السلام عليكم ورحمة الله وبركاته سعيدة أن رأيت أيقونة روايتي في أعلى صفحة المنتدى أشكر الإدارة على ذلك وشكرًا عزيزتي وعاموو على البنر الرائع
كما وعدتكم إنه الخميس وقت الجزء الثالث
(3)
زفر بهاء زفرة حارة وهو يجلس في الصالة حول مائدة مستديرة ويمسك قلما ويشرد في الكتاب الذي أمامه.
تذكّر كيف أنه ذهب إلى المدرسة بعد إصابته،
وحاول إخفاء عرجه عن عثمان الذي كشفه بمجرد أن رآه واقفًا في طابور المدرسة الصباحي،
ثم صبّ عليه التوبيخ، وشعر بهاء بالتهاب في أعصابه بعد ذلك الاستجواب الذي تلقّاه منه عن إصابته،
رغم أن بهاء نجح في إقناعه أنها مجرد إصابة لسقوطه من السلم..
ولمّا عاد من مدرسته بعد يوم مُرهق فوجئ بوالدته في انتظاره،
واستجوبته كالعادة عندما رأت ملامح ألم بسيطة على وجهه وهو يخلع حذائه، فاكتشفت الأمر برمّته،
ونجح أيضًا في إقناعها أنها إصابة من السلّم، لكنها هددته إن أخفى شيئًا عنها بعد ذلك فلن يحصل له خير!
انتهى اليوم العصيب وبهاء على وشك الانهيار،
كان يستغرب بشدة من كل ذلك الغضب الذي يبديه من حوله عندما يعلمون بأمر إخفائه عمّا يؤلمه،
ولكنه ظل يفكر في حيرة: لماذا ينزعجون؟ أليسوا إذا أخبرتهم بآلامي سيتألمون معي أيضا؟!
وأنا سأتألم لآلامهم لآلامي!! يا لها من عملية معقدّة..
قطع أفكاره صوت فتح الباب ليجد والده عائدًا من العمل، تأمل والده تلك المائدة التي عليها طبقا حساء لم يُنهيا بعد، وعدة كُتب وأقلام،
كان من الواضح أن بهاء يذاكر فيهما ويأكل من تلك الأطباق،
لكنه ما إن رأى ملامح بهاء المُنهارة والمُرهقة حتى انفجر ضاحكًا، لدرجة أنه جلس على الأريكة وهو يكاد يستلقي على ظهره..
أما بهاء فقد شعر برغبة عارمة في البكاء، ووضع رأسه على المائدة وهو يهمس بصوت باكٍ:
أبي.. أرجوك لا تضحك علي بهذه الطريقة!
ظلّ طارق يضحك لعدة ثوان قبل أن يهدأ ويتنحنح قليلا ثم يعتدل في جلسته،
ويبتسم لبهاء قائلا بصوت لم تختف منه الضحكات:
أنا آسف.. لكنني لم أستطع منع نفسي عندما عرفت ما جرى لك من استجواب!
رفع بهاء رأسه بطريقة مفاجئة وهو يقول بألم: بل استجوابان يا أبي!
همّ طارق بالضحك مجددا لولا أن بهاء نظر له بضيق شارد،
فتنهد بصوت مسموع وهو يقول بصدق: لا أعلم كيف أواسيك يا بهاء، لكنهم يحبّونك حقًّا..
انسدل جفنا بهاء على عينيه الرماديتين بحزن مُغمغمًا: أعلم...!
أكمل طارق بلهجة حنونة:
ويؤلمهم كثيرًا أن يعرفوا أنك تتألم بدون إخبارهم، إنهم يعتبرون مشاركتهم لألمك جزءًا أساسيًّا من حبّهم لك.
ارتسمت نظرة شاردة على وجه بهاء وهو يُطرق برأسه،
ثم غلبت على وجهه ابتسامة باهتة عندما قال طارق بمرح:
ولهذا يقومون باستجوابك بعنف عندما يعلمون أنك أخفيت عنهم شيئًا.
لكنه أردف بعد دقيقة بإشفاق:
وسيظل هذا الاستجواب مستمرًا لك حتى تتوقف عن إخفاء آلامك بهذه الطريقة يا عزيزي.
