السلام عليكم ورحمة الله وبركاته كيف حالكم يا متابعيّ الأعزاء :tb3: أعتذر لكم إن كان الفصل السابق قد أشعركم بالإحباط أو بالصدمة، لكن هذا هو الفصل الأخير ليعوضّكم أتمنى أن يعجبكم (17) وضع طارق رأسه على مقود السيارة في اكتئاب، وبجانبه صادق يقول له في حيرة وخوف: كيف ستخبرها يا طارق عنه؟ أطلق طارق آهة متألمة ثم رفع وجهه الذي أغرقه الحزن: لا أدري كيف! قال صادق بجدّية: لا حل إلا الذي قلته لك، عليك أن تُخبرها ولكن بطريقة مناسبة، وهذه الطريقة تعرفها. تنهد طارق وهو يحرّك سيارته بجانب إحدى المساجد، فقد كانت صلاة الظهر قد بدأت، ترجلا من السيارة وصلّيا معا، أما عن ألم طارق، فقد شعر بوحدة شديدة وهو يصلي لأول مرة صلاة بدون بهاء، شكا لله كل همه ودعاه أن يلطف بزوجته حين تسمع الخبر! ترك صادق ينتظر في السيارة حتى إذا حصل أي شيء، وصعد هو إليها، تسللت إلى أنفه رائحة الطعام الزكي الذي تصنعه لأجلهما! وجدها تٌقبل عليه باسمة وهي تفرد شعرها الحريري القصير على كتفيها وتضع بعض أحمر الشفاه والكحل، على جسمها الرشيق فستان طويل ملوّن بألوان زاهية، سلّمت عليه وهي تظنه عائدا من العمل! ولا تعلم أنه عائد لتوّه من المستشفى بعد أن وقع شهادة وفاة ابنه! ثم قالت له: صنعتُ سمكا مشويا رائعا سيعجب بهاء كثيرا، المهم أن يعود سريعا! ثم ضحكت وهي تعود بكأس ماء له وتمسح على شعره قائلة وهي تجلس: يبدو أنك تعبت اليوم في عملك كثيرا، أخبرني.. هل خسرتَ إحدى الصفقات؟ وجهك لا يبشر بخير! تنهد طارق واصطنع ابتسامة ثم قال: نعم، هناك شيء حصل بالفعل، سأحكي لك. جلست وهي تضع يدها على قلبها، وبدأ هو حديثه الشارد: أحد أقربائي تُوفي اليوم! شهقت وهي تقول: لا حول ولا قوة إلا بالله.. اصبر يا عزيزي، لقد كنتُ من بداية اليوم أشعر أن هناك أمر فقد كان قلبي ينقبض بخوف وقلق..آآ.. هل أنا أعرف قريبك هذا؟ قال طارق وهو ينظر له بعينيه: المشكلة الصعبة أن أم قريبي هذا أعصابها لا تتحمل خبرا كهذا، وزوجها محتار كثيرا في أن يُخبرها، ونريد حلّا لذلك! أطرقت غدير برأسها قائلة بحزن: يا لها من مسكينة، صبّرها الله وأعانها، ولكن على زوجها أن يُخبرها بطريقة لطيفة. سكت طارق مليّا، فقالت غدير بلطف متسائلة بحيرة: ولكن هل أنا أعرفها تلك القريبة؟ لم تجد منه ردّا سوى الشرود، فاقتربت منه مرددة: طارق؟ هل أعرفها؟ أخفض رأسه في صمت، فرددت بقلق: طارق! أجبني! وجدته يأخذ نفسا عميقا ثم يلتفت لها قائلا: نعم. سألته في وجل وحذر: من هي؟ نظر لها مباشرة بعينين حزينتين: إنها أنتِ! بعد أن استوعبت شهقت بفزع وانتفضت واقفة وهي تضع يدها على فمها: مستحيل.. مستحيل! لا لا.. ثم تراجعت سريعا وهي تركض، قام طارق واقفا وهو يقول: اهدئي يا غدير! انتظري! لحقها إلى غرفتها، وجدها تُمسك هاتفها وتتصل به، وهي تصيح في هلع: لمَ لا يرد! لم لا يرد بهاء؟ ثم استدارت مصدومة إلى طارق الذي كان هاتف بهاء في جيبه يرن بنغمته المميزة، اقتربت منه وأخرجت الهاتف من جيبه دون أن يتحرك هو بأي حركة، ثم نظرت له هاتفة: لماذا.. هاتف بهاء بحوزتك؟ ها.. لماذا؟ ابتسم طارق بحزن وهو يتذكر أنه وقع على استلام كل متعلقات بهاء الشخصية: لقد أخبرتك! لقد سبقنا إلى جوار الله عز وجل. انفجرت دموعها وهي تتراجع وكأنها خائفة من طارق الذي ألقى عليها هذا الخبر الصاعق، اقترب منها طارق فتراجعت وهي تصرخ: لا.. لا.. هذا حلًم.. حُلم، كابوس! أمسك طارق يدها وقال لها برفق صارم: اهدئي يا غدير.. كوني امرأة مؤمنة! توقفت عن الحراك وظلت واقفة بذهول، وارتجفت شفتاها وهي تغمغم: فقدتُ ابني؟ ابني الوحيد؟ اقترب طارق منها بهدوء وجذبها إلى صدره قائلا في حزن: اصبري يا حبيبتي، هذا بلاء من الله، يختبرنا، لنرى أنصبر أم نُفتن؟ والحقيقة أنه بلاء ثقيل جدا.. أشك في نفسي أنني أستطيع تحمّله! فكيف بكِ أنتِ يا عزيزتي.. ظلَت تسترجع وتحوقل بعد كلامه ثم بكت كثيرا في حضنه، وهو تحمّلها وراح يهدئها ويصبّرها، حتى مرّ الوقت طويلا، أخرج هاتفه ليتصل بصادق، وغمغم: صادق، يبدو أنها تحملت الخبر، فلتعد إلى المستشفى وانتظرني هناك! ثم أغلق الخط ومسح على شعرها مغمغما بحزن: هيا يا غدير.. ارتدي عباءتك! لكنها لم تجب عليه، خاف عليها كثيرا فرفع رأسها ليجدها فاقدة الوعي ومازالت رموشها مبللّة بدموعها، أمسك هاتفه مثل المجنون واتصل على صادق هاتفا: صادق أسرع إلى هنا! لقد حصل ما كنّا نخشاه! __ في المستشفى، أقبل الطبيب عليهما وهو يقول بأسف: حالتها خطرة جدا، أصيبت بصدمة عصبية شديدة، ستبقى في العناية المركزة حتى تفيق من غيبوبتها، أسأل الله لها الشفاء! ثم وّلى منصرفا كعادة الأطباء، يقولون لنا الخبر المؤلم الفظيع ثم ينصرفون بلا مبالاة فقد اعتادوا على ذلك! أما نحن.. فنحن الذين نتمزق من الألم. استند طارق لاهثا على جدار الممر ثم نظر بمرارة إلى آثار الطبيب المنصرف، كان يشعر بأنه يجاهد ليأخذ أنفاسه بعد أن سمع هذا الخبر، حاول تهدئة نفسه فلم يملك إلا والدموع الحارقة تنزل من عينيه المعذبتين. وضع صادق يده على كتفه في أسى وقال: اصبر يا أخي، اصبر واحتسب. ارتمى في حضنه وهو ينتحب مغمغما: يا إلهي، ابني وزوجتي، وفي نفس اليوم! رحمتك يا رب. زفر صادق بحزن ثم قال: إنه بلاء من الله، إنه اختبار من الله عز وجل ليبلوك! فلتري الله من نفسك خيرا يا أخي.. أومأ طارق برأسه موافقا بألم، ثم قال راجيا مبتهلا: يا رب صبّرني واهدني! ثم ابتعد عنه وهو يستعيد رباطة جأشه وقوته ويتنفس تنفسا عميقا رغم العذاب الذي يتألم به في قلبه، مسح دموعه بظاهر كفّه ثم نظر إلى صادق وهو يقول وفي صوته المبحوح بعض الإصرار: هيا إلى مستشفى بهاء، إكرام الميت دفنه وعلينا إكرام بهاء. ثم رفع رأسه وهو يسير، فوجد فتاتين تمشيان بسرعة، عرفهما على الفور، إنهما ورد ورقية بنتا صادق، حضناه وكل واحدة تبكي بحزن على بهاء وغدير! __ انتهت إجراءات الجنازة ثم العزاء، ومضى على ذلك أسبوع كامل! كان طارق في بيت عمير، ينظر شاردا إلى كوب الشاي الذي بين يديه، ويسرح في ذكرياته، يوم أن كان بهاء مولودا صغيرا! ::: غدير وهي تنظر إلى وجه طفل صغير وقد بدا وجهها أكثر شبابا ونضرة مما هي عليه الآن تمتمت بحب: ماذا سنسميّه يا طارق؟ ابتسم طارق وهو يقبّل ذلك المولود بين عينيه: لأنه أبهى على حياتنا، وأدخل البهجة والسرور والبهاء عليها، فسنسمّيه بهاء! ما رأيك؟ ضحكت غدير في فرحة حقيقية: اسم جميل! حتى أن وجهه بهي، ألا ترى ذلك! ثم ابتسمت وهي تقول في لهجة مسرحية: ولكنني لا أتخيل نفسي وأنا أقول: تعال يا بهاء، اذهب يا بهاء.. هنا يا بهاء.. بهاء! ضحك طارق وسألها مفكرا: إذا كان بهاء هو اسمه فكيف كنيته؟ أبو عادل؟ قاطعته في حماس: لا.. لا مازال صغيرا.. علينا أن نضع لأسمه "دلعا" مثلا: بوبي.. قال لها باستنكار: ماذا بوبي هذه؟ تبدو كاسم كلب.. كما أنني أريده أن يخرج رجلا! ضحكت على حدته وهي تغمغم: جعلت ابنك كلبا.. لا بأس ما رأيك بـ.. بهبوهو.. بل.. بهابيهو؟ قال لها مازحا: تبدو اسما مركبا كاللغز، ولكني انتبهي فقد تكون إحدى الشتائم في لغة أخرى! قالت غدير متضايقة: ما بك كل ما اخترعت اسما ذممته! قلنا بوبي قلت كلب قلنا بهابيهو قلت شتيمة! ابتسم طارق ثم قال: لا بأس عليك يا أم بهابيهو! ضحكا معا وقبّلا يديه الاثنتين بحب عميق. ::: ابتسم طارق في حزن، وهو يعيد ذكرياته من جديد ليسلّي قلبه المسكين! دخل عمير عليه فوجده يجلس سارحا وبين يديه كوب الشاي، جلس بجانبه، وهو يقول: ألن تشرب الشاي؟ سيبرد بين يديك! الشتاء على الأبواب. نظر طارق إلى الشاي وشعر بحرارته وبخاره الذي يتصاعد منه، وتمتم بشرود: إنه ساخن.. لكنني أشعر ببرودة شديدة! تنهد عمير والألم يملأ قلبه على حال طارق، ثم سأله ليفتح موضوعا جديدا: كيف حال زوجتك؟ ابتسم طارق والتفت له قائلا: لا تزال كما هي في غيبوبتها التي سقطت فيها يوم وفاته، لا شيء جديد! لم تستيقظ أبدا منذ أسبوع.. إنني أزورها كل يوم! تألم عمير أكثر لحاله، فوضع كفه على كتفيه قائلا: صبّرك الله! كم أنت رجل شجاع! لم يبدُ من طارق أي استجابة، فعقد عمير حاجبيه بجدّية: طارق، هل فكرت في موضوع مبارك؟ إنه يريد لقائك في سجنه ومصر على ذلك.. كما أنك لم تقرر ماذا تريد من القضاء أن يفعل له؟ قصاص أم دية أم عفو؟ ابتسم طارق بسخرية وغمغم: عفو؟ فليحلم هذا الحقير بالعفو! يقتل ابني وبسببه تدخل زوجتي في غيبوبة لا يعلم أتستيقظ منها أم لا، ثم تقول عفو؟ عفوًا، أنا لن أعفُ عنه! سأله عمير: إذن دية؟ سكت طارق قليلا ثم قال: ولا دية! بدأ حاجبا عمير بالارتفاع وهو يردد: إذن.. قصاص؟ بدت على وجه طارق ملامح الجدّية ثم ظهرت في عينه نظرة مرعبة، خاطب بها عمير بصوت صارم: نعم. سأختار القصاص لهذا المجرم! ثم جرع الشاي مرة واحدة، ووقف قائلا في حزم: وقُل لهذا الوغد، ألا يحلم بلقائي قبل قتله، فأنا لن أتحمل رؤية وجهه الكريه! ثم زفر بقوة والتفت لعمير متبسما وصافحه قائلا بامتنان: وشكرا على الشاي.. جزاك الله كل خير على دعمك. __ بعد شهر كامل، نُفذ القصاص على مبارك، وبقي فتحي وناصر في السجن لأربع سنوات قادمة، جزاء ونكالا على صنيعهما! اتصل عمير بـطارق راجيا إياه أن يأتي ليجد حلّا لمشكلة عثمان.. كان طارق جالسا مع عمير والأخير يقول له في حزن: عثمان فقد حيويته ونشاطه، أصبح حزينا وشاردا، أغمي عليه أكثر من مرة في الأسابيع الأخيرة، لم يعد يهتم بصحته! أرجوك يا طارق حاول أن تتكلم معه! تنهد طارق وعلى وجهه هم كبير، ثم وقف قائلا: أين هو؟ شعر عمير بامتنان لطارق الذي تفهمه فأجاب: في غرفته! ثم قاده إليها، انتظر طارق عمير وهو يفتح الغرفة ويُخبر عثمان بالخبر ثم يخرج، وينظر لطارق بعينين مملوءتين بالرجاء والامتنان، فابتسم طارق ونظر له نظرات مُطمئنة، ثم دخل على عثمان الذي كان مستلقيًا على سريره في كآبة، والغرفة مُظلمة، وهو ينظر سارحا إلى السقف! بمجرد أن رأى طارق حتى استوى جالسا على سريره، ونظر إلى طارق مرّحبا بقول خافت: أهلا ومرحبا بك يا أستاذ طارق! ابتسم طارق وهو لا يزال واقفا عند الباب، ثم سأله: لمَ لا تفتح ضوء غرفتك؟ عثمان قال: الضوء يؤلم عيني، ولذلك أحب العتمة. وما إن أنهى جُملته حتى فتح طارق الضوء فوضع عثمان يده على عينيه منزعجا، فأغلق طارق الضوء واقترب من سريره ثم جلس بجانبه وهو يقول: بل قُل إنك تخشى أن يرى والدك شحوبك ودموعك إذا فتحت ضوء غرفتك! تضايق عثمان من معرفة طارق لهذه الحقيقة فأشاح بوجهه دون أن يرد، وبالفعل كان وجهه مصفّرا ورموشه مبللة بالدموع، اقترب طارق منه وأمسك ذقنه وأجبره على مواجهة نظراته، ارتبك عثمان وهو يشاهد عيني طارق الثاقبة وهو يسأله: لمَ لم تعد تهتم بصحتك؟ أبعد عثمان وجهه وهو يقول: ومن قال ذلك، لقد عُدت لتوّي من مركز الرياضة. تنهد طارق قائلا: ولكنك لم تعد تهتم بغذائك! والدك ووالدتك يعانيان القلق بسببك، أهذا ما عاهدك عليه بهاء؟ بمجرد أن قال اسم بهاء حتى شعر عثمان بغصة مريرة في حلقه فضمّ ساقيه وجلس متكورا على نفسه ثم دفن رأسه بين ركبتيه مغمغما باختناق: لم يعاهدني على شيء.. كان يقول إننا سنظل مع بعضنا، لكنه غدر بوعده، لقد اختار الرحيل عني! ردد طارق في استغراب: غدر بوعده؟ رفع عثمان رأسه في حدة والدموع تفيض من عينيه الذابلتين وهو يصيح: نعم لقد غدر به، لماذا تركني وحيدا؟ لقد قلت له أن يكون حذرا، قلت له أني قلق عليك، قلت له ألا يستخف بأعدائه، ولكنه كان يرمي بتوصياتي عرض الحائط ويسخر من مشاعري وخوفي عليه! ويبدو أنه وثق بمبارك بسبب غبائه وهذا ما أودى بحياته! كان مخطئا! ثم أخذ عدّة أنفاس لاهثة قبل أن يقول بألم: لو كان لا يزال حيّا _رحمه الله _، لعاتبته وقلت له كل ما في خاطري ولكنني.. لا أجد أي إنسان مخلص بجانبي يفهمني، لو قلتُ هذا الكلام أمام أبي لظنّ أنني أتسخط على قدر الله. ثم أنزل رأسه وراح يمسح دموعه التي بدأت بالنزول رغما عنه، ابتسم طارق بسمة أبوية حنونة ثم اقترب وربت على ظهره قائلا: وأين أنا؟ ألم تفكر بأن تفضفض لي يا بني؟ قال عثمان بخفوت: أنت في مقام والدي الثاني يا أستاذ طارق، ولكنني لا أريد الإثقال عليك فابنك الوحيد قُتل من شهر واحد وزوجتك لا تزال في غيبوبة قاسية وظروفك صعبة جدا ولن تفرغ لشاب تافه مثلي. تمتم طارق باعتراض: إذن أنا لست والدك الثاني! فلو كنت تعتبر نفسك ابني حقا لما فكرت بهذه الطريقة. سكت عثمان وطارق يُكمل في جدّية: رغم أشغالي وعملي إلا أن بهاء لم يكن ليبتعد عني يوما، فقد كان يثرثر معي كل يوم ويقول لي كل ما بدا له، مع أنه يعلم أنني لست فارغا له، لكنه كان يعتقد أنه من حقه كابن لي أن أخصص له وقتا ثابتا كل يوم وألا أتجاهله أبدا.. ولهذا، إن كنت تعتقد أنك ابني يا عثمان وأنا أبوك الآخر فعليك أن تفكر بهذه الطريقة. ظهر في عيني عثمان التأثر بما قاله فأنزل رأسه متأسفا، ثم غمغم: أعترض معك يا أستاذ طارق.. في هذه المسألة! ثم ابتسم بإحراج ثم قال: هذا صحيح، فبهاء كان يُخفي عليك كثيرا الأشياء التي ربما تضايقك، فقد كان من أولوياته مراعاة الحالة النفسية لك، لقد كان يثرثر معك كل يوم لكيلا يُشعرك بأنه بعيد عنك، لكنه في الواقع لم يكن يُخبرك بمشاكله وهمومه.. كثيرا ما حللنا أنا وهو مشاكلنا مع بعضنا دون أن يعلم أُيٌ من والدينا، وفعلنا العديد من المغامرات ولم يعلم أحد بنا إلا الله! ابتسم طارق سارحا: كنتُ أعرف ذلك من عينيه لكنني أنتظره أن يخبرني، وغالبا لا أستطيع قراءة ما في عينيه. سكتا لبعض الوقت وكل منهما يتذكر ذكريات خاصة مع بهاء، بعدها تنحنح طارق وهو يقول: بالمناسبة يا عثمان، الأمر الذي ذكرته في بداية حديثك! ثم أكمل بعد دقائق صمت: أن بهاء غدر بوعده لك! تهرب عثمان بعينيه ثم قال: نعم أنا أعتقد ذلك بالفعل! فقال طارق معاتبا: يبدو أنك لم تعلم بعد ما قاله بهاء ليلة الخميس، ولم تسمع ما قاله مبارك قبل القصاص منه! قال عثمان: ماذا قالا؟ قال طارق: في تلك الليلة كان بهاء ضعيف العزيمة ومحّطم الإرادة فعلا، لقد كان يستجيب لكلامك، الخائف والقلق عليه، ولابد أنه كان يتأثر بعمق من تعليقاتك يا عثمان ولكنه كان لا يُظهر ذلك لأحد، وفي تلك الليلة أباح لي بكل ما يجول في خاطره فقد كان خائفا عليك ومتأثرا بسببك! عثمان، بالله عليك سامح بهاء إذا أغضبك في شيء وإذا ضايقك، فأنا أعلم حتما أنه ما كان يقصد أبدا! لقد كنت بالنسبة إليه أخاه الأول والعزيز والحبيب. أنزل عثمان رأسه بصمت ثم غمغم بحب متألم: هل تطلب مني مسامحته؟ سبحان الله! ابتسم طارق ثم أكمل: وأما عما قاله مبارك، فقد قال عند استجوابه الحقيقة كاملة، لقد جعل بهاء يثق به بسبب أنه استحلفه بالله، ثم استغل فرصة لادّعاء محبّته والرغبة في عناقه وحينها فعل فعلته. وأنت تعلم يا عثمان أن أي مؤمن يعظّم الله في سره وجهره سيستجيب، إذن، أتلوم بهاء أنه استجاب لاستحلافه بالله؟ رفع عثمان عينيه السوداويتين النقيتين، ثم قال: لا.. لا ألومه! شقت الابتسامة طريقها إلى فم طارق وهو يقول له: إذن.. هل رضيت الآن عن صديقك؟ تنهد عثمان بألم وابتسم ابتسامة حزينة ونزلت دمعتان حارّتان من عينيه بسرعة وكأنهما يتسابقان أيهما ستسقط أولا على ملابسه! ثم قال بصوت خافت: بالتأكيد! المهم هو أن يكون راضيا عني قبل موته وألا يغضب مني! لقد كان.. كان.. ثم سكت مختنقا وشعر أنه سيجهش بالبكاء مرة ثانية، فقال طارق متبسما: اطمئن، بهاء منذ صادقك وهو يحكي لي كثيرا عن صدقك وأخلاقك ورقة قلبك عند سماع القرآن، بل وعن صوتك الهادئ الخاشع الباكي عند تلاوته، لقد كان يحب سماعه من فمك كثيرا! حتى أحببت صوتك دون أن أسمعه من حديثه عنك! أخفض عثمان رأسه وكأنه وردة ذابلة، وهو يهمس: لقد كان هو أرق مني قلبا! فقد كنت أرفع نظري عن المصحف أثناء قراءتي لأجد الدموع عالقة برموشه فيقول لي وكأنه لم يحصل شيء: أكمل يا عثمان! أخذ طارق نفسا عميقا ثم قال: رحمه الله وتقبله عنده من الشهداء! المهم يا عثمان.. كيف أحوال حفظك للقرآن؟ لمن تسمّع هذه الأيام؟ غمغم عثمان بشرود: أسمّع لنفسي. ردد طارق وفيه بعض الدهشة: لنفسك؟ ولم لا تسمع لأبيك أو أمك؟ هزّ عثمان رأسه نافيا ثم قال بعينين حزينتين: إنني أسمّع أجزاء طويلة، ولا يمكن أن أؤخر أمي بتسميعي فخالتي ولدت مولودا جديدا منذ أيام وهي تنشغل هنا وهناك عند الأهل والأقرباء، ولا تفرغ لي إلا قليلا، كما أن أبي مشغول بعمله في قسم الشرطة بعد ترقيته الجديدة التي نالها! ربت طارق على يديه مغمغما: إنه بالفعل يستحق ترقيته فقد كان رجلا مخلصا ومتقنا لعمله! ثم قال بعد سكوت: ما رأيك أن تسّمع لي أنا؟ نظر له عثمان بدهشة ممزوجة بالفرحة ثم قال: حقا؟ ألا تخشى أن أُشغلك عن أعمالك؟ مد طارق يده لأذن عثمان ضاحكا: ماذا قلتُ لك قبل قليل؟ أنت ابني وأنا لدي من الوقت الفارغ ما يكفي للتسميع كما أنني سأسعد بسماع صوتك العذب هذا! تأوه عثمان بألم وهو يبتسم لأول مرة بصدق: آه حسنا سأسمع ولكن اترك أذني! أدركت الآن كيف كان بهاء يتعذب حين تشد أذنه! ضحك طارق من قلبه وهو يترك أذن عثمان، ثم قال بعد بهجة شعر بها في قلبه: حسنا إذن ما رأيك أن تأتي لي غدا في المنزل؟ لنفطر سوية ونشرب الشاي وبعدها تسمع لي الأجزاء التي تريد.. ما رأيك؟ أومأ عثمان برأسه في بهجة وتبسم في هدوء ثم قام الاثنان من على السرير واقفين، صافح طارق عثمان وهو يشد على يديه مسرورا: أنتظرك غدا! هيا مع السلامة! وجاء ليسحب يده من يده لكن عثمان نظر له بتردد نظرة طويلة عميقة فتساءل طارق بخفوت: ما بك؟ فوجئ به يرتمي معانقا له في تأثر وعثمان يقول بصوت مبحوح متهدج: أشكرك! ابتسم طارق بحنان ثم ربت بحنوّ على ظهره مغمغما: علامَ تشكرني؟ قال عثمان بصوت باكٍ: على كل هذا الدعم والاهتمام! ضحك طارق وأبعده عنه برفق ثم قال: هذا واجبي نحو ابني الثاني، كما أن عليك أن تخاف من شدّ الأذن فأنا كنت أشد أذنه عندما يشكرني ببلاهة كطريقتك التي فعلتها للتو، هيا لا تؤخرني أكثر من ذلك، إلى اللقاء غدا! ثم أمسك رأسه وقبّل جبينه بحنان كما كان يفعل مع بهاء تماما، وانصرف دون أن ينظر إلى عيني عثمان الممتنة! خرج عثمان ورافقه إلى البوابة، ثم استدار وقابل والده الذي ابتسم بفرحة قائلا: ما شاء الله، أرى الفرحة بعينيك، إذن فقد استطاع هذا الرجل الشهم إخراجك من حالتك! ابتسم عثمان دون أن يعلّق ثم سلّم على والده وقبّل رأسه قائلا: أنا آسف يا أبي للقلق الذي تسببت به لكم، لن أعيدها مرة أخرى بإذن الله! أخذ عمير نفسا عميقا مشبعا برائحة السرور والرضا على ابنه، وتعجب كثيرا من أسلوب طارق ومنطقيته في التعامل مع أمثال هؤلاء الشباب! قال عثمان في لهفة: أين أمي؟ أشار إلى المطبخ قائلا: إنها هناك! دخل عثمان وابتسم وهو يرى أمه منهمكة في إعداد العشاء وغير منتبهة له، ذهب من ورائها ووضع يديه على عينيها وحاول تغيير صوته قائلا: من أنا؟ شهقت في هلع وهي تشعر بهاتين اليدين، ثم قالت معترضة: عمير لا تفعل هذا وأنا أحضر العشاء! ثم تحسست يديه اللتين على عينيها فوجدتهما لينة ذو جلد طري، فضحكت متفاجئة: عثمان؟ ضحك عثمان قائلا وهو يُبعد يديه عنها: كشفتني يا أمي! استدارت له بدهشة وهي ترى ضحكته الصادقة لأول مرة منذ شهر كامل، ثم هتفت في بهجة: لقد ضحكت! قال له مازحا: نعم أرأيت؟ سبحان الله! إنني أضحك! يا لهذه المعجزة! قالت متعجبة: سبحان مغير الأحوال! قبل ساعتين كنت تعتكف في غرفتك وحيدا حزينا والآن صوت ضحكتك يصل إلى السماء! قال باستفزاز وهو يمثل التعجب: وهل ركبت ضحكتي الطائرة حتى تصل إلى هناك بتذكرة أو بدون تذكرة؟ ضربته على كتفه معاتبة وهي تقول: كف عن سخريتك هذه يا ولد! ضحك وهو يحضنها من الخلف قائلا: وماذا إن لم أفعل يا أماه! أبعدته ضاحكة عن حضنها: هذا ليس وقت جرعة الحنان التي أعطيها لك كل يوم! إنني أحضر العشاء الآن. أمسكها قائلا: لا يا أمي أنا لم أحصل على كفايتي من الحب بعدُ، لقد قرأت مرة أن الفتى المراهق بحاجة إلى اثني عشر حضنا في اليوم، وأنا لم أحصل إلا على واحد! أين بقية الأحضان؟ ثم غمز لها قائلا: أم تريدينني أن أتجه إلى أخرى تمنحني الحب والأحضان؟ ضحكت وهي تقول غاضبة: يا لك من مستفز! سأعطيك الحب والحنان بعد إعداد العشاء! هيا اذهب عني! ضحك على غضبها قائلا بعناد: لا.. لا.. أريد الحصول على جرعة الحب الآن! لن أخرج! هتفت بنفاد صبر: عميـــــــــــر تعال لتُخرج ابنك من المطبخ وإلا فلا عشاء لك. ثم راقبت خديجة عثمان بغضب وهو يُطلق ضحكة عالية ويخرج مغمغما: لا..لا.. إلا العشاء فأنت لا تعرفين مدى جوعنا! |