سعيدة حينما يتحرر وطنكِ؟ -لقد أخبرتك بالفعل بما لدي، رجاءً عليك أن تتفهم! -انتِ أيضًا عليكِ أن تتفهمي.. بدون الوطن لا سماء لنا نحنُ، وبدوننا لا حياة للوطن.. لا أستطيع! كنتُ أتحرك يمنية ويسرةً في ارجاء الغرفة، حتى ذهبتُ إليها.. جلستُ على ركبتاي بينما أُمسك يداها وهي جالسةً على الكرسي تنظر لي، تنتظر ما سأقوله وقد فعلت "أتغويكِ حياةٌ عادية في دُنيا فانية؟ أم نعيمٌ أبدي في جنان عالية! أنتِ تعلمين ما قيمةُ ذلك بالنسبة إلي! أنا لا أستطيع التضحيةَ بالوطن لأجل شيء بَسيط كهذا، أنتِ لاتتخيلين حَجم الموقف. أنتِ تريدين إعمار قطعة أرض صغيرة مُقابل ضياع القطعة العُظمى أفلتتَ يَداي وصعدت مهرولةً للغرفة، تَبعتها.. كُنت أعلم أنها ستنزعج مِن صراحتي. لكنها فاجئتني، كانت تُمسك مقصًا وتضعه على خصلاتها وتقول بنبرةٍ حادة: -"إذن سأذهب ُمعك، وإن كان مظهري هذا ما يمنعني فسأتخلص منه!" أقتربتُ بروية، بينما أنزل يدها وأسحب منها المقص. ربتُ على رأسها وأنا أقول -"لقد ميزَ الله تعالى المرأة بجمال شعرها، ولو أرادكنّ للقتال لخلق فيكم قوةَ البدن، تِلك مُهمتنا نحنُ الرجال، عليك فقط تأدية دورك، أبقي هُنا أحمي منزلنا، وانتظريني بهدوء وحسب ريثما أنقذ وطننا. أكملتُ مبتسمًا هذا فقط ما أريدهُ منكِ وحسب." لم أدر بنفسي إلا وأنا ابتعدُ بهدوء نحو الخزانة لأجهز له حقيبته. ليس وكأنني لا أعرف قيمة الجهاد والدفاع عن أرضنا، لكنني فقط لم أُرد أن أكون وحدي في دربٍ لا أعرفه، لقد سلكتُ تِلك الدروب لأجلهِ، وأصبحتُ زوجة لأجلهِ، فلا أريد أن أصبح أمًا وحدي، أن أصبح أمًا لطفل لا أعرف مصيره.. أأخبره أن والده شهيد؟ أم مقاتلٌ نبيل؟ أم مواطن شريف يَبيعُ الدنيا ويشتري الوطن! حملتُ حقيبتي وها أنا في طريقي إلى دربٍ وسيع الموتُ فيه هو الجائزة الكبرى! ولكنني لمحتُ في عيناها شيئًا جديدًا، لا.. لم يكن الحزن، بدا لي أشبه بالحيرة؟ فقررتُ تبديدهُ قبل أن أذهب فقلتُ -"يَا نبض الفؤاد، إن أطلتُ الغياب ما تفعلين؟" -"لاشيء، سأنتظرك!" -"لا! بل عليكِ بـ (لا حول ولا قوة إلا بالله) فَهي ستجرني إليك جرًا وإن كنتُ عائمًا في بحرٍ مِن الحِمم! اللهُ تعالى كفيلًا لكِ وبذرياتنا، فلا تيأسي ولا تحزني، فكلنا ماضون.. وأنتِ دربكِ طويل و ربما لم يأتي آوانه بعد، لكنه درب عظيمًا كوني واثقةً مِن ذلك" هممتُ بالرحيل قبل أن تستوقفني عِند الباب وتشد ذراعي وتقول بلهفةٍ: -عدني.. عدني لن تنساني! ربتُ على رأسها وانا ابتسم وأقول: -وهل ينسى المرء نفسه؟ [ بعد مرور 6 أشهر ] احتدمت الاشتباكات عند الخطوط الامامية، لم تصلني مِنه أية رسالة.. كنتُ أشاهد الاخبار كُل يوم لاتابعه مِن بعيد. في الآونة الأخيرة كان قلبي يَنقبضُ بسرعة، أبي والطبيب كانا يقولان أن ذلك بسبب الحمل وأنني في الشهر السادس، لكن كلا! ذلك ليس بسبب الحمل.. ذلك لأن روحًا لي تسيرُ على حبل الموت بخطى غير متوازنة. وعندما ظننتُ أنها النهاية وأن طفلي سيولد لأبٍ شهيد، تذكرتُ "لا حول ولا قوة إلا بالله" ظللتُ أرددها لأسبوعين، أعلم أنها ليست مُدة كآفية لَكن ثقتي بالله تكفي. . . [ بعد مرور شهر ] وقفتُ بثقل شديد، وأنا أضع يدآي على بطني وآخرى على ظهري لأستند إلى طِفلي وأسندهُ إلي!