_
كان بهاء يتناول الغداء بهدوء مع والده بعد أسبوع، والأخير يقول له:
هذا صحيح، بالمناسبة يا بهاء، لقد قررت!
رفع بهاء رأسه وهو يقول باستغراب: قررت ماذا؟
أجاب طارق: قررتُ منعك من عمل بهابيهو...
شهق بهاء وهو ينظر بصدمة، فأكمل طارق بلهجة خاصة: إذا عُدت لي مُصابًا مرة أخرى!
تنهد بهاء براحة وهو يقول باكتئاب: لقد أفزعتني.. ثُمّ إن إصابتي لم تكن بيدي.
هزّ طارق كتفيه وهو يأكل: لا دخل لي، هذا شرطي، أمك ستقتلني إذا حصل لك شيء ما، لذلك علي قتلك قبل هذا!
قال بهاء ضاحكا: حسنا، لا بأس، سوف أحاول.
سكت الاثنان عندما سمعا صوت غدير قادمة، وضعت طبق حساء الدجاج أمام بهاء بعصبيّة،
وهي تجلس قائلة: هذا الطبق ستُنهيه كله!
هتف بإحباط: أمّي..
قالتْ بانزعاج: لا اعتراض!
يكفي أنني قد علمتُ بإصابة قدمك منذ أيام قليلة، كأنك تتقصّد أن تخفي عني كل شيء.
أطرق بهاء بضيق وعلى وجهه الهمّ، فقد كانت أمّه تُطعمه كل يوم في الإفطار طبقًا كاملا من الحليب مع الشوفان بالفواكه،
ليتغذى على حسب قولها ويعوَض إصاباته، وفي الغداء طبق حساء كامل مع الخضار أو اللحوم، وفي العشاء تنوّع بين هذا أو ذاك!
وقفت غدير وهي تمسح على ظهره بحنان قائلة بهدوء مُخيف:
بنيّ، إذا لم تُنه هذا الطبق قبل أن ينهي والدك غدائه فستُعاقب بغسل مواعين اليوم!
همّ بهاء بالدفاع عن نفسه لولا أن رأى والده يرفع راحتيه بطريقة طفولية ويهتف بمرح: لقد انتهيـــــت!
ثم كتم ضحكة خبيثة كادت تخرج منه عندما رفعت غدير يدها لتشير إلى بهاء هاتفة بمرح هي الأخرى: إذن لقد عوقبت! اغسل جميع المواعين بعد رفع الأطباق يا حبيبي...!
قال بهاء بصدمة: لا.. كلكم متآمرون عليّ! لقد أنهى أبي غداءه في نفس اللحظة التي قلت بيها تلك الجملة يا أمي وكأنه يريد عقابي.
قالت غدير بعدم حيلة وهي تعود إلى المطبخ: هذا ليس بيدي!
سكت بهاء غاضبًا عندما نظر إلى والده الذي كان ينظر إلى السقف ممثلّا أن لا ذنب له في شيء..
وأكمل طبقه في صمت وهو يفكر بحرارة كيف يرّد الانتقام لوالديه.. كيف كيف!
حتى تغير صوت أبيه فجأة وهو يقول له بجدّية: صحيح يا بهاء هناك ما أريد مناقشته معك.
انتبه بهاء للهجة والده الجدّية ونظر إلى عيني والده بتركيز،
فقال طارق بهدوء:
لمَ خرجت البارحة بشخصية بهابيهو قبل أن تتعافى تمامًا؟
لقد وافقت على استمرارك بهذه الشخصية لكنني لم أسمح لك بعد بالخروج قبل أن أطمئن عليك.
اتسعت عينا بهاء بذهول وهو يقول: أنا؟! أنا لم أخرج هذا الأسبوع أبدًا بتلك الشخصية منذ إصابتي!
اتسعت عينا طارق بدوره وهو يقول: يا الله! ماذا يعني هذا يا بهاء؟ لقد رأيت هذا في أخبار البارحة، ليس أنت...
رددّ بهاء بانبهار: هذا صحيح، لم أكن أنا، لقد انتحلوا شخصيتي...!
