(2)
في نفس اليوم ظهرًا. كان عثمان جالساً عند بهاء بكسل وهو يقول له باستفزاز: أنت تجلس بدون أن تتحرك، يا أخي حاول القيام قليلا، ستتعفن في السرير، ستتصلّب مفاصلك، منذ أربع وعشرين ساعة وأنت قابع فيه. ثم ضحك ضحكة شريرة، وهو ينظر إلى بهاء، والآخر يقطب حاجبيه بغضب وهو يراقب تصرفاته، ثم غمغم: لم يقل لك أحد يا أخي أن تقدمّ رأيك، فالجسم جسمي والمفاصل مفاصلي. ضحك عثمان بسخرية، ثم أخرج ورقة مكتوب فيها: بهاء هو بهابيهو. التي ما إن رآها بهاء حتى كاد يفقد أعصابه، ولكنه لم يستطع، فقال عثمان وهو يتظاهر بعدم الاكتراث: لا أدري حقا يا بهاء إن كان أبي سيفتشني عند عودتي للمنزل أم لا.
هتف بهاء بصوت عال من بين أسنانه: عثمان! ضحك عثمان قائلا: ما بك يا عزيزي؟ أجابه بهاء: أنت تريد استفزازي صحيح! ضحك عثمان مرة أخرى وهو يقترب من بهاء ويربتُ على ظهره قائلا: ومن قال ذلك الكلام؟ أنا! بالطبع لا.. ها.. بهاء.. أخرجُ من هنا؟ أم أبقى؟ تنهد بهاء قائلا بابتسامة مغتصبة: ابقَ يا عزيزي عثمان! قال عثمان مفتخرا: هكذا أريدُك أن تكون مؤدبا! وخلوقا! خصوصا مع أعز أصدقائك وهو أنا، أفهمت؟ أجابه بهاء بغضب مكتوم: نعم!
ابتسم عثمان ابتسامة راضية مطمئنة، وخرج وهو واثق من نفسه! وبعد أن أغلق الباب، غمغم بهاء بضجر: لا تصدق نفسك أيها المغرور! حينئذ فُتح الباب وظهر عثمان وهو يسأل عاقدا حاجبيه: أقلت شيئا؟ أجابه بهاء متظاهرا الابتسامة اللطيفة: لا يا صديقي عثمان، اذهب وأنت مطمئن البال. ابتسم عثمان ثم أغلق الباب، حينئذ هتف بهاء: اغرب عن وجهي! فُتح الباب مرة أخرى وإذا بعثمان يظهر قائلا: لقد سمعت شيئا! أجابه بهاء وهو يبتسم: شعرت بالألم فصرخت! غمغم عثمان: هكذا إذن! عليك الاعتناء بصحّتك!
ثم خرج، وأخذ بهاء عدّة أنفاس قوية ليحاول السيطرة على أعصابه ويهدأ. يعلم أن عثمان كثير المزاح، وهو يمزح الآن بالذات ليخفف عنه، لكنه ينجح كل مرة في رفع ضغطه! حاول بهاء النوم ولكن الباب طُرق، فقال بهاء بجفاء: ادخل أيها الوغد! تابع الباب ببصره وهو عابس ظنا منه أن الطارق هو عثمان! دخل رجل ما، في الأربعينيات، عيناه طبق الأصل من عيني بهاء، لديه شعر أسود فاحم أُسدلت بضع خصلات ناعمة منه على جبهته المستوية الواضحة، إضافة إلى حاجبيه الرقيقين، وعينه الواسعة الحادة، وشاربه الأسود ولحيته القصيرة، جسده طويل القامة، عريض المنكبين، ممشوق القوام! كان بهاء ينظر له بذهول ويردد بدهشة: أبي!
ابتسم له أبوه قائلا بلطف: ما بك يا بنيّ؟ هل أصبحت أعصابك هائجة مؤخّرا لدرجة أن كل من طرق باب غرفتك أصبح وغدًا؟ ردد بهاء بدهشة مرة أخرى: أبي!
اقترب طارق منه واحتضنه بحنان بالغ، هامسًا بحب: لقد كدنا نموت قلقا أنا ووالدتك، حمدا لله على سلامتك يا بني!
