أعتذر على التأخير كنت مرهقة جدا بالأمس ولم أستطع وضعه في يوم السبت >_< (22) بعد صلاة العشاء أغلق بكر متجره، واتجه إلى البيت، كان متوقعًا، احتمال 99% أن بلال قد عاد إلى المنزل! لكنه صُدم لما رأى عبير هي الوحيدة في البيت، تنظف منضدة التلفاز التي كانت هي وبثينة تأكلان عليها الحلوى والفشار.. وقد عادت بثينة إلى بيتها الآن. سألها بكر بتوتر قلق: ألمْ يعد بلال؟ قالت في توتر: لا.. لم لمْ يعد معك مثل كل مرة؟ قال لها متنهدًا: لقد أطلقت سراحه! قالت بدهشة مصدومة: ماذا؟ شرح لها ما حصل، فساءت حالتها وهي تهتف بفزع: أبي.. لم تركته هكذا؟ ماذا يكون قد حصل له الآن! هدأها بلطف: اهدئي يا عبير.. إنه كبير ويعتمد على نفسه، لا شك أنه أراد الخلوة بنفسه قليلا! قوسّت فمها وهي تقول باكية: وإذا لم يعد أبدًا؟ أين ستجده يا أبي؟ نظر بكر إليها في حذر وكأن احتمالها صدمه، لكنه قال بثبات: سوف يعود.. لقد أخبرني بذلك! جلست بخيبة أمل ثم قالت برجاء: أبي أرجوك ما رأيك أن تبحث عنه؟ ربما حصل له شيء.. قلبي يؤلمني عليه، هل نسيت أنه كان مغرما بالانتحار؟ ربما يقتل نفسه! تنهد بحرارة وهو يحاول إزالة تلك المخاوف التي تصورها له، وحدّثه قلبه أن ما تقوله ابنته صحيح! فأربعة شهور ليست مدة كافية ليتأكد أن بلال من المستحيل أن ينتحر بعد أن كان مُغرمًا بالانتحار! نظر إلى ابنته القلقة وهو بقمة الحيرة، ثم قرر أخيرًا البحث عنه. خرج من البيت وهو يحاول تخمين الأماكن التي يمكن أن يكون فيها بلال، ظل يمشي في الطريق ويراقب، حتى اهتدى أن يبحث بين الأشجار، وفجأة لمح ذلك الجسد المستلقي تحت الشجرة على ضوء عمود النور في الشارع.. إنه المكان الذي وجه فيه بلال أول مرة، وأنقذه من الانتحار أيضا، وهذه المرة الثالثة التي يجده فيها. استولى عليه القلق وهو يراه ممددا على الأرض، لكنه لم يكن نائمًا، فقد كانت الدماء تملأ أكمام ملابسه! تحسس معصمه وقلبه ينبض بعنف، فوجد وريده مقطوعا.. نظر إلى وجه بلال الشاحب بانهيار وصدمة مغمغما في ذهول: لقد انتحر! _ جفل بكر وهو متسمر في مكانه يتذكر ذلك الموقف، عندما كان يتناول الطعام معه نظر إليه متسائلا: أنت بخير أليس كذلك؟ قال بلال باستغراب: ماذا تعني! أنا أمامك! قال بلطف: أعلم.. أقصد أنك من داخلك بخير! أنت.. ثم توقف قليلا وهو ينظر بتردد وكأنه محتار فيما يقوله، ثم قال أخيرا: أعني.. أنك لن تنتحر إذا سنحت لك الفرصة؟ نظر له بدهشة، ثم قال بلا مبالاة: لا أدري.. ربما.. لا وربما نعم. هكذا إذن.. لقد قال ربما لا وربما نعم! هل هذا ممكن؟ بعد أربع شهور من المحاولة، لقد فشل بكر...! همس لنفسه بمرارة: ربما أنا فعلا طبيب فاشل لا أصلح لمداواة المرضى، ربما تلك الفتاة انتحرت فعلا بسببي! رفع يده المليئة بالدماء، ونظر إلى السماء برجاء، ثم وضع إصبعه المرتجف عند رقبته ليرى إن كان هناك أمل أخير أنه مازال حيًّا! خّيل إليه أنه شعر بنبض ما! أبعد يده بسرعة وهو ينظر بصدمة، وضعها على قلبه غير مصدق وهو يقول: لا.. هل أهذي! أعاد الكرّة مرة ثانية وأعاد حس نبضات قلبه، هذا مؤكد، بلال لديه نبض ضعيف جدا! مقارنة بقلب بكر الذي ينبض بقوة فائقة في الثانية الواحدة! لم يصدّق خبرًا وهو يحمله بحرص إلى سيارته المركونة أمام البيت. كانت عبير قد فتحت باب منزلها وظلت تراقب بجانبه وهي تضع يدها على قلبها من شدة القلق، بمجرد أن رأته محمولًا على يدي بكر حتى صرخت بفزع وهي تكتم شهقتها لمرأى الدماء التي تُغرق ملابسه، قالت بانهيار: أبي.. ماذا جرى له؟ قال لها بحزم وعجلة: أسرعي بإخراج مفتاح السيارة من جيبي.. هيا.. في تلك اللحظة فُتح باب الجيران، باب بيت أم عبد الله، وخرج منه ابنها وهو ينظر مصدوما ومبهوتا بما يراه، وضع بكر بلال في المقعد الخلفي، ثم ركض مسرعا إلى داخل البيت وهو يهتف: سأحضر بعض الضمادات. فهم عبد الله ما حدث بشكل سريع من عبير التي كانت تتحدث بسرعة متوترة ومضطربة، وبدأت تتحشرج الكلمات في حلقها وهي تنظر إلى بلال، كان منظر دمائه مخيفا بحق، ثم بدأت تبكي بارتعاش وهي ترى والدها يضمّد يد بلال بشكل سريع حتى يتوقف الدم، أمرها أن تدخل لتجلس مع بثينة وأمها، أما عبد الله فقد ركب دون تردد مع بكر. في الطريق كان بكر في قمة الحيرة والاضطراب، لقد وعدتُه أنني سأتركه ينتحر عندما يدفع لي الثمن، وها أنا ذا أخلف وعدي معه، لقد انتـــحر! ولكنني الآن.. أساعده للعودة إلى الحياة! كيف. لقد أخلفت وعدي.. يا رب.. ساعدني.. ماذا أفعل؟ إنني الآن لا أفكر بعقلي، أفكر فقط كيف سيعود للحياة، وكيف سينظر إلي أنني كذاب من الدرجة الأولى! لم يُجر معه عبد الله أية حوارات أو استفسارات عن بلال، فلقد كان حال بكر يُرثى له. _ خرج الطبيب مسرعا ليرى بكر يهبّ واقفًا بكل قلق وبجانبه عبد الله، قال بهدوء: الفتى يعاني من فقد كمية كبيرة من الدم، إذا تم توفير الدماء له سريعًا فسوف ينجو بإذن الله.. رفع بكر حاجبيه على أشدّها وهو يقول باضطراب: وما هي فصيلة دمه؟ قال الطبيب وهو يعدّل نظارته وينظر في ورقة يُمسكها: إنها O، ليس أمامكم سوى ساعة واحدة لإيجاد متبرع! أسرعوا رجاء. هتف عبد الله بانفعال: إنها نفس فصيلتي.. سوف أتبرع الآن. نظر له بكر بامتنان واعتذار، ففصيلته هو وابنته هي AB وقد خفف عنه عبد الله عناء البحث عن متبرع في هذه الساعة الحرجة! قال الطبيب: حسنا، تعال معنا من فضلك. ثم نظر إلى بكر متسائلا بريبة: هل المصاب ولدك يا سيد؟ تفاجأ بكر بهذا السؤال ولم يجد جوابًا إلا أن يقول: نعم.. أعتقد ذلك! رفع الطبيب إحدى حاجبيه مستنكرا: كيف تعتقد ذلك؟ يا لك من غريب.. كما أن الفتى يبدو أنه قد انتحر.. هذا ما شعرت أنا به، فشريانه مقطوع بسكين وهذا واضح جدا.. هل تستطيع إخباري يا سيد كيف أصيب بهذه الإصابة؟ مطّ بكر شفتيه بأسف قائلا: هو ليس ابني فعلا، لكنه حاليا يعيش معي، أما عن الانتحار، فيبدو ذلك فعلا.. الفتى كان يعاني من اكتئاب. هزّ الطبيب رأسه بعدم اقتناع ونظر بشك وريبة نظرة أخيرة إلى بكر، ثم مضى بهدوء. _ تم نقل الدم بالفعل، وبقي عبد الله على سرير صغير لعشرة دقائق بجانب بلال، وبكر يجلس بجانبه لا يجد طريقة لشكره، شعر بالحرج لشدة امتنان بكر، وهمس بخجل: لا تقل ذلك يا دكتور.. فلك كثير من الجمائل علينا.. كما أنني أحتسب أنني أنقذت نفسًا من الموت وكأنني أحييت الناس جميعًا. ابتسم بكر بإعجاب واكتفى بنظرة شاكرة، والتفت إلى بلال المستلقي، وجهه شاحب وبعض الخدوش في وجنتيه كأنما قد ضُرب، عقد بكر حاجبيه بتفكير عميق وهو يرى جرحا عريضا على رقبته قد ضّمد بلاصق طبي، قال لعبد الله في اهتمام: هل ترى يا عبد الله أن بلال قد انتحر فعلا؟ لم أعد مقتنعا بالأمر عندما لمحت هذا الجرح في رقبته! قال عبد الله بحيرة: ربما كان يريد قطع رقبته أولا ثم تخلّى عن هذه الفكرة وقطع شرايينه! أغمض بكر عينيه بألم من بشاعة الصورة، وأطرق برأسه قليلا ثم قال بابتسامة باهتة: لا أعتقد ذلك يا عبد الله.. لا أدري لم لست مقتنعا أنه حاول الانتحار فعلا! ولكن كل الأدلة تدل على ذلك.. على كل حال.. عندما يستيقظ سوف نفهم منه الأمر.. ثم ظهر على وجهه الهمّ والغم وهو يستدرك: ولكن...! ترقب عبد الله ما سيقوله، فأكمل بكر بإحباط: إذا كان فعلا يريد الانتحار فعندها أنا مذنب أمامه بشدة.. سيراني كذابا مخلفا الوعد.. تفهم عبد الله كلامه لأنه عرف قصته قبل ذلك، تنهد بكر بحيرة وهو يقول لعبد الله بحنان: هل أنت بخير الآن؟ تشعر بأي دوار؟ هزّ عبد الله رأسه بالإيجاب وقام مسرعًا، فقال بكر: أريد العودة إلى عبير، لا شك أنها تدور حول نفسها الآن من شدة القلق.. ابتسم عبد الله ابتسامة خفيفة وقال: حسنا، أستطيع الجلوس معه. رفض بكر قائلا: لا، حتى أنت يا عبد الله جئت على عجل دون استعداد، بلال بفضل الله استقرت حالته الآن، وسيفيق ربما غدًا أو بعد غد إن شاء الله.. فلا فائدة من البقاء بجانبه الليلة. _ كانت عبير منهارة من البكاء وهي تتخيل والدها يعود إليها بخبر سيء عن بلال، وبثينة وأمها تهدئانها، حتى طُرق الباب، وظهر بكر بعد فتح الباب، ركضت إليه عبير بلهفة فابتسم بسرور وقال باطمئنان: إنه بخير. ظلت تقفز بفرحة ودموعها تتساقط دون سبب، كان منظرا أبهج بكر وفي نفس الوقت احتار فيه، كيف تعلق قلب ابنته بهذا الفتى! كان يحمل همّ عبد الله الذي سحبوا منه كمية دم كبيرة مقارنة بالتبرع الطبيعي، لكن لم يكن له خيار سوى ذلك! أخبر عبير بذلك فانطلقت راكضة إلى أم عبد الله توصيها به، نام بكر في تلك الليلة مدة قصيرة جدا، واستيقظ في الثالثة ليلًا، ليحصل على الكنز.. الكنز الذي يُوزّع على الناس في هذا الوقت.. كنز الغفران، وكنز إجابة الدعاء. لم يكن بكر يشعر بالحزن لما حصل، فقد شعر بطريقة ما أن بلال ما زال سيعيش طويلا، ولكنه كان حزينا لأجله، كيف ينتحر بهذه السهولة؟ دعا ربه ألا يكون بلال قد انتحر بنفسه.. كان يبدو في داخله أمرًا غير ممكن، فكل الأدلة تدل على تلك الحقيقة، ولكنه دعا بإخلاص. في الصباح ركبت معه عبير السيارة وهي ترفض رفضا باتُّا أن تذهب إلى المدرسة وبلال راقد في المستشفى، كانت ترتدي ملابسا عادية ولا تحمل حقيبة المدرسة، ولم يُحاول بكر إقناعها بالجبر، فهدأ وهو يطلب منها بهدوء أن تقول لبثينة ألا توقظ عبد الله وهي تجُهز نفسها، لكي يرتاح قليلا. أذعنت عبير للأمر وهي تدخل إلى بيت بثينة ثم تخرج منه بعد دقائق برفقة الأخيرة.. عندما وصلا إلى غرفة بلال لم يكن قد استيقظ بعد، جلس الجميع واجمين يعمهّم الصمت، كانت عبير تنظر متأثرة بشدة وإن لم تقل شيئا وهي تتأمل كيس الدماء المعلق وتلك الإبرة التي تنغرز في يده، كانت تشعر بالقشعريرة.. ماذا لو أنها مكان بلال؟ ترى ما إحساس بلال الآن؟ هل يتألم رغم أنه نائم! نظر بكر إلى ساعته في اضطراب عندما حانت الساعة التاسعة، كان من المفترض على كلام الطبيب أنه سيفيق في ذلك الوقت.. خرج بكر ليكلّم الطبيب المسؤول عن حالته، تلكأ وهو يشرح له أسبابًا معقدة ثم قال له: اصبر قليلا يا شيخ! وابتسم ابتسامة لزجة لبكر الذي ابتسم ابتسامة مجاملة ثم زفر زفرة حارة وهو يعود للغرفة، كان متوترا جدا، عندما يستيقظ بلال ستتضح كل الأمور...! أخبر بكر ابنتيه بما قاله الطبيب، ظهر على وجهيهما الإحباط، لقد جاءا من الساعة الثامنة صباحًا.. ذهبتا إلى الحمّام بينما بقي بكر بجانب بلال، كان يشغل نفسه بالقراءة في كتاب كبير، مرّت بضع دقائق حتى سمع صوتا هامسا ضعيفا: أين أنا؟ رفع نظره مصدومًا إلى بلال الذي فتح عينيه وبدأ بالنظر إلى بكر باستغراب شديد. كاد بكر أن يهتف بفرحة لكنه ابتلع ريقه عندما تذكر ما حصل، ثم أجاب بهدوء ولطف: بلال.. مرحبًا بك.. أنت في المستشفى.. عقد بلال حاجبيه استغرابا ثم قال بحيرة: لماذا؟ ماذا.. كنت أفعل؟ توتر بكر وهو ينظر إليه، لا يمكن أن يقول له أنك كنت تنتحر! ربما هذا جيد أن بلال لا يتذكر ما كان يفعله، لكن بلال قطع أفكاره عندما سأله بإصرار بصوت مبحوح: ماذا كنت أفعل يا دكتور بكر؟ ماذا حصل لي؟ تنهد بكر في حيرة ثم نظر إليه بشفقه مغمغما: لقد كنت مصابًا بجرح في يدك! انتبه بلال أن معصم يده مضمد بالكامل، فرفع يده بدهشة وذهول، نظر إلى ذلك الضماد، راح يتأمله في دهشة ويغمغم في عدم تصديق: إذن لم أمت؟ ابتسم بكر باضطراب: أنت ما زلت حيًّا.. ماذا كنت تتوقع؟ ابتسم بلال: لقد كنت أتوقع أنني مت. زادت دقات قلب بكر وهو يقول في داخله: نعم.. الأمر واضح تماما من كلامه لقد انتحر! ثم سأله بامتنان: كيف أنقذتني؟ اتسعت عينا بكر بشدة وهو يردد في داخله: أنقذتك! ألن تبدأ بالتبرؤ مني؟ ابتسم بكر بعدم فهم قائلا: ماذا تقصد يا بلال؟ كيف أكون أنقذتك؟ ألم تكن تريد الانتحار؟ نظر إليه بلال مصدوما شاخصًا، وظل يحملق فيه بضع ثوان كانت على قلب بكر مثل الأشواك التي يمشي عليها بقدم حافية. ثم هتف بانهيار: دكتور بكر.. ابتلع بكر ريقه بصعوبة وهو يتطلع لما سيصرخ به هذا الإنسان. أكمل بغضب وهو يقوم جالسا: هل أنا غبيّ لأقتل نفسي بنفسي؟ ثم راح يتنفس بخيبة أمل وإحباط ويقول بصوت متهدج: بالطبع لن أقتل نفسي بعد أن قضيت معك أربعة شهور كاملة! ثم رفع يده المضمدة ومدّ أربعة أصابع وهو يقول بتأثر: لم أكن أظن أنك سوف تتهمني هذا الاتهام! ضحك بكر ضحكة قصيرة وتنهّد براحة وسط دهشة بلال ثم قال ضاحكًا: بلال.. أرجو ألا تفهمني خطأ، فبالله عليك، إذا رأيت رجلا قد قطع وريد يده وظل ينزف حتى الموت ستقول عنه أنه انتحر طبيعيا، هذا هو الافتراض الأول الذي يأتي على البال دون النظر إلى بقية الأدلة. قال بلال بيأس: لكنني لم أفعل ذلك! تساءل بكر بحيرة: ماذا حصل لك إذن؟ ردّ بلال بغضب: لقد هجمتْ علي عصابة من المتسولين، الذين يخدعون الناس في الطريق ويكسبون تعاطفهم وأموالهم معًا. قال بكر بدهشة: عصابة متسولين؟ هل هما الاثنان اللذان ... فهم بلال ما يرمي إليه فأومأ برأسه إيجابًا، ثم أكمل ببرود عميق: كانوا يريدون قتلي، بطريقة لا تجعلني الضحية ففعلوا ذلك. تمتم بكر: لا بأس.. لا بأس عليك، المهم أنك بخير الآن يا بلال.. الحمد لله. _ |