_
كان بهاء قد شاهد جميع الأخبار على شاشة التلفاز، وعرف بخروج ذلك الرجل الذي يشبهه تمامًا،
ضغط على أسنانه بغضب عندما عرف بعملياته التي بدأ يسرق فيها من الشركات سرقة حقيقية تتضمن أموالًا ومجوهرات،
كانت هذه الشخصية المُزيّفة سببًا لتشويه سمعة بهابيهو من بطل يكشف نصب الشركات إلى مجرم يسرقها.
وكم كان هذا مؤلمًا لبهاء،
فلم يكن يهدف في بداية إنشائه لشخصية بهابيهو إلا أن تكون يدًا في إنقاذ الناس من خدع الشركات الكاذبة وأمثالها،
لكنها تحوّلت الآن إلى شخصية مجرم.
تنّهد بحرارة متحسّرًا وهو يرفع رأسه إلى السماء، ابتسم بألم وهو يقول بصدق:
قدّر الله وما شاء فعل، بإذن الله خير!
التفت إلى الخلف عندما طرق والده الباب فسمح له بالدخول وابتسم ابتسامة واسعة عندما رأى والده واقفًا على الباب،
ثم قال بلطف: كيف حالك يا أبي؟
ابتسم طارق بدوره وهو يردّ ثم يغلق الباب خلفه ويقف مستندًا إليه بطريقة أشعرت بهاء أن هناك ما يريد قوله ولا يريد لغدير أن تسمعه.
ثم قال طارق بعد صمت: بهاء، آسف لقراري هذا.. ولكنك تعلم أنني سمحت لك الخروج بشخصية بهابيهو تلك ولكن الآن..
ابتسم بهاء بمرارة وهو يقول: أعلم.. ستمنعني إلى الأبد!
أغمض طارق عينيه وقد توقّع ذلك، ثم غمغم قائلًا: هذا صحيح، أتمنى أن تنسى أنك خرجت بهذه الشخصية يومًا ما..
ثم فتح عينيه بحزم وهو يقول ضاغطًا على حروف كلامه: أهذا مفهوم؟
أطرق بهاء برأسه شاردًا ثم ردد بأسى بعد ثوان: نعم.. مفهوم يا أبي.
ثم انتظر بهاء أن يرحل والده بعد ذلك لكنه اندهش من اقترابه منه حتى وقف بجانبه مباشرة،
ثم قال بحنان مُشفق: وأتمنى أيضًا أن تتوقف عن التفكير في هذا البهابيهو، وتفكّر في حياتك الحقيقة الآن.
لم يندهش بهاء من معرفة والده ما يفكر به، فابتسم بصدق وامتنان قائلًا: نعم يا أبي، سوف أنسى ذلك الوغد، وسأركّز في حياتي الآن.
اتسعت ابتسامة طارق وهو يقترب، ويقترب حتى أثار خوف بهاء الذي غمغم مُتراجعًا: ماذا ستفعل؟
عانقه طارق برفق وهو يهمس: ما بك؟ هل العناق شيء مُخيف لهذه الدرجة؟
ضحك بهاء ضحكة قصيرة وهو يشعر بالبهجة، ثم قال بصوت مُتهدّج: لا.. ليس مُخيفًا على الإطلاق!
كان بهاء يحاول التماسك حتى الآن، لكن صدر والده الرفيق جعله على وشك الانهيار!
"ماذا تفعلان"
كان صوت غدير وهي تسأل باستغراب، ضحك طارق وهو يقوم واقفًا ويقول بهدوء: لقد كنت أعانق ابني.
رددت باستغراب مرة أخرى والجواب لم يُعجبها: لم؟
ثم غمغمت في قلق وهي لا ترى إلا ظهر بهاء: هل هو بخير؟
اختلس طارق نظرة مُتورّطة إلى بهاء الذي كان قد انفلتت مشاعره وبدأت عيناه بالفيضان،
وهو يحاول السيطرة على نفسه وقد تسارعتْ أنفاسه، وهو يمسح دموعه بيديه،
همس طارق في أذنه عابسًا: أيها الأحمق! لمَ تبكي في وقت كهذا!؟ سوف تعتقد أمك أني فعلت بك شيئا!