بعد قليل جاءت أمه مهرولة وهي تحمل وردا أحمر وعلبة من الحلوى، ولكنها ما إن رأت ابنها حتى أسرعت إليه واحتضنته بعد ابتعاد والده بسرعة خائفًا منها ثم قال ضاحكا: هكذا سنقضي عليه! برفق قليلا يا غدير!
قالت غدير متأثرة: يا إلهي، لم أعد قادرة على التعبير عن فرحتي، أتمنى ألا تكون متألما من شيء يا بني. أجاب بهاء باطمئنان: اطمئني يا أماه، فأنا ولله الحمد بخير. ابتسمت أمه قائلة في حنان: الحمد لله لأنك نجوت! أخبرني من هذا الأحمق الذي أصابك؟ توّتر بهاء قليلا ثم ابتسم قائلا: إنه مجرم بالطبع يا أمي!
قالت له باندفاع: ذاك المجرم بهابيهو، نعم لقد سمعتُ عنه، إنه عنيف ومتعطش للدماء، لقد سمعت ذلك في الأخبار، أخذه الله وانتقم منه! مطّ بهاء شفتيه في ضيق وهو يشاهد أمّه تدعي عليه بهذه الطريقة وهي لا تعلم أنه بهابيهو! وابتسم والده وهو ينظر لابنه في صمت، نظر إليه نظرة رجاء من دون ملاحظة غدير. قال طارق بهدوء: ادعي له بالهداية. هتفت زوجته في استنكار: ومالك تتعاطف مع هذا المجرم يا طارق؟ قال وهو يتنحنح: لا.. لا.. لم أقصد بالطبع، ولكن.. قاطعته: لو أمسكت هذا المجرم في يدي لم أدعه حتى أسلّمه للشرطة! ابتلع بهاء ريقه بصعوبة، ونظر طارق نظرة مُشفقة على ولده بهاء.
نظرتْ غدير باستغراب شديد إليهما: مالكما أنتما الاثنان؟ أراكما متضايقان من هجومي عليه. قال بهاء بضيق: لا يا أمي، بالطبع أنا نفسي أكره بهابيهو هذا، وأودّ لو أرميه في السجن مثلك. ثم قال في بُغض: إنه مجرم يحتاج إلى تأديب، كيف يعتدي عليّ هكذا؟ أهذه أخلاق؟ أهذا أدب؟ إنه وغد فعلا! وابتسم والده طارق حتى ظهرت كل أسنانه وكادت الضحكة تُفلت من بين شفتيه. فقال: إنني سأكون سعيدا جدا لو قبضت الشرطة على هذا المُجرم، قبّحه الله! وجاءت لبهاء الرغبة في الضحك فورا، فمال بجانبه إلى الناحية الأخرى وضحك بدون صوت، قالت له أمه بقلق: ما بك بنيّ؟ أهناك شيء يُؤلمك؟ تمالك نفسه وهو يلتفت لها بهدوء وقد تورّد وجهه ببهجة، وهزّ رأسه نافيًا: لا.
ابتسمتْ غدير لمرآها هذا الوجه الجميل، وحمدت الله في سرّها أن نجّى ابنها من إصابة كهذه. ثم جلسوا قليلًا يتكلمون، حتى مرّت ساعتان، وقف طارق قائلاً: حسنًا بني، الآن لدّي عمل، أتريدُ شيئا؟ أجابه بهاء بعينين مٌبتسمتين: لا، سلامتك. وقالت غدير: ماذا؟ سنغادر الآن! انتظر قليلا يا طارق. أجابها: غدير، أنا مستعجل جدا، ولو ذهبت وحدي لن تجدي أحدا يُعيدك إلى منزلك. أومأت قائلة بعد تفكير: هل سنزوره غدا؟ أجابها: بالتأكيد. ثم انطلق الاثنان بعد أن ودّعا بهاء وسلّم عليهما عثمان في طريقهم إلى بوابة الخروج، فقد كان عثمان لا يزال في المستشفى. دخل عليه قائلا بابتسامته الظريفة: ها قد جاءتك أمك وهي تدعو على بهابيهو الوغد الذي أصاب ابنها الوحيد العزيز بهاء! ثم ضحك ضحكة قصيرة وهو يقترب من بهاء ويجلس بجانبه، وبهاء ضحك ضحكة خفيفة فقد كان سعيدا بزيارة والديه له، ونسي ما كان من عثمان قبل ساعتين! وابتسم مسترخيًا وهو يغمض عينيه في هدوء، ويستعيد كل ذكرياته من شهر مضى. __ (ذكريات)
عاد طارق من عمله وفتح الباب وهو يقول بصوت عالٍ: السلام عليكم يا أهل البيت. ظهرتْ زوجته غدير من المطبخ بشعرها الحريري المنسدل حول وجهها الدائري الأبيض، وابتسمتْ بفرحة طفلة وهي تُسرع في خُطواتها لتسلّم عليه، رمى حقيبته فوق الأريكة واستقبلها باسمًا رغم إرهاقه، ابتعدت عنه قليلًا عندما ظهر بهاء ليقبّل رأسه في ود، وهو يقول بصوته الهادئ: تأخرت هذه المرة يا أبي! تنهد طارق وهو يقول: بالفعل، لقد حدثت ظروف سيئة في العمل!
