(23) كان البيت الذي عشت فيه مذ وُلدت، مُدمًّرا عن آخره، مجرد حطام! نظرت له بانهيار. غمغمت بدون تصديق: أين رقية.. أين أمي وأبي؟ ارتخت قدامي وجثوت على ركبتي أرضا، صرخت: كلا.. تسارعت أنفاسي وأنا أفكر بحرارة كيف أتصرف، قمت مسرعًا أتلفت حولي بجنون.. رأيت بعض الناس في الشارع ينظرون إلي بدهشة، عرفت أحدهم، كان أحد الجيران الذي يسكن هنا. ركضت إليه هاتفًا بهلع: أنت مُحسن؟ محسن صاحب محلّ الساعات أليس كذلك؟ أين هم؟ أين عائلتي التي كانت هنا؟ حدّق إلي بحدة وتساءل بجمود: أنت بلال، أليس كذلك؟ أجبت بلهفة وأنا أهزّ رأسي: بلى.. أنا هو، أين أمي وأبي وأختي؟ لم يردّ وهو يكمل نظراته الناريّة باتجاهي، ولاحظت نظرات الناس الذين وقفوا تتشابه، كانوا ينظرون لي بدهشة وصدمة، وبدأت تتضح في وجوههم علامات حقد وغضب.. قال أحد المسنّين بلهجة قاسية: إنه ابن المحتال.. ابن الـ.... ... أمسكوه! لم أعلم ماذا أفعل، خصوصا عندما بدأ الناس يهجمون علي تلفتت حولي بضياع وأنا أهتف: ماذا تريدون؟ أنا أسألكم سؤالا واحدًا.. أين هم؟ أين ذهبوا؟ لكن أحدا لم يجب، سمعت فقط شتائم كثيرة تنطلق من أفواههم وكلها تقصدني.. وجدت أحدهم يمسك يدي يحاول تكبيلي، لكنني ضربته بعنف وقررت إطلاق ساقي للرياح، سوف أهرب من هؤلاء الناس المجانين! أحدهم سرق حقيبة كنت أمسكها بيدي، كانت تحوي غطاء صوفيًّا ومعطفين، لأدفئ أختي. صرخت بغضب: هيه.. ماذا تفعل أيها الأحمق. ركضت خلفه أحاول استعادتها فقد سحبها مني على غفلة، هجم عليّ اثنان ومنعاني من اللحاق به قائلين: سوف نسترد نقودنا! صرخت باستنكار: أية نقود أيها الأغبياء؟ إنها نقودي أنا! أخذ ثالث مني بقية الحقائب التي أمسكها بيدي، وجاء البقية زادوا الضغط عليّ لكيلا أتمكن من اللحاق بهم أو الدفاع عن نفسي! صرخ رجل ممن يكبّلونني بحقد: والدك كان يملك ثلاثة ملايين جُنيه تحت بيته أيها القذر! كلها من أموالنا.. كلها قد أخذها بدافع الشفقة، لقد كان أغنى واحد في القرية دون علمنا! قلتُ بألم ويدي يمسكونها بطريقة حمقاء مؤلمة: وما ذنبي أنا! لست مسؤولا عما فعله ذلك الرجل! شد أحدهم شعري إلى الأعلى وقال بعنف: بل أنت المسؤول، لقد فهمنا أنك رحلت بالتأكيد لتخبئ بقية الملايين في البنك، وها نحن ذا نراك بأعيننا تعود وكأنك من أطفال الطبقة الغنية! أهناك دليل أكثر من هذا على احتيالك؟ قلت بصوت مبحوح ثائر: كلا! هذه الأموال كلها من عمل يدي! لقد عملت خارج هذه القرية لمدة سنتين وكسبت أجري.. كفوا عن ذلك! لكنهم لم يكفوا، بل زاد الرجل الذي يُمسك يدي الضغطَ عليها وهو يقول بغضب: أنت تكذب حتما، وهذا هو الطبيعي، أنت لن تقول الحقيقة! كان يجب أن نعرف أنكم عصابة! كان عدد كبير من الرجال حولي، واحد قوي يُمسك يدي ويكبّلهما خلف ظهري، والآخر يشد شعري للأعلى لا أدري لمَ؟ والبقية يمنعونني من التحرك بأي شكل، وشعرت بأحدهم يفتح حقيبة ظهري، قلت بغضب: لا.. هذا يكفي.. لا دخل لكم بحقيبتي...! لم يعرني أحدهم أي اهتمام، وتم تسريب كل شيء من حقيبتي إلى أيديهم.. كنت أسمع تعليقاتهم وأشتعل نارًا دون أن أقدر على التحرك: يا له من هاتف رائع، هذه المذكرة سوف تنفع ابني، القلم يبدو رائعا، هذه المحفظة فيها عدة آلاف جنيه، هذا دليل أنه محتال، كيف لطفل أن يملك هذا المبلغ! أيها الحقراء، الهاتف أعطانيه بكر لأطَمْئِنَه عليَّ، المذكرة والقلم هديتان من عبير، هذه الأموال كسبتها من سنتين عمل! فتحت فمي وأنا عازم على ردّ عدوانهم بأي شكل، عضضت أقرب الأجسام مني بكل قوتي، فابتعد عني صارخًا بألم، ركلت الرجل الآخر الذي يقف أمامي، فتألم وابتعد، أما من ورائي، الرجل القوي الذي يُمسك يدي، فقد ضغط على يدي بعنف وأمالها للخلف، كنت أئنّ ألما، حتى سمعت صوت طرقعة العظم، وخُيّل إلي أنها كُسرت! من شدة الألم توقفت عن الصراخ والأنين، اتسعت عيناي عن آخرها وراحت الدموع تنزل منها بانتظام رغمًا عني، جثوت على ركبتي وأنا أصارع الوجع ولم يلن قلب الرجل الذي خلفي لي.. سمعت صوت رجل عجوز: هذا يكفي، اتقوا الله، كسرتم يد الفتى! ترك الرجل يدي أخيرًا فانهرتُ أرضًا، كنت غير قادر على الوقوف بسبب الألم، لكنني سمعت الرجل العجوز مرة ثانية: لمّ تأخذون الأموال والأغراض الشخصية؟ ألا يكفيكم ما فعلتم به! اتركوا شيئا له يا عديمي الرحمة! زمجر أحد الرجال وهو يهمّ بالرد عليه، حصلت بعض المشادّات بينهم ولم أكن أفهم من يتكلم أصلًا، حاولت الوقوف لكنني لم أقدر، شعرت بأشياء تُرمى علي، لقد كان القلم والمذكرة..! أما الهاتف فقد أخذوه للبيع، وأما الكتب التي أخذتها من مكتبة بكر فمازالت في حقيبتي، الحمد لله لم يقتربوا منها! من شدة القهر الذي أشعر به، نظرت إلى آخر رجل منهم وصرخت: أنتم أخسّ رجال في الحياة! أخذكم الله وأراح العباد منكم! ثارت ثائرته وهو يقول: أنت آخر من يتكلم أيها الـ... ثم تلقيتُ ركلة قوية في وجهي أرغمتني على السكوت وابتلاع الغصة التي بداخل حلقي! مرت بضع دقائق استنتجت فيها أن جميع الرجال قد رحلوا، فتحت عيني بحذر، حاولت الجلوس، وجدت العجوز يقترب مني قائلا بقلق: أأنت بخير يا بني؟ لم أردّ وأنا أدعو عليهم في داخلي، بالتأكيد سيأخذ الله حقي منهم.. ولو لم يكن في الدنيا ففي الآخرة بالتأكيد.. المهم الآن كيف سأقابل رقية؟ أنا حتى لا أعلم أهي حية أم ميتة! أصابني الهمّ والنكد وأنا أفكر بذلك الأمر بينما العجوز يناولني منديلا، ويقول باهتمام: جفف هذه الدماء التي تنزف من أنفك! لمست أنفي فإذا هو غارق في الدماء، لابد أنها من ركلة هذا الوغد! أثناء تجفيف أنفي قلتُ ببحة للعجوز: أشكرك جدا.. جُزيت خيرًا. ثم انشغلت بتفقد حقيبتي، حركت يدي بصعوبة مع الآلام المنتشرة فيها، إنها لم تُكسر، فلا أزال قادرًا على تحريكها، لكنها تؤلمني كثيرا. لقد أخذوا المال، والهاتف المحمول، والأغطية الصوفية والمعطفين اللذان كانا معي. أمسكت رأسي وأسندتُها إلى الخلف، نظرتُ إلى السماء الصافية، كنت مُحبطًا ومقهورًا، تبًّا، ليتني لم أخرج من بيتك يا دكتور بكر.. أنا آسف أنني لن أُطمئنك علي بعد اليوم! يبدو أنني على وشك بدء مرحلة جديدة من حياتي في هذه القرية البائسة. انتبهت إلى أن العجوز قد اختفى! لمَ لمْ أسأله عن رقية؟ فربما كان يعرف عنها شيئًا. آه يا لغبائي.. آه أنفي يؤلمني >__< .. ويدي أيضا! كم أتمنى أن يكون هذا حُلما.. الشيء المضحك في الموضوع، أنه لا مكان لي هنا! ولا أعلم أين سأذهب، وطريق القرية الزراعية لا أعرفه، فقبل سنتين حين نويت الهرب والانتحار لم أكن مركزًّا في الطريق. حسنٌ، حتى ولو لم يكن لي مكان، فلابد أن أقوم عن هذا الشارع القذر أمام أطلال بيتنا القديم! عندما وقفت لاحظت أربطة حذائي المفككة، هممتُ بالانحناء لربطها، ولكنني فوجئت بجسم صغير يدفعني دفعا إلى الخلف حتى سقطت، وصوت فتاة باكٍ: بلال! احتضنتْني دون أن أعرف من هي؟ لكن الصوت.. صوت مألوف، أما جسمها فغير مألوف. كانت تبكي بصوت مرتفع، وتلتصق بي وكأنها خائفة أن أطير، كانت تردد: لا أًصدق.. أنك أمام عيني! ثم رفعت وجهها أخيرا، لأراها، وجهها الأبيض المليء بالشحوم السوداء والتراب، وعيناها البنيّتان الواسعتان اللتان تُمطران دموعا غزيرة، شعرها الناعم الأشعث المتسخ غير المرتب، كانت نفس ملامح أختي، إنها.. رقيّة...! _ في الحقيقة لم أكن أملك خيارًا آخر سوى احتضانها والبكاء معها، لقد كنت أفتقدها كثيرا، آه لقد تغيرتْ، إنها الآن في الخامسة عشرة من عمرها، ازدادتْ عيناها حزنًا ووجومًا، وهذا ما زادني ألمًا وندمًا أني تركتها! وسط دموعنا معًا أبعدتُ رأسها بحنان ونظرت إلى عينيها مليًّا، سألتها بحب: رقية.. أخبريني كيف حالك؟ أأنت بخير؟ ابتسمت ابتسامة دامعة وهي تهز رأسها أي نعم، لكن منظرها لم يكن يُوحي أنها بخير.. شممتُ رائحة نتنة عفنة صادرة منها ومن ملابسها، بسبب نزيف أنفي وضعت ذلك المنديل، ولا أكاد أتحمل الرائحة، فكيف إذا كنت أشم بشكل طبيعي؟ يا إلهي، كم أنا أحمق، أفكر في هذا وهي أمامي الآن بهذا الشكل! هتفتُ بلهفة: رقية.. أخبريني ماذا حدث لكم؟ ولبيتنا؟ مسحتُ دموعها التي تلوثت لمّا جرتْ على سطح خدودها المتسخة، فنزلت دموعًا سوداء على أصابع يدي! ثم همست بصوتها المرتجف الحزين: لقد ماتوا.. مات أبي وأمي.. اتسعت عيناي عن آخرهما، وأنا أنظر لها غير مصدّق ما أسمعه، هتفت بذهول: كيف؟ كيف ماتا؟ ازداد تدفق الدموع في محجريْها وهي تقول بانهيار: لقد ماتا في حادث سيارة، كانا ذاهبين للقاء تلفزيوني حيث يجمعان المزيد من التبرعات! بعد اللقاء الأول الذي أجروْه مع أبي، طمع في تبرعات ملايين المشاهدين فحاول بشتى الطُرق لإعادة هذا اللقاء.. وقد حصل، لكن.. ثم عضّت شفتيها بألم وهي تُطرق برأسها، أنا أتذكر عندما رأيت أبي في التلفاز مرة، كانت هذه المرة الأولى، وبعدها بالتأكيد انهالت عليه التبرعات من كل صوب وهذا زاد طمعه.. تبًّا لك يا أبي، فقدت حياتك في سبيل جمع المال الذي لم تستفد به شيئا! قلت بصوت بائس مهزوز: إذن.. كيف تدمر البيت؟ وأنت أين كنتِ؟ أكملت القصة بارتعاش قائلة: لقد تركوني في المنزل، وأفقت على كارثة موتهما، تعاون رجال القرية في دفنهما، ثم نظروا في حالي، وتعجبوا كثيرا أنني لا أملك أي فلس في المنزل! رغم كثرة التبرعات التي انهالت علينا بعد اللقاء التلفزيوني.. أخذت نفسًا عميقا وهي تعقد حاجبيها وتقول باكتئاب وحقد: وحينئذ، فتشوا البيت أملًا أن يجدوا ما خبئه أبي، وكانت المفاجأة أنهم وجدوا صفائح في سرداب البيت مليئة بمبالغ كبيرة من المال، وعندما عدّوها كانت ثلاثة ملايين جنيه تقريبًا! نظرت بدهشة شديدة وأنا أتذكر كلام ذلك الرجل، إذن فهذا هو سبب تهجمهم علي بهذه الطريقة، سألتها باهتمام: وماذا حصل بعد ذلك؟ قالتْ: لقد صبّوا جام غضبهم عليّ بالتأكيد، وأخذوا الملايين كلها ولم يُبقوا لي فلسا، بل ودمّروا البيت رأسًا على عقب، ولم أتمكن من العيش فيه. سألتُ بحيرة وقلق: وأين تعيشين الآن يا رقية؟ قالت بسخرية مريرة: في الشارع بالطبع، هناك عائلة أعطتني بعض الأخشاب والطوب، بنيت لنفسي غرفة صغيرة جدا في مؤخرة منزل أحدهم، وجعلت سقفها بالكرتون الورقي، حنّت علي بعض العائلات أيضا لما جاء الشتاء ونزل المطر غرقت غرفتي، فجاء رجل منهم وسقّف غرفتي بالخشب، ماتزال نقاط المطر تنزل عليها ولكنها جيدة. نظرت لها مبهوتا لا أعلم كيف أردّ، قلت بصوت خافت: منذ متى تُوفي والديّ؟ ابتسمت ابتسامة باهتة وقالت: عشرة أشهر. يا للهول، عشرة أشهر وأختي على هذه الحال! في الوقت الذي كنت فيه آوي إلى فراشي الدافئ كانتْ هي تنام دون غطاء أو فراش حتى، كانت تبتلُّ إذا أمطرت السماء ولا تجد من يجفف لها ملابسها، كم هذا قاس! أمسكتُ رأسها ووضعته على كتفي وأنا أقول بندم مرير: أنا آسف.. اعذريني.. أعلم أنني قصرت كثيرا معك، آسف جدا، ولا كلمة تستطيع أن تعبّر عن مدى أسفي وفي نفس الوقت أسفي لن يفعل شيئا لك يا رقية.. ثم نظرت إلى عينيها الباكيتين مجددا وأنا أقول بحزم: أعدك.. سوف أكون معك، بدءا من الآن! لن أتركك أبدًا! _ |