ابتسم بهاء وسط دموعه ولم يرد، لقد كانت خطوة والده لضمّه خطوه موفقة،
فقد شعر بهاء بجميع مشاعره المكبوتة تظهر لتخرج على وجهه،
في تلك اللحظة أحس باطمئنان مُريح يسري في أوصاله ويجعله مستعدًّا لبث كل ما يُقلقه.
وخرجت كل تلك المشاعر على شكل دموع، لم يستطع بهاء كتمانها في هذا الموقف!
حاول طارق منع غدير من القلق قائلا بمرح:
أنت تعلمين أن بهاء في سنّ المراهقة ويحتاج إلى اثني عشر حضنا في اليوم وإلا لن يحيا حياة مُريحة، هذا ما قرأت في إحدى أبحاث علوم النفس،
ولهذا قررت بدء هذه الخطّة اليوم وقد فوجئت بأنه كان مُحتاجًا إلى ذلك أشد الاحتياج،
والحمد لله أنني لحقته وإلا لكان بحث عن هذه الأحضان في مكان آخر..
ثم غمز لها بخبث فقالت ذاهلة: مكان آخر؟ لا يعقل!
شعر بهاء أن والده يخرّب الموقف أكثر، فالتفت إلى والدته بنفسه قائلا:
لا تصدّقي يا أمي، أنا فقط كنت متضايقا بسبب تولّي أعمال المنزل كل الأيام الماضية، وقد خفف أبي عني.
صُدمت غدير من وجهه المحمّر المُبلل بالدموع، فهتفت باكية بألم:
يا إلهي، أنت تبكي فعلا، تعال يا بنيّ يا حبيبي، تعال إلى حضن أمّك!
سوف أعوّضك عن كل تلك الأحضان التي لم أحضنها لك سابقًا.
استوعب بهاء أن والدته قد فهمت الأمر بشكل خاطئ،
فاتسعت عيناه رعبًا وأمه تحتضنه بشدة ويرى والده يهرب ضاحكًا بخبث، صرخ: لاااا..
_
كان بهاء جالسًا بهدوء يتصفّح الانترنت على حاسوبه المحمول، وهو يشرب من كأس الشاي الأحمر بجانبه ويتحدث مع صديقه عثمان،
ثم ندت منه ابتسامة كادت تتحول لضحكة وهو يرى رسالة عثمان
"هل مازال جسدك بخير بعد أحضان والدتك الاثني عشر؟"
ردّ عليه بضحكة "لقد نجوتُ بأعجوبة، سوف أريك ما رأيتُ غدًا"
ضحك عثمان بينما حوّل بهاء نظره إلى تلك النافذة الصغيرة التي أتت على جانب الشاشة لتنبهه أن هناك رسالة وصلت إلى بريده الالكتروني.
جذبه عنوانها الغريب جدًّا "إلى بهابيهو الحقيقي" فتحها سريعا وهو يشعر بقلق غريب منها،
خصوصا أن مُرسلها شخص مجهول! من الذي يعلم أنه بهابيهو الحقيقي؟
أسرعت عيونه تقرأ الرسالة
"بهابيهو الحقيقي،
لا تسألني كيف عرفت عنوان بريدك لأنني سأخبرك بنفسي، فقد كتبت حروفه بالإنجليزية وبحثت عن عنوان بريد بهذا الاسم،
وإن كانت هذه الرسالة قد وصلتك، فهذا يعني أنني نجحت في تخمين حروف بريدك الصحيحة، رغم أنني لم أتوقّع هذا أبدًا!
المهمّ، أنا أتمنى من الله أن تصلك رسالتي، وأن تساعدني في محنتي، أنا أعلم أن آخر أربع عمليّات حصلت لم تكن أنت،
لدي إحساس قويّ أنك من المستحيل أن تسرق بهذه الطريقة!
وإلا لما كنت بدأت عملياتك بالنزاهة وإنقاذ الناس من براثن الشركات المُخادعة،
لهذا تأكدت أن تلك الشخصية التي ظهرتْ مؤخرًا ليست إلا منتحلة لشخصيتك واستغلت غموض شخصيتك لتقوم بالسرقة،
ولكنني الآن أتوسل إلى بهابيهو الحقيقي، الذي بدأ أول ثلاث عمليّات له بنفسه مُنقذا الكثير من الناس الذين يُخدعون،
أنا أتوسل إليك، أن تساعدني.
