(15) كانا يتمشيان معًا، وعثمان يقول: أتعلم؟ قبضوا على ذلك الشرطي الذي احتجزني! نظر بهاء بفرح: حقا؟ هل كان شرطيا حقيقيا؟ أجاب عثمان: نعم، كان شرطيا مبتدئا في قسم الشرطة، ويبدو أن ناصر اشترى ضميره بالأموال ووعده بإجزال العطاء له عندما ينفذ كلامه وينقل له بعض الأسرار.. بل ويساعده على الهرب في كل عملياته، اسمه فتحي. قال بهاء باهتمام جدّي: هذا ممتاز، ولكن كيف وقع في أيديكم؟ ألم يكن مُختفيا؟ أجابه عثمان: سؤالك ذكي، اسمع، لقد استجوبت الشرطة ناصر حتى يفصح عن أماكنهما، أقصد مبارك وفتحي، وبالفعل أفصح بعد استجواب شديد عن مكانهما وعن كل الجرائم التي ارتكباها، ويبدو أنه لم يفعل هذا بدافع إعانة الشرطة بل بدافع الحقد عليهما، إذْ أنهما طليقان وهو مرمي خلف القضبان! لاحظ عثمان انتباه بهاء الشديد وتركيزه فقال ضاحكا: ما بك؟ هزّ بهاء كتفيه مغمغما ببساطة: ليس بي شيء، فقط كنت مهتما بما تقوله! هيا أكمل! قال عثمان باستفزاز: لن أكمل! إلا إذا شربتً عصيرا على حسابك مع وجبة خفيفة! قال بهاء منزعجا: حسنا أكمل وبعدها نتفق! _لا! لن أخبرك ما حصل.. قال بهاء ضائقا: طيّب! سأشترى لك عصيرا ولكن على حسابك! ضحك عثمان وهو يرفع حاجبيه: إذن ما الفائدة من ذلك! _آخر مرة اشتريت لك فيها عصيرا على حسابي، الآن على حسابك! _لا.. هذا شرطي الوحيد.. أنا مريض بالسكر وعليك الاعتناء بي.. _أيها الـ... أنا لا أرى على وجهك أي علامة على المرض! _قل ما تشاء... لن أُكمل. وظل عثمان يضحك وبهاء ينصرف إلى إحدى الدكاكين الصغيرة ويسلّمه العصير بعصبية شديدة قائلا من بين أسنانه: تفضل! أكمل لو سمحت! دائما ما ينجح عثمان في استفزاز بهاء بتلك الطريقة، وتابع عثمان قائلا: حسنا، أنت مؤدب معي وسأكمل بإسهاب، ناصر اعترف بمكانهما، وعندما داهمت الشرطة مخابئ هاذين الوغدين، لم تقبض إلا على فتحي، ومبارك اختفى.. هرب إلى مكان لا نعرفه! وعندما حاولوا استجواب ناصر مرة أخرى لعله يعرف، أقسم أنه لم يعرف عنه إلا هذا المخبأ.. وبهذا يكون مبارك هو المجرم الهارب.. رغم أن عائلته موجودة في منزله ولكنهم لم ينجحوا في جمع أي معلومات عنه.. وبالمناسبة، لقد قٌطعت يد ناصر اليمنى وحُكم عليه بالسجن لأربع سنوات.. وفتحي لم تُجرى محاكمته بعد ولكن أظن أن عقابه سيكون أشد من ناصر لأنه شرطي خان أمانة عمله.. كما اتضح أن ناصر كان شرطيا سابقا كما توقعت أنا، ويبدو أنه قبل سبع سنوات اشتُبه به في قضية إجرام، وطُرد من قسم الشرطة، ولهذا ظل طوال عمره يحلم بالانتقام منهم، صحيح أنه كان بريئا، وهذا ما جعله يحقد بشدة على الشرطة، لكن هذا لا يُجيز أن يفعل أعمالا إجرامية كهذه! استوعب بهاء، وأطرق برأسه مفكرا، ثم غمغم في شرود: يعني أن مبارك هو الوحيد الهارب الآن! قال عثمان وهو يشرب آخر جرعات العصير: نعم، لم يسافر لدولة أخرى فنحن لم نجد اسمه بين قوائمهم، ولم نجد اسمه كنزيل للفنادق، والشرطة حاليا تبذل كل جهودها للقبض عليه فهو الذي دعم ناصر بالمعلومات، فهو الوحيد الذي كان يعرف حقيقة شخصيتك. تنهد بهاء: لا تقلق، إنه في الأربعينات من عمره وليس له بال للصبر والاختفاء طويلا. قال عثمان عاقدا حاجبيه: وهذا ما جعلني أشعر.. أنه سيفعل جريمة قريبة! للانتقام! ثم نظر إلى بهاء بحدّة، فاتسعت عينا بهاء دهشة، ثم انطلقت ضحكته قائلا: بالله عليك يا عثمان عندما يقابلني مثل هذا العجوز.. هل سيستطيع الانتقام مني؟ أطرق عثمان برأسه صامتا، فقال بهاء: بالمناسبة هل مازال ذلك الحلم يطاردك؟ لقد مرّ أكثر من أسبوع على القبض على ناصر. ابتسم عثمان: لا.. يبدو أنه كان ناتجا عن نفسيتي القلقة في ذلك الوقت. وافقه بهاء: قلتُ ذلك أيضا، لابد أنه كان أضغاث أحلام! __ "هيا بهاء.. اختر لنا وجبة على ذوقك" وقف بهاء محتارا في منتصف الشارع وأمامه طارق وغدير، وهي تمسك بزوجها كما الخاطبين، وتقول ذلك ضاحكة، فقال طارق مرددا: اُدعنا إلى وليمة على حسابك.. بمناسبة براءتك! ابتسم بهاء في حيرة وتردد قائلا: على حسابي يا أبي؟ ولكن ليس معي إلا عشرة جنيهات. ضحك طارق: ليس من شأني، لقد أعطيتك بداية هذا الأسبوع مئة جُنيه، فكيف تبقّى منها عشرة؟ قال بهاء متوترًا: تنزهت قليلا مع عثمان و. هزّ طارق كتفيه في بساطة: لا يهمني، هيا الآن ادعنا على حسابك.. أسرع واختر أي مطعم تعرفه على ذوقك ولا دخل لي بكمية المال التي معك قليلة كانت أو كثيرة.. أطرق بهاء برأسه صامتا وهو يقول في داخله: آه منك يا عثمان، قضيت على ما معي. طارق أحيانا ما يوقعه في مشاكل معقدة ويرى كيف سيتصرف كجزء من تدريبه لتحمّل المسؤولية، وهذه المرة هو متوتر فعلا، فليس معه إلا مبلغ قليل جدا. همست غدير في أذن طارق: أعلم أنك تريد أن تُحمّله المسؤولية ولكن انظر إلى وجهه المتردد الحائر، ارفق به قليلا.. أعطه بعض النقود لكيلا تحرجه.. ضحك طارق وهو يهمس لها بدوره: أنت طيبة جدا، هو من يبذر ماله في نزهاته، يجب عليه أن يعلم أن هذا المال ليس لنفسه فقط! بعد قليل وجدا بهاء يرفع لهما رأسه قائلا: وجدتها، سأشتري بعض الحاجيات من المحلّ وأطبخ لكما في المنزل، ما رأيكما؟ تقوس فمه بخيبة أمل عندما رفع الاثنان يديهما قائلين: كلًّا.. ثم قال طارق مشترطا: قلتُ لك ادعنا في مطعم، وليس في المنزل. فقالت غدير: ويجب أن يكون المطعم ذا جودة عالية، وطعامه لذيذ، دون أن يضر بصحتنا! تنهد بهاء ثم قال: حسنا، لا حيلة لي، اتبعاني ...! ضحكت غدير بخفة وهي تقول بخفوت: أرأيت وجهه؟ لقد وجدها أخيرا.. ضحك طارق مغمغما: قلتُ لك أنه يملك الحل.. المهم، تعالي لنرى ذوقه في اختيار الطعام. مشيا ورائه بعض الوقت، وتوقف أمام يافطة إحدى المطاعم، ثم توقف متبسما: تفضلا ...! هتفت غدير مستنكرة في أذن طارق: مطعم فطائر!! حسبته سيدعوَنا إلى وليمة. همس طارق لها: اهدئي ولا تبيّني دهشتك، علينا تقبل اختياره مهما كان. التفت بهاء لهما ثم ضحك بإحراج: قلتُ لكما ليس معي أي نقود كافية، وأنتما قلتما ادعنا، وها أنا ذا، هيا على حسابي.. دخلا ورائه وجلسا على الطاولة التي أشار لها، ثم ذهب ليطلب لهما. كانت غدير لا تملك نفسها من الضحك وهي ترى أمامها فطائر الجبن الساخنة، وفطائر الزعتر واللبنة، طارق هزها من كتفها: يكفي يا غدير.. ستُحرجين الفتى! كتمت غدير ضحكاتها بصعوبة، وهي تغمغم: كان بإمكاني صنعها بسهولة في المنزل! وألقى طارق نظرة على بهاء الذي كان غارقًا في الخجل، ويجلس بتردد وقد تسلل له صوت ضحكات والدته، وهذا ما زاده توترا، فقال له طارق متبسما: ألن تدعونا إلى التهام الفطائر؟ قال بهاء باضطراب متبسم: نعم.. تفضلي أمي، أبي.. تفضّل. قرّب إليهما الفطائر، وهو يقول: لا تؤاخذاني على هذا، فهذا المطعم ممتاز، دائما ما نشتري منه أنا وعثمان.. كما.. كما أن نقودي لا تكفي لوجبة غالية. تذوقت غدير أول قضمة من الفطائر، أعجبتها كثيرا، فهمست لطارق الذي أعجبه الوضع: لذيذة وشهية.. هل لاحظت؟ أومأ طارق برأسه في استمتاع، ثم قال وهو يلتهمها: يبدو أننا كنا مخطئين عندما اعتقدنا رداءة ذوقه في اختيار الطعام. ابتسم غدير: نعم.. ذوقه رائع! سيحظى على إعجاب الجميع. ضحك طارق: من تقصدين بالجميع؟ قالت غدير وقد شاحت بوجهها: أنت تعرف يا طارق ماذا أقصد! شعر بهاء بضيق في صدره لأنه يرى والديه أمامه يتهامسان ويتناجيان ويضحكان، دون أن يفهم لمَ وماذا يقولان؟ فتنهد وهو يضع باقي فطيرته على الطبق، يبدو أنهما لم يُعجبهما ذوقه! قال طارق باشّا: ما بك بني؟ هل ظننتَ أن ذوقك لن يحوز على رضانا؟ فقالت أمه بدورها شاكرة بلطف رقيق: الفطائر لذيذة جدا وشهية، لم أتصور أنها هكذا. طرب بهاء فرحا لكلماتهما، فقال مبتهجا: أشكركما على الإطراء.. فقال طارق بغموض: سيعجبها ذوقك كثيرا. قال بهاء باستغراب: من هي؟ ضحك طارق وغدير بشدّة، وهو نظر لها بعدم استيعاب، ثم اتسعت عيناه، حياء.. وأثناء الطعام ما فتئ طارق ينظر لبهاء نظرات مختلسه، حالمة، وهو يرى أمامه ابنه، قد كبر وأصبح رجلا! يختار.. ويفكر ويعقل، شرد في منظره، حتى هتف بهاء بوجه مُحمَرّ: أبي، يكفي...! لا تنظر لي هكذا.. وأنت يا أمي أيضا! حينها، انفجر الاثنان ضحكا. ولكنهما، لم يكونا يعلمان، أن هذه الضحكات، عليهما أن يستغلاها جيدا.. ربما لأنها لن تتكرر.. أبدا! __ قال بهاء بعد جهد جهيد وهو يضع يده على رأسه ويشد شعره الأسود الفاحم: عثمان.. لم أفهم هذه المسألة بعدُ.. هل بإمكانك أن تشرحها؟ ألقى نظرة على عثمان المستلقي على سريره ناعسا، وغمغم بكسل: وماذا بيدي أن أفعل إذا كان عقلك معطلا في الوقت الحالي؟ قال بهاء بتضايق: هل لأنني لم أفهم إحدى المسائل تحكم على عقلي بالعطل؟ إذن قُم من سريري هيا، لن أسمح لك بالنوم عليه. قال عثمان: لا، لطالما سمحت لك بالنوم على سريري، لن أقوم. خرج بهاء متململا من غرفته، كان محتارا بالذي سيحصل في الغد؟ فغدًا هو أول يوم سيذهب فيه إلى المدرسة بعد غياب دام أكثر من شهر، هو بالتأكيد ليس متضايقا من نظرة الطلّاب له بالفصل فهو سيتجاهلها تماما، لكن الذي يٌقلقه هي دروسه التي فاتته والتي يُضطر فيها إلى إجبار عثمان على شرحها له. عاد إلى الغرفة بطبق فيه بعض الحلوى، وضعها على مكتبه وراح يعيد التفكير، فتح عثمان عينيه، ثم راح يجلس إلى جانبه وهو يمد يده بلهفة، أمسكها بهاء مسرعا وقال بصرامة: لا.. فلدي سببان لمنعك منها! عقد عثمان حاجبيه بانزعاج: وما هما أيها البخيل؟ قال بهاء: أولا: أنت لديك السكر.. ثانيا: أنت لم تشرح لي المسألة بعدُ. قال عثمان راجيا: أرجوك تغاضى عن السبب الأول وسأفعل لك السبب الثاني. قال بهاء مندهشا: بهذه السرعة! لو كنت أعلم لأحضرتها لك منذ جئت. ضحك عثمان وهو يمد يدها ليلتهم اثنتين، وهو في طريقه إلى الثالثة قال بهاء: كفى.. أخذها عثمان خطفا وهو يضحك قائلا: لا تقلق، السكر لا يعني أن لا آكل الحلوى.. بل ألا أكثر منها فقط! زفر بهاء وهو يقول: حسنا، هيا نفذ ما قلت. اختطف عثمان قطعة رابعة وقفز على السرير صائحا: إذن انتظر حتى آخذ غفوة! قام بهاء غاضبا حتى أن الكرسي الذي كان يجلس عليه سقط أرضًا، فتح عثمان عينيه ليجده أمامه واقفا، ضحك قائلًا: ماذا ستفعل؟ وجده قد هجم عليه وراح يحاول أخذ قطعة الحلوى التي بيده، حاول الاثنان جذبها من بعضهما البعض، حتى تمزقت بين يديهما، وتلوثت ملابسهما بـالكريمة التي كانت عليها، تنهد عثمان بعصبية: لمَ فعلتَ ذلك؟ قال بهاء مُوبّخًا: هكذا ستضر نفسك، ثلاثة قطع تكفيك! زفر عثمان بضيق ثم رفع يده ومسح بالكريمة وجه بهاء صائحا: يا لبخلك! كيف تبخل على أعز أصدقائك وهو أنا؟ ابتسم بهاء غاضبا هو الآخر ومسح بالكريمة وجهه هاتفا: بل أنت وغد. توقف الاثنان فجأة وهما ينظران إلى صورتهما المنعكسة على مرآة خزانة الملابس، ثم وقعا على الأرض من شدة الضحك، فقد كانت الكريمة تلوث وجههما بشكل بشع مثير للسخرية، وكأنهما طفلان في الابتدائية وليسا فتيَان راشدان في الثانوية! واحمّرت وجوههما وقد دخل طارق إلى الغرفة ونظر لهما بدهشة كبيرة، وغمغم متبسما باستغراب: ماذا تفعلان؟ كنتُ أظنّكما تذاكران الدروس.. ثم قال بدهشة: لم أعلم أنكما تلطخان وجهيكما بكريمة الحلوى.. التفت الاثنان إلى بعضهما البعض وهما يضحكان بشدة. __ عاد عثمان إلى منزله بعد ليلة مسلّية قضاها مع بهاء وأبيه، فرح بها كثيرا، لقد كانت خير ختام لرحلتهما الطويلة المُتعبة التي خاضاها معًا. دخل إلى الصالة ووجد والدته ووالده يجلسان أيضا ويسمران مع بعضهما، تقدم وسلّم عليهما، همّ إلى غرفته لكنهما عرضا عليه أن يجلس معهما، كان يشعر بالتعب بيْد أنه لم يستطع أن يرفض طلبهما، خصوصا أن خديجة طلبت منه باسمة أن يتذوق الكعكة التي صنعتها اليوم.. لم يُرد إحراجها فتناولها مُكرها وهو يدعو في سّره أن يستر الله عليه حتى يتناول جرعته المحددة من الأنسولين! جلسا يتكلمان وعثمان مندمج معهما، حتى وجد أنه ينام على نفسه بعد قليل، فاستأذنهما بلطف لينام، وعندما وقف.. دارت الدنيا واضطر للجلوس مرة أخرى وهو يُمسك رأسه. اقتربت خديجة منه قائلة بقلق: ما بك بُنيّ؟ قال باسمًا بإنهاك: لا شيء.. أنا أشعر بنعاس، سأذهب للنوم. وحاول القيام مرة أخرى، لكنه لم يستطع. تبّا لمَ فعلتٌ هذا بنفسي؟ هذا ما ينقصني! جفناه تثاقلا، ورأسه ارتخت إلى المسند الخلفي للأريكة، حاول اختلاس النظر إلى وجه أبويه الفزعين لكنه لم يستطع الصمود طويلًا فاستسلم للظلام. يناديان عليه، لا يجيب، يقتربان، يصيحان: عثمان! لكنه لا يرد؛ فقد ذهب إلى عالم آخر! |