أشفقت عليه غدير وهي تراقب ملامحه المُنهكة التي تبدو أكثر تعبًا من العادة، فسألت بفضول: ماذا حصل؟ تبدو مهمومًا! ابتسم ابتسامة باهتة وهو يخلع سُترته قائلًا: بالفعل، سوف أحكي لكم أثناء العشاء. ضمّت غدير يديها إلى صدرها في فرح قائلة بحماسة: اليوم ستتعشيان ألذ طبق تذوقتموه في حياتكم! ضحك طارق على طريقتها وهو يتساءل بلطف أثناء جلوسه على مائدة الطعام بجانب بهاء: وما هو؟ ضحكت ضحكة شريرة وهي تقول: سر. ثم نظرت إلى بهاء نظرة رادعة ارتعب منها وهي تقول: إياك أن تفتح فمك بأي شيء!
أومأ برأسه في خوف، وهي انطلقت إلى المطبخ، بمجرد أن اختفت، أنزل الاثنان رأسهما على المائدة، وهما يتنهدان تنهيدة حارّة، قال طارق بصوت مكتوم متأفف: حسنًا أنا متعب من العمل ولذلك أنزلت رأسي، ما حكايتك أنت؟ ابتسم بهاء بإرهاق وهو يهمس: أنا أيضا مُتعب من العمل، ولكن مع أمي! لقد صنعت معها هذا الطبق.
ضحك طارق ضحكة مكتومة وهو يُغمض عينيه ليحاول الاسترخاء قليلا قبل العاصفة التي ستأتي الآن، وفور سماعه لصوت زوجته التي تقول: أنا قادمة! حتى انتفض الاثنان جالسان بكل احترام، وبدا كأن غدير قائد عسكري يُجبر مرؤوسيه على النظام في كل وقت! بالطبع ابتدأ الاثنان كلامهما بالمدح والثناء على غدير وحلاوة صنعها وطعامها! وضحكت غدير بخجل وهي تقول بدلال: كلا لست ماهرة إلى هذا الحد! كما أن بهاء شاركني أيضا لذلك لا أعتقد أن الطعام لذيذ إلى هذه الدرجة! قال بهاء بصدمة: ماذا تعنين يا أمي؟
ضحكت ضحكة مهوّنة وهي تضغط بقدمها على قدمه من تحت المائدة بقوة أسكتته! التفتت إلى طارق وهي تقول بشفقة عطوف: ولكن يا طارق، تبدو مُتعبا اليوم حقا، ماذا حصل؟ التفت لها طارق بعينين رماديّتين، فهمتْ منها غدير كمّ الألم الذي تلقّاه اليوم، وشعرت بالأسى عليه قبل أن يحكي كلمة واحدة، لكنه قال بعد سكوت: لقد خسرت مبلغًا كبيرًا اليوم، بسبب نصب شركة ما علي.
فتح بهاء عينه بدهشة وتوقف عن الأكل، لقد عهِد والده دائمًا ماهرًا في التعاملات التجارية لدرجة جعلته يعتقد أن من المستحيل أن يخسر صفقة واحدة! قال بتوتر: أبي، ألن تستطيع إثبات نصب هذه الشركة؟ هزّ طارق رأسه نفيًا، ثم قال: لقد سُرقت مني جميع الأوراق التي تثبت تعاملي معها حتى، إنها لا تجعل أي فرصة لمن تخدعهم أن يُثبتوا عليها تهمة واحدة، وعلى فكرة هي شركة منظفات مشهورة. أطرق بهاء رأسه في ضيق، وهو يقول: أليس هناك حل؟ ابتسم طارق ابتسامة باهتة قبل أن يقول: للأسف لا، إلا التشهير بها في وسائل التواصل الاجتماعي، فالقضاء لن يُحاكم شركة كهذه بدعوى فردية مني وبدون أي مستندات أيضًا!