لقد قامت شركة مشهورة جدًا لشحن البضائع بخدمتي أنا وأمي،
بالمناسبة أنا فتاة، المهم كنا قد بدأنا مشروعنا الأول بعد وفاة أبي ورفض عمي أن يُخرج من جيبه قرشًا واحدًا لمساعدتنا،
قمت بدراسة هذا المشروع واستدنت من البنك مبلغًا كبيرًا بالنسبة لي، فأنا أتحمّل مسؤولية نفسي وأمي الآن،
كنت متأكدة من نجاح هذا المشروع لأنني أدرس في كلية التجارة وقد عرفت كيفية صنع مشاريع ناجحة،
كان هذا المشروع مُعتمدًا على استيراد بضائع من الهند، وقع اختياري على هذه الشركة لأجل شهُرتها،
ولكن لأنني عميلة غير مهمة بالنسبة لها، ولا رأي لي، فقد قامت بخداعي،
لقد استولت على كل تلك البضائع التي اشتريتها من الهند بالقرض،
وبالطبع بما أنني عديمة الخبرة، فقد كان سهلًا سرقة الوثائق التي تُثبت تورّطهم في الأمر، وهكذا خسرت في هذا المشروع قبل أن أبدأه،
ولن أشرح لك كيف أن ظروفي اشتدت بعدها، ونحن على وشك الطرد من المنزل الذي نسكن فيه الآن، أرجوك..!
إذا سرقت المستندات التي تثبت تورط هذه الشركة، سيكون بالتأكيد فيها مستندات خداعي،
وسآخذ حقي منها أمام القضاء، على الأقل سأسترد أموالي، وسأصبح قادرة على البدء من جديد..
أرجوك، أنا أعلم أن هذه مخاطرة بالنسبة لك، لأن الناس يعتقدون أن بهابيهو لص،
ولكنني أعرف أن مناصريك الحقيقين يعرفونك، ويعرفون صدقك ورغبتك في إنقاذهم، لذا، أرجو أن تبذل جهدك..
وعلى كل حال، حتى لو رفضت، فسأظل أدعو الله أن ينصرني، سواء بك أو بغيرك، وسلام عليك."
كانت الرسالة طويلة نوعًا ما، ربما لأنها فتاة، وربما لأنها كانت تشتكي من الظلم! وما أشد الظلم.
توقف بهاء أمام الشاشة شاردًا ينظر بإشفاق وهو يتخيل حياة هذه الفتاة المسكينة، أطرق برأسه مليًّا،
ثم رفع رأسه وعيناه مليئتان بالعزم، ألقى نظرة على اسم الشركة الذي كان مكتوبًا في الملف المُرفق بهذه الرسالة، وموقعها ومعلومات عنها،
أنهى كل ذلك ثم قام بثبات، وهو يغلق جهازه المحمول، ويقول: آسف أبي.. لكن.. إنها المرة الأخيرة!
_
أخذ بهاء نفسًا عميقًا وهو يجلس فوق أحد سطوح البنايات التي تُواجه شركة الشحن مباشرة، كان يُراقبها منذ ساعتين حيث أُغلقت الأنوار،
وغادر كل العاملين بها، فقرر القيام بجولته الآن.
وقف بثبات والرياح تحرّك لثامه وملابسه الواسعة، ثم قفز بهمة نحوها، كان الدخول من أحد النوافذ المُطلّة على شرفه عملًا يحتاج إلى التركيز،
وكان بهاء ناجحًا في ذلك، ثم اتجه مباشرة إلى مكتب المدير بمجرد دخوله،
لأنه يعلم أن مكتب المدير هو الذي يضم جميع الأسرار والمستندات!
ظلّ نصف ساعة يقلّب في الأوراق التي يجدها في أدراج المكتب على ضوء مصباحه الصغير، علّه يجد شيئًا يدين هذه الشركة،
لكنه لم يجد، توقف أمام ذلك الدرج الأخير وهو عاقد الحاجبين، أهذه الشركة مُحتالة حقا كما ذكرتْ تلك الفتاة؟
هذا ملاذه الأخير.. إن لم يجد فيه شيئا سيرحل! فقد بدأ يسمع خطوات غريبة في الخارج.