، كان البابُ يُطرق مراتِ مُتتالية ولكن يبدو أن الطارق قد سأم مِن الانتظار.. أشعر أنني ساموت قبل أن أصل للباب! عِندما فتحتُ الباب كان الطارق شابًا في مُقتبل العُمر يرتدي ثياب الجيش. يلهثُ بشدة ويدآه عليها بعض الدماء والجروح وعلامات البارود وغيرهآ. -"أنتِ زوجة الجندي وليد؟" أجبتهُ باندفاع -"هل حَدث شيء له؟" -"إنه..إنه بالخارج مُ..صآب -لهث- لَقد استطعنا الخروج مِن الساحة برفقة المَدد، لذا سنقوم بحمله لغرفته، فهل يُمكنك افساح الطريق لنا!" حملناهُ وصعدنا بهِ ووضعناه فوق الفراش، كانت اصابته بالغة، فثيابه ملطخة بالدماء كما أن وجهه ينزف بشكل كثيف، نحنُ لم نعرف بعد أصيبت عينه أم رأسه! لقد اتصل أحد رفاقنا بالطبيب.. لقد أوشك على الوصول. لكن المصيبة كما يقولوآ "إذا حلت فقد عَمت" وبالفعل فنحنُ لم نكتفي بصديقنا المصاب وعودتنا من ساحة المعركة بل إن زوجته تلد الآن! لم نعرف ما نفعل، نسألها عن أي شخص قريب نتصل به فلاتجيب. انتهى الأمر بطرقنا على الجيران وارسالها المشفى مع جارتها، عالأقل بوجود امرأة معها ذلك سيطمئنها قليلًا ريثما يتفحص الطبيب جسد زوجها ويكتب تقرير الحالة - كنتُ بالمشفى حينما فتحتُ عينآي على بُنيتي الصغيرة، جاءت الممرضة لأجل اكمال عملية تسجيل الفتاة وكنتُ قد نسيتُ أمر والدها المصاب بالمنزل، سألتني: -"هل اخترتِ اسم الطفلة؟" -"نعم، حَنين!، حَنين وليد عيسى عبدالتواب" -"اسم الام مِن فضلك؟" -"سآرة عبدالله مأمون" -"حسنًا كُل شيء جاهز الآن، حَنين اسم جميل، لكن أخشى أنكِ ستبقين هُنا بداخل المشفى حتى الانتهاء مِن الفحوصات، هل معكِ مرافق؟ -"لا أعلمُ حقًا، لكن جارتي كانت معي بالسيارة لا أعرف أين ذهبت!" -لاتخافي الولادة كانت ميسرة والأمور بخير، فقط نريد التأكد مِن سلامتكِ، تبدين هزيلة ولقد نزفتِ قليلًا بغرفة العلمليات، نحنُ أهلكِ وإذا احتجتِ لأي شيء فأنا هُنا" . . . رَكبوا لي المحاليل طوال ثلاثة أيام، بقيتُ بالمشفى رفقة جارتي. بينما زوجها كان يتصل كُل يوم ليطمئنني على وليد، لكنُهُ كان يقول أنه لن يستطيع الابصار بعيناه اليُسرى مرةً أخرى إثر تِلك الشظية، كما أن الرصاصة التي أصابت قدمهِ جعلتهُ قعيدًا، لكنهُ يتناول طعامه بوقته وكذلك الدواء. مهما كان وضعهُ الصحي، يَكفي أنه لم يغادر الحياة بَعد.. وكأنها سُرقت مِنه لكن جزء بسيط وغدًا جزء آخر، وهكذا حتى ياتوني بمنيتهِ.. لقد أخبرتني قبل أن ترحل أن لكلٍ مِنا دربه الخاص وأن دربي لم يحن آوانه. وكذلك دربك نحو الخلاص، لايزال بعيدًا جدًا والله علام الغيوب. - -"وَليد لم تنم مُنذ الأمس! دع عنكَ حَنين وأخلد إلى النوم." -"لا لن أفعل، فالشخصُ الذي عليه النوم هو انتِ، ثم حَنين اسم لطيف للغاية! -"لأنك بِكل مرة ستتركني فيها سأشعرُ بالحنين إلى صوتك وشخصِك والأيام التي مَضت معك، تِلك الطفلة جزء منِي ومنك، وهَي مَن ستحمل ذكرياتنا سويًا في قلبٍ واحد، لذلك حَنينٌ مِنكَ وإليك. انظر كيَف جعلتني اتحدث وانسى الموضوع الاهم!" -"ما كنتُ لأحملكِ عبئي قط، كان الموت أهون لي مِن أن تعيشي نصف ذكرياتك معي وأنا مُصاب بالكاد أراكِ بنصف عين، لا أستطيع النوم بشكل اعتيادي كما السابق، هل ستكوني قادرةً على مساندتي للفراش؟ لاتزالين صغيرة وعظمكِ هش سآرة. لذا اخلدي أنتِ للنوم، ودعيني لمشاكلي فأنا صاحبها وأنا أقدرُ عليها أخذتَ تسيرُ الكرسي ناحية غرفة الاستقبال، كنتُ أحاول استفهام ما يَحصل لكنها لم تدع لي فرصة. ثبَتت الكرسي قبل أن تأخذ مني طفلتنا، وتجعلني اتسندُ عليها حتى جعلتني اتمددُ على الاريكة، وقبل أن أفتح فمي أحضرت غطاء لاهو بالثقيل ولا الخفيف، يليقُ بخاريف المدينة. وانتهى الامر بي نائمًا بينما هي تجلس قِبالي على الكرسي المجاور مع الطفلة. عِندما استقيظتُ بالصباح الباكر، كانت قد أعَدتْ طاولة الطعام وملأتها بُكل تِلك الاصناف بحجة أنني مصاب وبحاجة للطعام، كانت بالمطبخ تُحضر بقية الصحون بينما قد حملت حَنين على ظهرها في ذلك الرباط الخاص بالأطفال، كنتُ أحاول الوصول للكرسي المدولب لكنهُ بعيد وقبل أن أمدَ يدي كانت هي بجانبي تشدُ يدي وتسندني معها حتى اقعدتني عليه، وبينما نتناول الطعام كانت هادئة للغاية قبل أن تقول: "أدعك لمشاكلك وحدك؟ هه! لقد ظننتُ أننا روحًا واحدة، وأن القمرَ لن يضيء دون سمائه، ولن تحيآ السماء بدون القمر، لقد كنتُ اعتقد أنني جناحيكَ وانكَ نبض فؤادي، فكَيف بالله أتُرك قمري ينطفىء هكذا دون أن أتحركُ ساكنًا؟ سكتُ قليلًا قَبل أن أقول -بحدة- كفاكَ مزاحًا! انتَ لست وحدك ومشاكلك تعمُ علينا جميعًا! انتَ لست زوجي فقط أنت الجندي الذي سيحررُ الوطن ولذلك سأحرصُ على أن تعود بصحة جيدة للساحة مرةً أخرى! وحينها لن اسمح لك أن تعود ليََ مصابًا، لن أقبل إلا بشيئآن! إما الوطن وإما المَنية الكُبرى، أنا أريدُ ذلك النعيم الابدي.. انتَ تعرفُ ذلك!" . . ذَلك كان كفيلًا بتَحسن حالتي، فالروحُ لم تكن يومًا في الصحة، بل في الكلام الطيب واللهِ! فهاهي الكلماتُ التي أردتهُا منذُ زمن ترى النور، الفِكرُ التي أردتُ إياها أن تعرفهُ وتفهمه تنطقني إياه، هذا أجمل بكثيرٍ مِن عودة عافيتي وصحة جسدي، هذا يُقوي قلبي وهذا يكفيني. أثناء رحلة علاجي، علمتها كيفية حَمل السلاح واستخدامه، فنحنُ لا نعلم ماذا سيحدُث بالغد! حال العاصمة متقلب، ويقولون أن الخطوط الأمامية فشلت في التصدي للعدوان وأنه يزحفُ ناحية العاصة. ذلك ليس أسوأ الأخبار، ولكنه ليس أفضلهم.. تم تغير الكتيبة التي كنت معها فمعظمهم مصاب أو قد فارق الحياة، حالي كحالهم مثيرٌ للشفقة. وقبل أن أعود للساحة بشهرين، وبعد مناقشات حادة عديدة مع الطبيب وسآرة انتهى الأمر باقناعهم أنني لن أتخلى عن الوطن مهما حدث وإن بُترت قدمآي!. لكن المفاجأة أن قائد الكتيبة قام بتغير موقعي بسبب اصابتي محولًا إيآي للعاصمة، بالتحديد في بريد الجيش قالوا أنه أخف شيء لأصابتي، فبالرغم مِن العلاج الذي تلقيته وجلسات العلاج