-
في تلك الليلة:
فوق إحدى عمارات المدينة، ظهر فتى في بداية عمره، يرتدى ملابسا رمادية بالكامل، يلفّ لثامًا بنفس اللون حول وجهه، لا يظهر منه إلا عيناه الرماديتان، وبضع الخصل السوداء من شعره الناعم، ينظر إلى المبنى الذي أمامه بهدوء مُخيف، ويغمض عينيه عن تلك اللوحة المُثبتة فوق المبنى مكتوب عليها " شركة... للمنظفات"،
ثم بعد دقائق، يقفز قفزة عالية جدًا بخفة مُذهلة ليصل إلى مبنى تلك الشركة، وكل تلك السيارات التي تسير في الشارع أمامه، لا يلاحظه أحد منهم.
_
على مائدة الغداء، قال طارق لغدير وابنه بعينين متسعتين: لن تصدّقا! لقد حوكمت الشركة بتهمة النصب والاحتيال، وأصبحت فضيحة. رفع بهاء حاجبيه بدهشة وهو يقول: كيف؟!
قال طارق: لقد أُرسل ملف به وثائق تُدين الشركة إلى إحدى أقسام الشرطة مع توقيع غريبٍ جدا، مكتوب بجانبه: بهابيهو! ولا يدري أحد كيف، وبعد أن حققت الشرطة في هذه الملف اكتشفت كل تلك الوثائق المسروقة من أصحابها التي تدين هذه الشركة وقدمتها للقضاء.
اشتدت دهشة غدير هذه المرة وهي تتبادل النظرات مع بهاء الذي كان يُماثلها ذهولًا، قالت له: هذا عجيب! إنه نفس الاسم الذي كنا ندللّك به يا بهاء.
_
تكررت هذه الحادثة مع شركة أخرى، وانتشرت الأخبار في المدينة كالنار في الهشيم عن هذه الشخصية البطولية التي ظهرت باسم بهابيهو، وتطور الأمر بأن التقطت له تلك الشركة فيديو عبر الكاميرات المُراقبة التي كانت في مكاتبها، فانتشرت صورته بملابسه الرمادية التي تطير في الهواء عندما يقفز عاليا بخفة مُذهلة، وبلثامه الغامض الذي يُخفي به ملامح وجهه، وبعينيه الرماديتين الساحرتين، ورغم ذلك فقد بدأت الشرطة بالبحث عنه للقبض عليه. فمهما كان عمله الخيري إلا أنه يظل لصًّا بارعًا، ومن يدري؟ فربما نواياه تتحول فيما بعد.
-
ابتسم طارق بسمة مُجاملة وهو يتحدث إلى الضيف الذي أتاه هذه الليلة على غير موعد، كان مبارك رجًلا ثرثارًا، يُرهق طارق بكثرة كلامه، لكن طارق يعلم أن من الأدب وحسن الخلق ألا يُظهر له ضيقه منه، فظلّ مستمعًا بكل تركيز له وهو يشكو له عن زوجتيه الاثنتان وأولاده العاقيّن، وألا بركة في المال و...! كان طارق يرى هذا تعذيبًا حقيقًّا أن يستمع لكل هذه المشاكل والهموم، خصوصا بعد عودته من العمل الشاق، لقد فوجئ باتصّاله أنه على الباب!
قام طارق ليصبّ كوبًا آخر من الشاي وهو يستمع إلى سؤاله الأزلّي: ما الحل في رأيك يا طارق؟ لقد تعبت! أنت ألا تعاني من أي مشاكل في حياتك مع زوجتك وابنك؟
مدّ له طارق كوب الشاي وهو يقول بملل يحاول إخفاءه: بالطبع لدي مشاكل، ولكن التعامل مع المشاكل يحتاج لخبرة وفن، وإلى صبر أيضًا! لا أعلم حقا ما أقول لك، فقد قلت لك الكثير من النصائح، ولكنك تُخبرني أنها بلا فائدة معك، لذا حاول البحث عن غيري رجاء؛ اذهب إلى طبيب نفسي أو استشاري أُسري لو تتطلّب الأمر. سيفيدك أكثر مني.