بمجرد أن فتح ذلك الدرج حتى التمعت عيناه، فقد وجد ملفًّا بعنوان "ملف العملاء" كان متأكدًّا أن هذا هو المطلوب،
فالتقطه بسرعة في نفس اللحظة التي فوجئ فيها بفتح كل الأضواء وصوت من خلفه يقول بصرامة: إياك أن تتحرك!
اتسعت عيناه بذهول وهو يلتفت إلى رجل الأمن خلفه، أدخل الملف في سترته الرمادية وانطلق بدون أن يبالي بذلك الرجل الذي صرخ:
لا تهرب.. بهابيهو، أنت محاصر!
قفز من النافذة سريعًا وبحذر، والتقط أنفاسه عندما وجد تلك الحافة التي يقف عليها، ليست موجودة في بعض البنايات،
وهذا يورّطه كثيرًا عندما يحتاج الهرب.
وتساءل في قرارة نفسه كيف عرف رجل الأمن هذا بوجوده؟ فهو لم يُثر أي ضجة أبدًا..
واتسعت عيناه رُعبًا عندما نظر إلى الشارع من تحته، ففوجئ بسيارات الشرطة تملأ المكان، وأضوائهم الصاخبة تَضيء الليل،
وسمع صوتًا يقول عبر مكبّرات الصوت: إلى المجرم بهابيهو،
أنت مُحاصرٌ تمامًا بين سيارات وأفراد الشرطة، نأمرك بالاستسلام حالًا!
تسارعتْ أنفاسه بعنف وهو يرى نفسه لأول مرة يُواجه موقفًا كهذا، أن تحاصره الشرطة شيءٌ فظيع جدًّا بالنسبة له،
خصوصًا أنه ليس هو المجرم الذي يطلبونه، كان يود لو يخبرهم بالحقيقة،
وتساءل في نفسه بدهشة كيف عرفوا مكانه وكيف لحقت الشرطة به هكذا!؟
يا إلهي.. يبدو الموقف خدعة وقعت فيها بغبائي...!
ضغط على أسنانه غيظًا وألمًا عندما بلغ تلك النقطة وهو يقول بانهيار داخلي: أكانت رسالة الفتاة خُدعة لإيقاعي؟!
لم يجد وقتًا كافيًا للتحسر فقد هتف أحد أفراد الشرطة: إنه بهابيهو.. واقف على تلك الحافة!
قفز سريعًا بمهارة إلى البناية المقابلة حتى أن من رآه شهق مُندهشًا، ولكنه شعر بالرعب عندما فوجئ بأفراد الشرطة ينتظرونه على الأسطح،
لقد كانوا يعلمون طريقة هروبه! فكّر بجنون:
ماذا أفعل؟ يا إلهي، لقد حاصروا المكان بشكل مُرعب...!
هل سأستطيع الهرب؟
قفز بذعر عندما شعر بأحد الشرطة خلفه يكاد يُمسكه وهو يقول بغضب: اقبضوا على بهابيهو اللص!
ظل يقفز وهو يغمغم بألم: لستُ أنا! يا الله، لن يصدقونني بالتأكيد، وليس لدي دليل أنني لست بهابيهو المُزيّف،
لذلك علي الهرب من هنا سريعًا، فلا مجال للاستسلام لهم أو حتى الوقوع بأيديهم الآن..
ثبتت تلك الفكرة في عقله فنظر إلى الأفق بعزم وإصرار، وهو يتابع هروبه بقوة رغم شعوره بالإرهاق.
كان كشبح أسود في هدوء الليل يقفز على المباني بقوة رهيبة، قفزاته عالية، وجسمه خفيف،
كل من يراه يحسبه لا يبالي بضوضاء الشرطة خلفه، لكن الحقيقة أن قلبه كان ينبض بعنف،
فقد كان يرى الشرطة لأول مرة في حياته تُطارد مُجرمًا، وتطارد من؟ تُطارده هو!