الطبيعي، لكن لا أزال أواجه صعوبة في السير عليها بشكل طبيعي كنتُ أقوم بتسليم برقيات العزاء لأهالي الشهداء، تصلنا الأخبار مِن مقر الجيش ونقوم نحنُ بدورنا في البريد بكتابة البرقيات وتجهيزها وكتابة العنوان وتوصيلها، لم يَكن ذلك صعبًا للغاية بقدر اخبار أحدهم أن ولدك قد قدمَ روحهُ فداءً للوطن، ولكَ ولي وللكرآمة. البعضُ كان صابرًا مؤمنًا بقضاء الله -وفي الحقيقة كلنا مؤمنين- لكن ليس الجميع متينًا ليتحمل نبأ موت المقربين إليه. مرَ على هذا الحال سبعةَ أشهر - كُنا نسلم برقيةً أخرى، الحي الثاني حيثَ يقطن والدا الجندي "زين"، وبينما كُنا في طريقنا لطرق الباب بدأ إطلاق النار.. كان هُناك بعض الاشتباكات في الجوار ويبدو أنهم لمحوا اثياب الجيش التي نرتديها فباغتونا اختبئنا خلف السيارة بينما يستعد القناصة فوق المنزل والزملاء لرد الهجوم، وبصفتي أعلاهم رتبة، أمرتُ اثنين مِن الجنود بحماية وليد بينما يقاتل الثلاثة الآخرين بجانبي.. وبعد وقت طويل، وبعد ان نفذت منا الذخائر نظرتُ حولي لأجد الجميع مصاب ومنهم مَن اصابته الرصاصة في كَتفه.. ووليد.. وليد قد أصيب بالرصاصة في قلبه، بجانبه الايسر، ركضتُ ناحيته واضغطُ على جرحه لأيقاف النزيف وأتأكد مِن كونه يتنفس لكن ذلك كان ضيعفًا للغاية بالكاد كان يتنفس ونبضاته تضعف شيئًا فشيئًا.. لم أستطع فعل الكثير لهُ فأنا بدوري مصاب في قدمي.. لم يَصمد طويلًا فارق الحياة بعد دقائق مِن اصابته، لم أتحمل ذلك فاستلقيتُ بجانبه وانا الهث، وكنتُ قد نسيت اصابة قدمي، وأما المتعدين تمت اصابة الكثير مِنهم وقد فارق بعضهم الحياة أيضًا، تحولت المنطقة لساحة دماء! الشارع أصبح قانن بالفعل. كُنا نعلم أن الموت قريبٌ مِنا، لكنني لم أتخيل أنه بينما نحنُ ذاهبين لتسليم برقية عزاء أن نستلم برقية عزاء صديقنا! بالطبع تكفل قائد الكتيبة بالذهاب إلى زوجة وليد، مطلعًا إياها على خبر وفاته، ولم يكن الأمر بالسهل فهي على غير العادة قد تبسمت وهي تقول "لقد رحل إذن؟ أرى ذلك.. أنا سعيدة، سعيدةٌ للغاية". جميعنا ظننا أنها ستنهار وربما قد تُقدم على الانتحار، تقبلت الخبر بكل هدوء.. هدوء مريب لم نعرف ماذا يُخبىء لنا. - كانت تِلك النهاية، نهايتي أنا وبداية وُليدٍ جديد.. ففي الحياة الأخرى سيولد كشهيد! كشهيد دافع عن وطنه -ولو كان ذلك قليلًا- لِكنه حَمل الإرادة والايمان داخله دومًا، أعرفُ أن فراقه صعب لقد راودتني الكثير مِن الأفكار سابقًا ولكنني لم أرد أن أقلق وأقلقهُ معي ففي كُل الأحوال كان يتجول في صندوق ضيق كفأر يُحدق بهِ الموت مِن كل زاوية، أنا سعيدة.. وسأظل سعيدة فاليوم يُزف زوجي للجنان وأما تكفيني مِنه قطعة أصغر؟ فحَنين منه وإليه. ولن أتوقف عن الانشاد لها "يا فرحتي يا فرحتي، أبي شهيدُ الدعوةِ، أنا ابنه يا أخوتي سنلتقي في الجنةِ أنا وأنت يا أبي، سنلتقي في الجنةِ أنا وأنت يا أبي، يا فرحتي يا فرحتي".. واما الآن؟ علي إكمال مسيرته والحفاظ على ارثه.. وتربيته طفلتنا لتكون "البديل لوالدها"، تِلك بداية قصة أخرى، قصة "حِنين". |