ظهر على وجه مبارك الضيق من إجابة طارق التي تكررت كثيرًا قبل ذلك فيما يبدو، لكنه قال باستجداء: ولكنني يا طارق أراك تجربة وحيدة ناجحة!
ثم لمعت عيناه وهو يقول بلهفة: لديك زوجة رائعة لم أسمع شكوى واحدة منها، وابن خلوق مريح كثيرا، وعمل مريح...
قاطعه طارق بانزعاج وهو يشعر بمشاعر الحسد تُطلّ من عينيه الضيقتين: بالطبع لدّي شكوى ولدي مشاكل، لكنني لا أقولها لأحد! فليس الناس بمسمع لشكاوى الإنسان! " إنما أشكو بثي وحزني إلى الله" ألم تسمع هذه الآية من قبل؟
همّ مبارك بالرد إلا أنه سمع صوت مفتاح باب المنزل، وصوت بهاء المرهق بعدها بالسلام، ثم صوت إغلاق باب غرفته، استغرب طارق أن بهاء لم يأتِ إلى المجلس خصوصا بعد أن سمع رد السلام عليه، لابد أنه قد عرف أن هناك ضيف ما في المجلس بما أن نوره مفتوح، ففي العادة طارق يجلس في غرفة المعيشة، ولكن طارق اطمئن قليلًا أن بهاء ربما سيغير ملابسه وبعد ذلك يأتي للسلام عليهما. فحدق في وجه مبارك الفضولي وقال له: لابد أن بهاء سيأتي بعد قليل. لمعت عيناه وهو يقول: أين كان؟
تنهد طارق بضيق من كثرة أسئلة هذا الرجل، لولا أنه ابن عمه وزميله في الكلية لكان قد قطع علاقته به، قال بانزعاج: لن تستفيد شيئا إذا عرفت. رغم جملة طارق الجافة إلا أن مبارك أكمل ثرثرته بدون ملل حتى قارب نصف ساعة، اقتحم القلق حينها قلب طارق لأن بهاء لم يأت حتى الآن، شعر بضرورة القيام وتفقده في غرفته، ولكن متى يذهب هذا الضيف المزعج؟! قام طارق فجأة قائلا: معذرة، سأذهب لتفقد بهاء. تساءل مبارك بفضول: ألم تقل إنه سيأتي؟ قال طارق بصبر: نعم، ولكنه لم يأت، لذا علي تفقده! قام مبارك بدوره وهو يقول: بما أن زوجتك ليست هنا فسآتي معك!
شعر طارق بالغيظ من تصرفه لكنه لم يُعلّق وهو يطرق باب غرفة بهاء بهدوء، سمع صوت بهاء المكتوم يأذن له بالدخول، بمجرد دخوله صُدم بمنظره. كان بهاء مُستلقيًا على سريره متكوّرا على نفسه كما الجنين، يُمسك قدمه بألم، وفي جبهته جرح لوث جانب رأسه بالدماء، كما أن أنفه ينزف، وتبدو ملابسه الممزقة دليلًا على حصول شيء مُريع له. هتف بفزع: ما بك؟ فتح بهاء عينيه الرماديتين ونظر إلى مبارك بضيق لم ينجح في إخفائه، ثم التفت لأبيه قائلا بإعياء: لقد سقطت! اقترب طارق بانهيار وهو يرى منظره ويسأله بإلحاح: سقطت من أين؟ بهاء، يبدو منظرك مُفزعًا! أغمض بهاء عينيه مرة أخرى قائلا بصوت مرتجف: من الدور الثالث! لقد استطاع جسدي امتصاص الصدمة بما أنني سقطت على العشب ولكنني فوجئت بحنفية حديدية لسقي العشب اصطدمت بها.
كانت رأس طارق مليئة بالأسئلة، أين هذا المبنى؟ ولم سقط؟ وكيف لم يُخبره؟ ولم لم يذهب مباشرة إلى المستشفى ليسعف نفسه ثم يتصل به؟ فبهاء مُدرب جيدا على حالات الطوارئ ويعلم كيف يتصرف، لكنه أجّل كل تلك الأسئلة وهو يجلس بجانبه ويمسح تلك الدماء على رأسه قائلا بحنان متألّم: الحمد لله على سلامتك حقًّا! المهم أنك بخير الآن، تبدو إصابات خفيفة. ابتسم بهاء رغم الألم بصدق لوالده، وهمس: آسف!
