السلام عليكم ورحمة الله أعتذر إن كنتُ تأخرت هذه المرة الفصل هادئ لكن خذو حذركم فالفصول القادمة ستشتعل ^^ (12) تنهد عثمان وهو ينظر إلى بهاء المنفعل الذي قال: ألم نتعاهد دوما على معرفة أخبارنا وجديدها كل يوم؟ ألم نتفق على أن نكون كنفس واحدة؟ ماذا جرى إذن؟ كيف تعرف بمرض خطير كهذا ثم تتجاهله.. ولا تخبرني أنا؟ قال الجملة الأخيرة بألم كبير، وعثمان ينظر له صامتا، بينما بهاء صاح بغيظ مكتوم: لماذا أنت مُهمل هكذا؟ لمَ لا تُبالي ولو قليلا بنفسك؟ تجرح يديك بدون أن تهتم، وتمرض كذلك دون أن تُخبر أحدا، ما هذا؟ أيّ لا مبالاة تلك! لا بد أن هناك سببا فلم أعهدك بهذا التهور! نظر له عثمان بحدة وقد بدأت عدوانيته في الظهور، وقال بصوت حاول جعله هادئا ومنخفضا: قلتُ لك لا يوجد سبب غير هذا الذي قلتُه لك، لا أريد أن أزيد همك! فلا تنتعني بهذه الصفات لمجرد أنني حرصتُ على مشاعرك! قال بهاء مستهزئا بألم: تحرص على مشاعري؟ أية مشاعر يا أخي؟ تحرص على مشاعري عندما أراك تفقد وعيك وإحساسك أمام عيني، تموت بدون أن أعرف كيف أن أنقذك؟ عندما أراك تتأذى دون أن أملك أي مساعدة لك؟ ماذا إذا لم يكن لدي خلفية عن موضوع السكر فمَ الذي كان سيحصل لك لا قدر الله؟ غيبوبة السكر شديدة.. خصوصا عند ارتفاعه، أم أنك نسيت...؟ ثم خفض رأسه في أسى قائلا: ربما السبب الحقيقي أنني لم أعد محلّا لثقتك في نظرك! قُل ذلك من البداية وأرحني.. ولا تُجامل.. أخبرني لكن أراجع تصرفاتي.. أما أن تقول: خائف على مشاعري الرقيقة!؟ ابتلع عثمان ريقه بصعوبة وقد شعر بمرارة غريبة في حلقه، ثم قال بانفعال مُرتبك حاد: من قال ذلك، أنت من تظنّ بي سوءا.. بالله عليك هل بعد أن أعلم بالمرض سأتجاهله مثلا؟ ألم يخطر ببالك أنا ماذا أفعل كل يوم في النوادي الرياضية؟ للحفاظ على مستوى جسدي الرياضي، والغذاء الذي أصبحتُ مهتما به أكثر، واهتممت بكل ما نصحني به الطبيب.. فهل تُسمي هذا إهمالا؟ إنها أول مرة أفقد فيها وعيي أمامك، وهذا ليس بسبب السكر أصلًا، ولكن لأنني أخذت جرعتي المعتادة من الأنسولين في غرفة الأرشيف خوفًا أن يرتفع سكّري ولا أحد بجانبي، لم يكن في يدي خيار آخر، ولكنني نسيت أنني ربما أصاب بانخفاض فيه لأنني لم أتناول شيئًا بعده، كما أن جرح يدي لم يكن تهورّا أبدا.. لمَ تلومني على خوفي عليك؟ صدقني لو كنت مكاني لكنتَ فعلت مثلي.. ثم قال بعصبية شديدة ونظرات حادة لبهاء: كما أن ما فعلتُه لا يُعد دليلا على عدم ثقتي بك، فأنت فعلت ما هو أفظع! رفع بهاء رأسه بدهشة ليسمع ما يقول، فعلتُ ما هو أفظع؟ بمَ يهذي هذا الفتى! تابع عثمان بغضب: ألا تذكر عندما وجدتك في تلك الليلة مُصابا؟ ألا تذكر عندما حكيت لي قصتك؟ لم أتكلم، ولم أجرؤ على معاتبك فقد كنتُ أخشى الإثقال عليك، وراعيتُ الهم الذي فوق رأسك.. مع أنني غضبتُ منك كثيرا لإخفاء هذا الأمر عني، كنتَ أنت شخصية بهابيهو لمدة شهر كامل، دون أن تفكر في إخباري! بل لو لم أجدك أنا مصابا في تلك الليلة لما عرفت أبدا أنك كنت بهابيهو، أيْ أنك أخبرتني مضطرا.. مع أنك لو أخبرتني لكنتُ حذرتك من الوقوع في الفخ لمعرفتي ببراءتك، وكنا انتهينا من هذه المشكلة.. والآن، أيّنا لا يثق في الآخر ها؟ نظر بهاء مصدوما إلى عثمان الذي أكمل بسخرية مريرة وأنفاس ثائرة: هذه هي الحقيقة يا بهاء، أنت أناني، لا تفكر إلا بمشاعرك الخاصة، تريد أن تُعاتبني على أفعالي، بينما أنت لا تريد لأحد عتابك.. وكذلك عندما هربتَ من المستشفى، كان بإمكانك أن تُخبرني لو تلميحا بسيطا يجعلني أطمئن عليك، ولكنك تركتني في حيرتي وقلقي، بل وعندما عدتَ لم تُكلّف نفسك أن تتصل بي.. وإنما اتصل بي والدك. شعر بهاء بغصة كبيرة في حلقه تجعله عاجزا عن الرد ولو بكلمة، رغم أنه يعلم أنه هو من طلب من والده أن يتصل بعثمان ليأتي، وهو من نوى إخبار عثمان بحقيقته لولا ظهور بهابيهو المزيف ففضل ألا يخبره لكيلا يثير في داخله أية شكوك، ونسي عثمان أن بهاء لم يُخبر والديه أصلًا منذ البداية، فليست المسألة مسألة ثقة! وتسارعت أنفاسه وهو ينظر إلى عثمان بخيبة أمل.. وشعوره بالضيق يزداد في كل لحظة. مدّ يده بضعف إلى عثمان الذي قال باندفاع متهور: هل عرفت الآن كم أنا راعيتُ مشاعرك كثيرا.. كم حرصتُ عليك، كم أنك أناني ولا تحب إلا نـفـ.. سكت فجأة عندما وجد بهاء يضع يده على فمه هامسا برجاء كسير وصوت مهزوز: كفى عثمان. بالله عليك! لا تجعلنا نتبادل التُهم. شعر بمدى إيلام كلماته لقلب صديقه، فسكت وهو يرى بهاء يُشيح بوجهه، ومازال ممسكا بيده، خفض رأسه ونظر إلى يد بهاء الباردة الشاحبة. ظلّ دقائق طويلة وهو يحدّق في بهاء الذي أشاح بوجهه عنه، ولكن لا يهم، فقد وجّه بهاء أيضا كلمات مؤلمة إليه، وهذه هي الحقيقة، بهاء أناني، نعم! هذا ما فكر به عثمان، وهو يقوم واقفا محاولا تجاهل تأنيب الضمير قائلا: هيا يا بهاء لنعد إلى المنزل! ولكنه بمجرد وقوفه فقد اشتد عليه الصداع والدوار ثانية، إنه لم يرتح بما فيه الكفاية بعد، استند إلى الشجرة بتعب وهو يرى بهاء يقوم واقفا ثم ينظر له قائلا بحزن لم يستطع إخفاءه: لازلتَ متُعبا يا عثمان، كان عليك الراحة أكثر! ثم اقترب منه قائلا في لطف: اجلس قليلا. قال عثمان متوجعا وهو يُمسك رأسه: لا، عليّ العودة.. أبي ينتظرني! قال بهاء وهو يُسانده من كتفه: إذن استند علي ودعنا نمشي ببطء، إذا شعرت بالتعب الشديد فأخبرني. قال عثمان وهو يُمسك يد بهاء ويجذبه للمشي: أستطيع المشي، هيا بهاء لا تقلق. لم يعلّق بهاء وهو يسير معه، رويدا رويدًا، يُمسكان بيدي بعضهما، بهاء يده باردة جافه، وعثمان يده حارّة رطبة، وكلاهما صامتين، يتأملان الطريق، السماء، خلوّ الشوارع من الناس. ضغط عثمان على يد بهاء بقوة قائلا: بهاء.. أرجو ألا يصل الخبر إلى أحد أبدا! أشاح بهاء بوجهه في ضيق، وغمغم: وهل تظنني ثرثارا سأفشي الأسرار؟ تنهد عثمان في راحة رغم أنه كان يعلم يقينا أن بهاء من المستحيل أن يفصح عن أي سر، ولكن لا يدري لم شعر بضيق بهاء واكتئابه فحاول أن يقول له أي شيء. حتى وصلا إلى الحي الذي يسكن فيه عثمان، وما إن وصلا البيت، حتى كان عثمان على آخر طاقته، مُنهكا وناعسا! ودّعه بهاء بعناق خفيف وهو يقول: أستودعُك الله يا عثمان، اهتم بنفسك أرجوك! ابتسم عثمان بوهن وهو يودّ لو لم يتركه بهاء في هذه اللحظة بالذات! فهو يحتاج له كثيرًا، لكنّه لا يملك خيارًا، يجب عليه العودة إلى المنزل وكذلك بهاء، تنهد بحزن وهو يتركه ثم يقف ليُخرج مفتاح بابه. دخل عثمان بهدوء إلى منزله، وراقبه بهاء من بعيد، حتى اطمئن ورحل! لم يعد إلى منزله مباشرة، ولكنه اتجه إلى شارع قريب يطل على نهر النيل، كان سيبعده عن منزله أكثر ولكن بهاء شعر بأنه محتاج للوقوف مليّا مع نفسه بهدوء. كان المكان خاليا من الناس ومن الضجيج، مليئا برائحة الندى والفجر.. مما جعل المكان هادئا ومريحا للنفس. استند بهاء إلى السور بشرود وهو يمتع عينيه بمشاهدة سطح النيل الثابت. ظل ينظر إلى الأفق متأملا، أأنا أناني؟ لقد أخطأتُ مع عثمان، ولكن هل هو أخطأ معي؟ الشيء الأكيد هو أن كلماته آلمتْني، كانت قاسية علي، شعرتُ بغصة تملأني، وضاق صدري به. تنهد رافعا رأسه إلى السماء: يا رب، اشرح لي صدري. __ فتحت غدير باب غرفته في حذر لكي تُنادي عليه، ولكنها فوجئت بسريره خالٍ، وغرفته مظلمة لا أحد فيها. غمغمت بقلق شديد: أين ذهب ذاك الولد؟ اتجهت إلى طارق الذي كان يتوضأ ليصلي قليلا من ركعات قيام الليل وقد طلب منها أن تُنادي بهاء ليصلي معهما، جلست على السرير مرتجفة ثم رفعت رأسها قائلة: بهاء لم يعد بعد. رفع طارق حاجبيه دهشة واستغرابا، لم تأخر كل هذا الوقت؟ وهاتفه مغلق كذلك. جفف وجهه ويديه بالمنشفة وهو يحاول التفكير: أين يمكن أن يكون؟ من سابع المستحيلات أن يسهر بهاء خارجا، إذن.. ربما أصابه مكروه أو.. وجد غدير تقول باكية بإشفاق: افعل أي شيء يا طارق، أين بهاء؟ أخذ طارق نفسا عميقا وهو يحاول طمأنتها: لا تقلقي؛ سيعود سالما بإذن الله. وما إن قال طارق ذلك حتى فٌتح الباب بالمفتاح ودخل بهاء، ولأن طارق وغدير كانا في غرفتهما، فخرجا منها متجهين إلى الصالة التي تُطل على باب المنزل، حيث بهاء الذي توجه إلى غرفته ولكنه توقف صامتا عندما وجد أبويه ينتظرانه.. طارق ينظر له بدهشة أخفاها تحت ملامحه الهادئة، وغدير اقتربت منه وهي تضع يديها على كتفيه في ابتسامة قلقة: أأنت بخير بني؟ ما الذي جعلك تتأخر هكذا؟ أومأ بهاء برأسه متبسما، عانقته وهي تقول في حيرة: أين كنتَ يا بهاء، ماذا كنتَ تفعل؟ قال بهاء مُعتذرا بلطف: آسف أمي على تأخري.. سامحيني. وجد طارق يقول له بجمود: ولكنك لست طفلا يا بهاء لتعتذر ويكفي.. أنت شاب عاقل قد كبرتَ ولابد من سبب دفعك لذلك.. ونحن بالتأكيد عندما نعرف السبب سنعذرك دون أن تعتذر.. أين كنت؟ رفع بهاء نظره إلى أبيه، كانت نظراته هادئة عميقة، قال بعد دقائق قصيرة من السكوت: كنت مع عثمان. استنكر طارق وهو ينظر إلى ساعته: حتى هذا الوقت؟ لقد أرسلتَ لي رسالة في الساعة الواحدة ليلا أنك ستعود حالا، ولم تعد إلا الآن في الساعة الثالثة فماذا جرى؟ قال بهاء: قلتُ لك يا أبي، عثمان كان معي، تمشيت معه بسبب جمال الجوّ وهدوءه ثم تفارقنا. قال طارق وهو لم يستسغ إجابة بهاء: بسبب جمال الجو؟ ثم أدرك أن بهاء يُخفي شيئا، ولكنه تجاهل الموضوع وهو يقول: حسنا حسنا، الآن اذهب للوضوء، سنصلي قيام الليل قبل أن يؤذن الفجر. توضأ بهاء وصلّى بجانب والده أمّا غدير فقد صلّت خلفهما، كان الجو هادئا وقراءة طارق مُتقنة خاشعة، فنزلت السكينة على قلب بهاء الذي شعر براحة كبيرة عندما عاد مع والده بعد صلاة الفجر. "أين ستذهب؟ ألن تُفطر معنا؟" كان طارق يسأل بهاء، فاستدار بهاء بوجه مُرهق قائلا: اعذرني، فأنا لستُ جائعا. دخل إلى غرفته وجلس على سريره وهو يخلع جوربه، وجد غدير تدخل عليه قائلة باستغراب: ماذا ألن تفطر معنا؟ ابتسم بهاء: لا وبالهناء والعافية. عقدت غدير حاجبيها بانزعاج وقالت معترضة: لا يمكن ذلك، لقد صنعت حلوى لذيذة لهذا الفطور بالذات، أعددتُها من الليل، يجب أن تتذوقها! ابتسم بهاء وقد بانت الحيرة على وجهه، فهو لا يريد أن يُحرج والدته.. وفي نفس الوقت لا يريد أن يأكل شيئا الآن. شاهدت غدير هذه الحيرة على وجهه فضحكت وهي تمسك يده وتُرغمه على الوقوف: هيّااا.. لا مجال للتفكير، يجب أن تأكل كل شيء أفعله لأول مرة. ضحك بهاء وقال بصوت خافت: تقصدين أنني من فئران التجارب؟ سمعته غدير فضربته على كتفه ضاحكة وهي تدفع ظهره للخروج من الغرفة وإجباره على الجلوس أمام المائدة، ابتسم طارق على هذا العنف الأسري ولكنه لم يٌعلق وهو يتناول شيئا من التمر، أما بهاء فقد سأل: أين هي الحلوى تلك؟ قالت غدير في مرح: سأذهب لإحضارها الآن، أغمضا عينيكما وإلا فقأتهما. أغمض الاثنان عينهما مُجبرين بسبب التهديد، وهي تراقبهما في حذر حتى اختفت في المطبخ، ففتح طارق عينه وقال لبهاء بجدّية: بهاء.. يجب أن نتكلم على سبب تأخرك! أحقا؟ ألا يوجد سبب آخر مٌقنع على الأقل بالنسبة لي؟ قال بهاء وهو يتحاشى النظر إلى عينه: صدقني أبي، لقد كنت مع عثمان، تمشينا معا لوقت متأخر، ثم تمشيت وحيدا وعُدت. هزّ طارق رأسه في اعتراض قائلا: هذا سبب لا يٌقنعني، ألم تكونا متفقين على القبض على بهابيهو، في الساعة الثانية عشرة؟ أليس لهذه العملية علاقة بتأخركما؟ أنزل بهاء رأسه في أسف: لقد فشلت العملية، منذ الساعة نفسها، ولم يعد بأيدينا أي شيء أنا وعثمان. السبب الحقيقي لتأخري هو كما قلتُ لك. زفر طارق في ضيق، وقد تأكد تماما أن بهاء لديه ما يُخفيه، ولكنه فضّل ألا يُرغمه على كشفه، إلا لو جاء بهاء بنفسه ليُخبره، فقال طارق في حزم: بهاء.. هذا السبب غير مُقنع، ولكنني سأقتنع به مؤقتا، ولكنك يجب أن تُعاقب على تأخرك، ستُحرم يوما كاملا من الخروج أو مقابلة الأصدقاء إلا للصلاة.. كما أن جهازك هذا سيظل مٌغلقا، مفهوم؟ همّ بهاء بفتح فمه للاعتراض ولكنه سرعان ما قال متنهدا باستسلام: كما تريد يا أبي. فوجئ بطارق يصيح بخفوت خائفا: أسرع.. إنها قادمة! لم يفهم بهاء ما قاله والده إلا بعد أن سمع صوت أمه غاضبا: أنا قادمة لفقأ عينك.. هيا أغلقها! أغلقها بسرعة وهو يكتم أنفاسه المرتجفة، وشعر بغدير تضع طبق الحلوى على المائدة، ثم تهتف في مرح: افتحا أعينكما! نظر الاثنين إلى منظر الحلوى الشهي وشعرا بفرحة تغمر قلوبهما وهما يريان غدير تُمسك السكين وتجلس بجانبهما لتٌقسم نصيب كل واحد. قسّمتها بفرحة ونظر كل واحد إلى نصيبه، مدّ بهاء يده ليأكل أول قطعة بملعقته، أما طارق فقط أنهاها بطرفة عين، ثم قال مُحتجا: لا يصلح هذا يا غدير أنا أكبركما هنا يجب أن آخذ النصيب الأكبر! ضحكت غدير وهي تشاهد طبقه الفارغ! يا لسرعته الهائلة، بل.. يا لفمه العملاق. ثم قالت ضاحكة: لا يا طارق.. لكل واحد نصيبه العادل، فلا تكن أنانيا. لا تكن أنانيا.. أنانيا.. أنت أناني يا بهاء.. أناني ولا تشعر إلا بنفسك. ترددت تلك الكلمات في عقل بهاء وهو يتذكر مشاجرة البارحة، وعلى الفور شعر بغصة مريرة في حلقه تمنعه بلع لقمة الحلوى التي وضعها، راح يسعل في قوة فجأة! شهقت غدير في هلع بعد أن كانت تُبادل طارق الضحكات، وربتت على ظهره قائلة في قلق: بسم الله عليك.. ماذا حصل بني؟ أما طارق فقد اقترب سريعا وساعده على شرب القليل من الماء، مضت عدة دقائق قبل أن يهدأ بهاء وعيون والديه تراقبانه في قلق وجل! مسح عينه الدامعة من السعال، أو لنقل من الدموع التي لم يستطع بهاء كبتها في تلك اللحظة، ونظر إلى والديه نظرة مُطمئنة قائلا بصوت مبحوح: لا تقلقا! يبدو أنني من فرط حماسي تناولت لقمة ضخمة! ابتسمت غدير بقلق وهي تناوله منديلا، ثم قالت لطارق مهاجمة: لابد أنه كان يقلدك، فقد كنت تأكل لقمة ضخمة! فقال طارق مُدافعًا عن نفسه: بل كان متحمسا لأجل وصفك المشوّق لتلك الحلوى؛ وبسببك تناول لقمة كبيرة! وراحا يتبادلان التهم مازحين، أما بهاء فقد ابتسم وهو يُكمل نصيبه في هدوء قبل أن يقول متبسما: لذيذة جدا يا أمي، سلمت يداكِ. ثم قام من فوره لغرفته وأغلق عليه الباب. التفت غدير لطارق: ألا تعتقد أن بهاء حزين بعض الشيء؟ قال طارق هادئا: هذا واضح من عينيه.. أتمنى أن تُحل مشكلته. نظرت غدير إلى غرفة بهاء المغلقة، وبابها الرمادي الباهت الذي يعشقه بهاء، وغمغمت بحزن: بهاء! ___ خرجت خديجة من غرفتها متوجسة وهي تبتلع ريقها بصعوبة وتقول لنفسها: لم يعد عثمان بعد! أين هو؟ ذهبت إلى الصالة المظلمة لتفتح الضوء وتجلس لتقرأ القرآن قليلا، ولكنه تجمدت في مكانها ووضعت يدها على صدرها شاهقة بذعر وقد شاهدت جسما مظلما يجلس على الأريكة لوحده، لم تعرف ملامحه من الظلام الحالّ على الصالة ولكنها شاهدته وقد خبأ وجهه بين ذراعيه التي أحاط بهما ركبتيه متكورا على نفسه. بمجرد أن سمع ذلك الجسم صوتها رفع رأسه بصعوبة ناظرا إليها، وقال بصوت واهن: أمي! أسرعت إليه وهي تقول: عثمان بنيّ.. متى عُدت؟ جلست بجانبه، وأحاطت رأسه بذراعها اليمنى ويدها اليسرى وضعتها على ركبتيه لتدعمه، أما هو فقد تبسمّ بإرهاق شديد: عُدت قبل دقائق.. عقدت حاجبيها بذعر عندما لمحت زخّات العرق على جبينه وعينيه المغلقتين، وأنفاسه البطيئة، وجدته يعدّل جلسته ثم يضع رأسه في حجرها، وقال بصوت مُكتوم: أمي.. أنا مُتعب.. جدا...! مسحت على شعره الرطب وهي تقول: سلامتك بنيّ.. والدك كاد يتوقف قلبه هلعا عليك! لكنه نام قبل قليل من شدة تعبه. لم تجده يرد عليها فتضاعف قلقها وهي تقول بعتاب: لا شك أنك متعب من مطاردتك لهذا البهبوهو.. ولكن هذه العملية أيضا فشلت، إلى متى الفشل؟ يجب ألا تتعب نفسك بدون جدوى.. المرة السابقة جرحت يدك والآن حُبست في غرفة الأرشيف ولحسن حظك فقد نجاك الله على يد الضابط عبد الرحمن. المرة القادمة لا أدرى ما قد يحصل.. لم يرد عليها أيضا، فقالت بهلع: عثمان.. ما بك بني؟ رد علي. وجدته يقول بإنهاك: قلتُ لك يا أمي، مُتعب.. رفعت وجهه المصفرّ لترى عينيه، ثم قالت بعزم: سأعد لك وجبة طعام تٌسندك.. حرك رأسه وأسندها إلى ظهر الأريكة قائلا بخفوت: يا ليت؛ فأنا جائع. قامت سريعا إلى المطبخ، أما هو فقد قال في داخله متألما بمرارة: آه يا أمي لو تعلمين.. لو تعلمين، أنني مريض بالسكر.. أنتِ وأبي، لا أدري إذا ما عرفتما فماذا سيحصل لكما؟ بعد أن تناول طعامه قال لأمه في رجاء: أتمنى أن تُخبري أبي إذا سأل عني ألا طاقة لي بالتحقيق الذي سيُجريه معي.. أرجوك أماه.. دعيني أرتاح قليلا ليوم واحد فقط.. وسأغيب عن المدرسة أيضا. أومأت خديجة برأسها موافقة، ونظرت له بإشفاق، وهو يعود إلى غرفته، انتظر حتى صلاة الفجر وصلّاها في غرفته لتعبه، ثم استغرق في نوم عميق. _ ابتسم بهابيهو في لذة وهو يشرح لـ مبارك كيفية فشل الشرطة الذريع في العملية الأخيرة، فضحك مبارك ساخرا: المفتش عمير أغبى مما يبدو عليه.. لا يُجيد إلا الصراخ! عبارة عن فم فقط. ضحك بهابيهو مُستمتعا، وهو يسمع مبارك يغتابه، دون أن يفكر حتى في الدفاع عنه، أو ردّ تهمة باطلة اتهمها به مبارك، وتابع بهابيهو في استهزاء: لقد ظلّ ابنه الأحمق يصرخ مستنجدا بعد حبسه في غرفة الأرشيف، هكذا أخبرني فتحي، الشرطي الذي خانهم وصار إلى جانبنا، ولكنه عموما لن يستطيع العودة إليهم، يجب أن يختفي عن أعينهم.. لقد ضحّيت به في هذه العملية لأنني لن احتاجه في العملية الأخيرة. ثم صغّر من حدقتي عينيه قائلا بخبث: العملية الأخيرة والحاسمة، التي سأُرغمهم فيها بالقبض على بهاء متلبسا بملابس بهابيهو.. وهذه المرة سأتأكد بنفسي من ذهابه للسجن والحكم عليه دون أن يهرب. سأله مبارك: ولكن كيف ستجعلهم يقبضون عليه بملابس بهابيهو؟ بالتأكيد لن يقع في الفخ الذي رسمته له قبل ذلك، لن تستطيع جعله يرتدي ملابس بهابيهو مرة أخرى.. ضحك بهابيهو قائلا بتحدي: بل سأستطيع.. وسأثبت لك ذلك، يظن بهاء أنه الأذكى! ولكنني سأجعله يتأكد أنني أذكى منه. ابتسم مبارك بإعجاب كبير لهذا الدهاء، ثم قال: ولكن هل سيجتمعان معا في هذه العملية؟ أقصد بهاء وصديقه المغفل عثمان؟ قال بهابيهو وهو يشرب رشفة من عصير أمامه: طبعا، سيجتمعان، وسيفشلان بتخطيط مني! لن يتمكن هذين الصعلوكين من التغلب علي أبدًا! سكت مبارك، فظن بهابيهو أنه لم يقتنع ببعدُ بانتصارهم عليهم مقدما، فقال: لا تقلق يا رجل من هذه العملية الأخيرة.. هم فاشلون بالفطرة.. ألم ترَ بهاء عندما جاء إليك ظانّا أنك ملجأ له، ونجحت في تنويمه، ولكنه لبطْء فهمه وسُقم عقله فلم يكتشف أنك تنوّمه إلا بعد يومين، ثم هرب.. أتظن أن عقلية غبية كهذه قادرة على هزيمتي؟ لابد أنه الآن قد فقد ثقته فيك وتأكد من أنك مجرم.. ثم ضحك في شماتة: ولكنه حتى الآن لا يعلم من هو بهابيهو المجرم الحقيقي. مضى بعض الوقت وهما يبتلعان العصير المثلج ويأكلان المكسرات، وسأل مبارك: هل عرفوا أنك كنت شرطيا سابقا؟ قال بهابيهو بلا مبالاة: تقريبا عرفوا، ولكن سواء عرفوا أم لم يعرفوا، فلن يستطيعوا أن يثبتوا ذلك، ولو وجدوا اسمي بين سجلاتهم.. فلن يستطيعوا معرفة مكاني! ولو عرفوا مكاني.. فلن يستطيعوا الإمساك بي.. قلت لك، إنهم أغبياء! أطلق مبارك ضحكة طويلة. |