(5) الشيء الذي حصل حين جاء بكر ليخرج من المسجد بعد صلاة الفجر، أثناء ارتداء حذائه، وجد عبد الله يأتي مُسرعا ليدخل المسجد ويبدو أنه تأخر ولم يلحق الإمام، جاء ليخلع حذاءه، فابتسم الدكتور بكر وناداه: عبد الله، ما بالكُ اليوم؟ تأخرتَ عن الجماعة؟ ابتسم عبد الله إحراجا ثم غمغم: لقد استيقظت متأخرا. هزّ بكر رأسه مهوّنا ومتفهما وهو يقول: لا بأس ادخل لتلحق بجماعة أخرى جاؤوا متأخرين أيضا. ثم همّ بالمُضيّ، فناداه عبد الله: دكتور بكر، هناك شيء أود سؤالك عنه. التفت بكر متسائلا، فقال عبد الله حائرا: لقد وجدت فتى يخرج من منزلك يده مكسورة ويعرج في مشيه، وجهه مملوء بالكدمات والجراح، لقد.. اتسعت عينا بكر وهو يقاطعه: يخرج من منزلي أنا؟ أومأ عبد الله برأسه، فصاح: يا إلهي! ثم ركض مبتعدا بسرعة وسط دهشة عبد الله الشديدة. وتساءل في داخله: من هذا الفتى يا ترى؟ لابد أن هناك علاقة ما بينه وبين الدكتور بكر وإلا لما ركض بهذه الطريقة قبل أن يُكمل كلامه معي حتى! أما بكر، فقد خطر في باله ألا مكان هنا في هذه القرية يعرفه بلال سوى المكان الذي صدمته السيارة، رغم أنه لا يعرف طريقه، ولكن بسهوله يستطيع رؤية المزارع الممتدة على جانبي الطريق فيعرف أن هذا الشارع هو المكان الذي اصطدم به، على الفور اتجه إلى هناك، رأى شجرة خلفها ظل أسود لشخص صغير في السن، فاتجه لها، شاهد بلال وهو يجرح يده ويجرب السكين ثم يرفعها عاليا ويصرخ بقوة ويوجهها إلى قلبه، فأسرع يُحاول إنقاذه مُمسكًا بالسكين في آخر لحظة قبل أن تخترق صدر الفتى. عندما عاد بلال إلى المنزل، وهو يدخل في النوم العميق، فكر الدكتور بكر، ما سبب اتجاهه إلى الانتحار فجأة هكذا؟ ربما سمعني أنا وعبير ونحن نتكلم عنه، فظن بسبب جملتي أنني لن أسمح له بالانتحار في نهاية المطاف ففعل فعلته تلك. كانت عبير تضمد له يده، التفت إلى بلال الذي استسلم للمهدئ وفي طريقه ليُغمض عينيه، كانت الدموع ما زالت تجري على خدّيه الحمراوييْن، مدّ يده ليمسح دموعه بحنان، وشعر رغما عنه بإشفاق شديد عليه، هذا الفتى صغير السن، من المفترض أن يرى فيه ملامح المراهقين الذين يُحبون الظهور ويتفاخرون بأنفسهم ويعجبون بها، ويريدون استغلال أي فرصة لإثبات وجودهم والحصول على المدح والثقة والتقدير ممن هو أكبر منهم! مثل عبد الله جاره، فهو في الخامسة عشر أيضا، مراهق طبيعي تماما. لكن بلال، رافض لحياته بقسوة، لديه عقدة نفسية حقيقية من شفقة الآخرين عليه. غمغم بكر بتأثر: يا إلهي من الذي سلب بلال حياته الطبيعية؟ إنها جريمة بكل المقاييس. نظرت إليه عبير، ثم قالت عاتبة: أبي، لقد تهورت كثيرا اليوم وجرحت يدك بسبب هذا الفتى السيء! نظر بكر بسرعة إلى ابنته: لا يا حبيبتي لا تقولي عنه ذلك أبدا. قالت محتجة: ولكنه جرحك في يدك يا أبي! قال لها مبتسما: ليس بسببه هو، صدقيني. ليس بسببه هو. نظرت له بلوم، وهي تهتف: ماذا تقصد؟ أليس هذا الجرح بسبب أنك حاولت منعه من الانتحار؟ ألم تقل لي ذلك قبل قليل وأنا أضمد يدك؟ تنهد وهو يشرد بنظره إلى ذلك الفتى المُلقى على السرير المدعوّ بـ بلال، ثم يهمس لـعبير: عبير، كيف أشرح لك أنني ممتن لله عز وجل أنني قابلته هنا؟ لم يكن بوسع عبير إلا أن تتسع عيناها دهشة واستغرابا! __ " هل أنهيتَ وجبتك؟" قالها الدكتور بكر، نظرتُ إلى صحن الحساء الفارع ثم نظرتُ له بعينيَّ اللتين كانتا خاليتين من أي بريق يدل على الحياة! وقلتُ ببرود: نعم. حمل الصحن وانطلق إلى الخارج، أما أنا فقد أسندتُ رأسي ورحتُ أتأمل السقف، إنه دنياي الوحيدة هنا! عندما استيقظتُ عصرًا أكلتُ وجبتي وها أنا لا أعلم ماذا أفعل! إن الحياة لا تناسبني أبدا! وجدتُ الدكتور بكر يدخل وهو يحمل علبة الإسعافات، ثم قال: أعتقد أنك قلت لي اليوم أن قدمك تؤلمك وكأنها مشلولة، هل أستطيع أن أراها؟ هززتُ رأسي أي نعم، فاقترب من إحدى قدمي، فقلتُ موضّحا: إنها اليُسرى. نزع الضمادات عنها ثم فحصها قليلا وسألني عن موضع الألم بالضبط فأجبته فقال مبتسما: حسنا إذن تحمّل قليلا فقط.. لاحظت يده اليمنى المصابة، كانت مضمدة، ويبدو أنه يعمل بها بشكل طبيعي رغم الجرح الذي أصبتُه بها. أمسك قدمي بكلتا يديه وفعل شيئا ما، جعلني أطلق آهة ألم، يبدو أنه قد أدار العظم! ماذا فعل؟ ثم قال لي: لقد تحركت إحدى العظام بشكل خاطئ وهذا ما سبب لك الألم، الآن حاول أن تمشي عليها! تنهدتُ بملل، وأنا أزيح الغطاء عني ثم أقف عليها، ولدهشتي الشديدة لم أشعر بأي ألم.. عادت قدمي لحالتها الطبيعية.. نظرتُ له مستفسرا، فقال ببساطة، وهو يرمي الضمادات القديمة: أنا طبيب نفسي ولكن لدي بعض الخبرة في العظام من طبيب عظام كان صديقا عزيزا لي، وقد حصل لي هذا ذات مرة فوجدته يفعل ذلك وبعدها تعافيتُ ولله الحمد.. ثم مدّ يده لي بالضمادات الجديدة مغمغما: هل بإمكاني تضميد قدمك فجراحها لم تُشفى بعدُ. أومأتُ برأسي موافقا وجلست على السرير ومددتُ قدماي، ورحتُ أنظر له وهو يضمدها باهتمام وتركيز رغم أن عقلي في عالم آخر بالكليّة. إنني أفكر في أختي رقية التي تركتُها وحيدة بائسة، هل أمي وأبي الآن يبحثان عنّي أم أنهما نسياني؟ تنهدتُ بكآبة كل ما تذكرتُ أصلي ومن أين أنا قادم، علي ألا أعود إليهم أبدا مهما كان الثمن.. هذا لو بقيت على قيد الحياة، ولهذا أنا حريص على أن أعمل بجد لكي أدفع الثمن للدكتور بكر ثم أنتحر وأتخلص منهم ومن الهم الذي يُعشعش فوق رأسي بسببهم، فإذا حاولوا أن يبحثوا عني ووجدوني فلن يستطيعوا فعل شيء لي لأنني حينها أكون قد متُ! قطع أفكاري صوت الدكتور بكر وهو يضمد قدمي: بلال.. هل لي أن أسألك سؤالا؟ نظرتُ له باهتمام وأنا أحدّق في عينيه الجادتين، فقلت: نعم! نظر إلى قدمي قائلا: إن قدمك مصابة بجروح كثيرة وكدمات متعددة، وأيضا جلدها خشن جدا وكأنك لم ترتدِ حذاءً أبدا في حياتك، ومن يرَها يجزم أنك تعيش طول عمرك سائرا على قدميك. نظرتُ له بحدة وتوتر نبض قلبي وأنا خائف أن يستنتج من كل هذا الكلام وظيفتي الأصلية، ثم قلتُ بانزعاج: أين هو السؤال الذي قلتَ؟ فقال متنهدا: ماذا كنتَ تفعل قبل أن تصدمك تلك السيارة؟ عقدتُ حاجبيّ بضيق وحدة وأنا أُبعد أنظاري عنه، فعاد يُكمل التضميد وهو يقول بهدوء: على كل حال لك مطلق الحرية في الإجابة عن هذا السؤال، فلا يـ... "كنتُ أهرب" قاطعته بتلك الجملة المقتضبة فرفع رأسه في دهشة ونظر إلي، فقلتُ له بعدوانية: لقد كنتُ أهرب من منزلي! هذه إجابتي.. هل لديك شيء آخر؟ ألديك اعتراض؟ بعد أن كانت حاجباه مرفوعة على أشدها نزلت فجأة إلى الأسفل وارتسمت ابتسامة على شفاهه قائلا: بالطبع ليس لدي أي اعتراض.. لا أدري لمَ هذه الثقة في صوته جعلتني أرتبك أكثر وهربتُ بنظري إلى الخزانة التي بجانبي وأنا ألتزم الصمت، سكتنا هذه المرة مدة طويلة، أنهى الدكتور بكر تضميده وراح يضع أدواته في علبة الإسعاف ويرتبها وأثناء ذلك قال: وأنت.. أليس لديك أي استفسار؟ أو أسئلة؟ قلتُ مفكرا وقد جاءت لي صورة يده تمتدٌّ إلى وجهي قبل أن أسقط في غيبوبتي: آه.. نعم.. كنت أنوي أن أسأله عما كان يريد فعله لي قبل أن أنام، ولكنني شعرت أن هذه سخافة.. فقلت مترددا: ماذا حصل لأم عبير؟ زفر زفرة حارّة ثم قال: أنت إذن مصر على أن تعلم قصتها، حسنا.. سأخبرك. ثم أغلق علبة الإسعافات وجلس على كرسي قريب قائلا: أم عبير قد ماتت منذ سنتين في الحقيقة. لم تبدُ على وجهي أي علامات للتأثر فقد كنتُ أتوقع ذلك، فأكمل: ماتت في حادث سيارة. عندئذ نظرتُ إلى عينيه، كان يقول ذلك بحزن، ثم أضاف: تزوجتها بعد تخرجي من كلية الطب، وأنجبت لي عبير، ومنذ سنتين فقط، حصلت مشاكل في عملي وكنتُ خارجا مسرعا بسيارتي أنا وزوجتي وابنتي، وحينها صدمتنا سيارة وتوفيت زوجتي رحمها الله وبقيت لي عبير، خرجنا من ذلك الحادث بإصابات بالغة وبالطبع إصابة قلوبنا بفقدان زوجتي وأم عبير كانت أشد.. ثم سكت ونظر لي منتظرا الكلام الذي سأقوله له، فقلتُ: وهل لهذا الحادث علاقة بأنك توقفت عن عملك كطبيب نفسي؟ نظر لي بدهشة وقال بحذر: ولماذا تعتقد ذلك؟ ضحكت بداخلي ساخرًا، هذا الرجل مُخادع حقا! قلت ببرود: تخمين فقط، أريد أن أنام! فقام من كرسيه متفهما وقال: نعم بالتأكيد فالمريض عليه أن يرتاح. خرج من الغرفة وخرجتْ بعده كل أحاسيسي وشكوكي فيه، إنه بالتأكيد يُخفي عني شيئا، لقد توقف عن عمله النفسي لسبب ما، وراح يعمل في متجر للعطور، وفي قصته الملفقة تلك لا يوجد أي سبب يدعو إليه أن يتوقف عن عمله، أو حتى يغير مكان سكنه، فلابد أنه كان يعيش في مدينة وليس قرية كهذه! تأففتُ وغمغمتُ: وما دخلي به الآن، علي أن أركز طاقتي لأتماثل للشفاء وأحقق ما أردته، وليس علي الاهتمام بأمور كتلك. |