تجاهل طارق هذا الاعتذار وهو يرى مبارك ينظر إلى ملابسه الممزقة والكدمات التي تملؤه قائلا: يا إلهي، يبدو وكأنه جاء من حادثة سيارة، كيف حالك؟ أشاح بهاء بوجهه بانزعاج، وقال ببرود: الحمد لله!
ثم مضى بعض الوقت في سكوت الجميع، كان طارق يتأمل وجه بهاء بشفقة حانية، ومبارك يتطلع إلى أثاث الغرفة! أمسك بهاء بيده المرتجفة يد والده وهو يهمس بضعف: أبي، أريد أن أنام! قال طارق بإشفاق وهو يتأمل وجهه الشاحب ويشعر بيده الباردة في يده: ألا تريد الذهاب معي للمستشفى لنطمئن عليك أولًا؟ ابتلع بهاء ريقه بألم وسكت قليلا سكوتًا حيّر طارق كثيرًا، وأدهشه قول بهاء: كلّا، أرجوك أبي، لا تضغط علي.
حسنًا، من عادات طارق أن بهاء يمكنه إخفاء ما يحب، ولن يُجبره على قوله إلا إذا تسبب ذلك في ضرر وأذى له، وهما متفقان على ذلك منذ زمن، ولذلك بما أن هناك ضررًا على بهاء الآن، فيجب قول ما يخفيه بهاء، لكن بالطبع ليس أمام مُبارك، فقام واقفا وهو يقول بحزم لطيف: ولكن أولًا عليّ أن أضمد جراحك هذه!
ابتسم بهاء بتوتر وظهر العرق على جبينه وهو يقول برجاء: اتركها لي أبي، أستطيع فعلها. أنت رافق ضيفنا ولا تهتم لأمري.
رغم دهشة طارق الكبيرة مما يقوله بهاء، إلا أنه همّ بالموافقة على ذلك_ أمام مبارك على الأقل_ ثم مناقشة ذلك مع بهاء وحدهما، لكنه فوجئ ببهاء يصرخ بألم منتفضا حين أمسك مبارك قدمه، ظل صدره يعلو وينخفض وهو يرى مبارك يكشف عن قدمه لينظر إليها قائلا: أنت مصاب بشدة في قدمك، لم لا تريد أن يضمدها والدك أو يذهب للمستشفى؟
تسارعت أنفاس بهاء وانحدرت بضعة خُصل من شعره مختلطة بالدم والعرق على جبهته، حاول التهرب من نظرات والده وهو يشعر أن أمله في إخفاء هذا الأمر عنهما قد تدمّر، لكن طارق نظر له بلوم قائلا: بهاء، آسف، ولكن يجب أن نضمّد جراحك، خصوصا هذه القدم! أأنت واثق أنها ليست مكسورة؟
أومأ مبارك برأسه في هدوء أثار دهشة طارق وهو يقول: نعم لقد أمسكت العظم لأرى، لذلك صرخ، لكن اطمئن إنها مجرد إصابة، شديدة لكنها ليست خطرة.
تعجّب طارق من ثقته، لاحظ مبارك هذا فقال بزهو: لا تقلق عليه، لقد أخذت دورة كاملة في الإسعافات الأولية، دع أمر هذا الجرح الصعب لي، أين علبة الإسعافات لديك؟
انطلق طارق لإحضارها، وأثناء غيابه اختلس بهاء نظرة إلى وجه مبارك ففوجئ به ينظر إليه بابتسامة ساخرة، وقال: جسدك قويّ أكثر مما تبدو عليه يا فتى!
لم يدرِ بهاء ماهي مناسبة هذه الجملة، ولكنه شعر بقلق غريب يجتاحه لأن هذا الشخص اللزج هو من سيضمد جرح قدمه، شعر برغبة عارمة في الهرب منه، لكنه لم يستطع على أية حال!
جاء طارق بعلبة الإسعافات الأولية، وبدأ مبارك عمله في تضميد قدم بهاء، وكم شعر والده بالألم الذي يعانيه بهاء من وجهه، وضع طارق شريطًا لاصقا على جرح جبهته وهو يلاحظ الإنهاك الكبير في عينيه الشفافتين، مسح على شعره بحنوّ وهو يهمس بلطف: لا تقلق، كل شيء على ما يُرام.