لكنه وعدهم، وهو يهمس بغضب: أقسم لكم أن أبيّن لكم الحقيقة،
ولكن بعد أن أجد الدليل على براءتي، فلو استسلمت الآن ستصدرون عليّ حُكما ظالمًا حتما!
توقف تفكيره عندما شعر بشخص يلاحقه بقوة تماثل قوته، وارتجف قلبه رعبا وذعرا عندما أطلق ذلك الشخص النار،
فوقع بهابيهو متعثرا على السطح من أثر المفاجأة،
لم تصبه الرصاصة ولكنها كانت كفيله بأن تجعل جسمه يرتجف من مقدمة رأسه وحتى أخمص قدميه؛
خصوصا أنه لأول مرة في حياته يواجه مسدسا حقيقيا يُطلق عليه!
والتفت بخوف وهو يتظاهر بالثبات والهدوء وهو يُغمغم في داخله متضرعًا: اللهم اكفنيهم بما شئت.
فوجئ بأحد رجال الشرطة الشباب، عليه ابتسامة غريبة، ابتسامة شامته واثقة وهو يصوّب مسدسه نحوه، استغرب في داخله من هذا الوضع،
ألن يأمره بالاستسلام؟ ألن يقبض عليه ويضع الأصفاد في يده؟
إذن لماذا هذا الشرطي يمسك بمسدسه في نشوة؟!
لكنه وقف بهدوء حذِر لكي يتفاهم معه أولا على إنزال سلاحه وهو يقول متسائلا بصوت مرتفع:
أظن أنكم لا تقبضون على المجرمين بهذه الطريقة، أليس كذلك؟
ولكن ذلك الشرطي الذي يقف وحيدا ازدادت ابتسامته اتساعا وهو يُمسك المسدس ويستعد لضغط الزناد،
شعر بهاء برعشة خوف تسري في أوصاله، وابتلع ريقه بصعوبة وهو يقول: لحظة أنت...
قطع جملته وهو يرى الرصاصة المُرعبة تمرق بسرعة مُخيفة نحوه،
نعم رآها ولم يسمعها لأن ذلك الشرطي كان يُطلق من مسدس كاتم للصوت،
واتسعت عيناه رعبًا وهو يرى تلك الرصاصة تصل في جزء من الثانية لتستقر في جانبه الأيمن،
ثم بقعة كبيرة من الدم تظهر سريعا، لتكبر مساحتها على ملابسه الرمادية!
رغم ارتباكه وصدمته وألمه الذي تفاجأ به، إلا أنه استوعب الأمر سريعًا، هذا الشرطي ليس طبيعيًّا،
هذا إن كان شرطيَّا أصلا، المهم الآن هو الهرب منه،
فمن الواضح أنه يريد شيئًا خبيثًا! قفز سريعا وهو يُوشك أن يطير فوق المباني لكي يبتعد بأقصى سرعة ممكنة عن هذا الشرطي الغريب،
وعندما لمح خيال هذا الشرطي يلحقه، قفز إلى الأسفل بسرعة هائلة، واختفى تحت المباني،
راح يجتاز الأزقة الضيقة ويسلكها واحدا تلو الآخر، دخل في متاهات كثيرة ولكنه لم يبال! لقد كان أهم شيء لديه الآن هو الهرب من أيدي الشرطة،
حتى وقف عند زقاق مظلم ضيق وقد شعر بآلام رهيبة في جانبه وصدره، وازداد نزيف جرحه إلى حد أغرق ملابسه،
لكنه انتظر بهدوء كاتما أنفاسه اللاهثة، يفكّر كيف يخرج من هذه المصيبة؟ لا شك أن أحدا أوقعه في هذا الفخ السخيف!
"بهاء، هل تسمعني؟"
التفت بهاء إلى وجه عثمان الذي ينظر إليه في اهتمام،
فأومأ برأسه بالإيجاب، فتنهد عثمان وهو يعود إلى كتابه التاريخ الذي يذاكر فيه، ويقول بهدوء:
لقد لاحظتك تُغمض عينيك بألم وكأنك تتذكر شيئا فظيعا!
ابتسم بهاء ابتسامة باهتة وهو يغمغم: لقد كان شيئًا فظيعًا حقا!
|