رغم بساطة هذه الجملة إلا أن بهاء هدأ قليلًا بسببها، بل وخففت عنه كثيًرا من الألم. أنهى مبارك التضميد بعد أن شعر بهاء بروحه ستخرج بسبب يده الغليظة في التعامل!
أغمض بهاء عينه بإرهاق وهو على وشك الغرق في نوم عميق، لولا أنه سمع صوتًا مُزعجًا، صوت مبارك وهو يقول: بالمناسبة ما هذه الملابس التي فوق مكتبك؟ فتح بهاء عينه على أشدها ذاهلا، خصوصا أن مبارك أتبع ذلك بإمساك هذه الملابس، كانت مُكوّمة وموضوعة تحت معطف بني ثقيل غطّاها لكن مبارك لاحظ طرفًا مُتدلّيًا منها فسحبه وهو يقول بلهجة خاصة: إنها تشبه ملابس البطل الذي ظهر مؤخرَّا، كما أن أطرافها ممزقة وفيها آثار دماء، تُناسب حالة بهاء تمامًا. ما كان اسمه؟ آه.. بهابيهو؟! هل أنت هو؟
قال ذلك السؤال الأخير ببراءة مُصطنعة، شعر بهاء بتوقف رئتيه وأحس أن العالم توقف أمام نظرات مبارك الساخرة الذي يبدو أنه قد عرف حقيقته، وأمام نظرات طارق المُخيفة الهادئة، ثم صوته الثابت: حسنا، ماذا تقصد؟
التفت بهاء ببطء إلى والده، فوجئ بعينيه الهادئتين، شعر بألم كبير أن تظهر الحقيقة في وقت كهذا وأمام رجل كهذا! قال مبارك بهدوء: هناك أخبار أيضا قرأتها للتو أن بهابيهو قد اضطر للهرب من الشركة التي اقتحمها من خلال القفز من الطابق الرابع، ولا شك أنه أٌصيب بعدها، لكنهم لم يجدوه!
وقف طارق بوجوم أمام مبارك وهو يتابع باستفزاز: ألا ترى أن هناك تشابهًا في القصص؟ ثم أشار إلى بهاء بابتسامة صفراء، ألقى طارق نظرة سريعة عليه فوجده يشرد بحزن في السقف دون أن ينطق بحرف. اغتاظ من أسلوب مبارك فقال: وماذا في تشابه القصص؟
رفع مبارك حاجبيه بدهشة وهو يشعر بالتحدي، فقال بسخرية: اعلم أن هذا خطير على ابنك! فالشرطة تبحث عن هذا اللص!
تحوّلت ملامح طارق لبرود مخيف، فأردف مبارك بلهجة خاصة: ماذا إن جاءت الشرطة هنا الآن؟ كل الدلائل موجودة! يا لها من كارثة.
غلتْ الدماء في عروق طارق وهو يرى هذا الرجل يهدده أمام ابنه، فأمسك نفسه وهو يقول بنفاد صبر: اعلم أنت أن ابني إذا حصل له أي سوء بسببك... ثم قال بعد عدة ثوان بعينين ناريّتين: فستندم على اليوم الذي فكّرت فيه بأذيته!
شعر مبارك ببدء غضبه، حاول إخفاء خوفه الذي تصاعد، هو حقا لم يواجه غضب طارق من قبل، لكن هذه المرة يبدو الأمر جِدِّيَّا. حاول أن يغير الموضوع فقال: آه، لقد تأخر الوقت، طارق هلا فتحت لي الباب؟ علي المغادرة!
-
عاد طارق إلى غرفة بهاء، وجده ما يزال يحدّق إلى السقف بشرود رغم عينيه المُتعبتين.
اقترب وجلس بجانبه، لم يبدُ على بهاء ردة فعل، تنهّد وابتسم بحنان وهو يقول له: إذا أردت النوم الآن فربّما أؤجّل الاستجواب قليلًا يا عزيزي. حاول بهاء الابتسام لكنّه لم يستطع، كان الهمّ فوق رأسه أكبر من أن يتمكن من التغلب عليه في هذه اللحظة. التفت أخيرًا لوالده قائلًا بانخفاض: ماذا جرى لابن عمّك؟ عاد البرود إلى عيني طارق وهو يقول بثبات: لقد حلف بالله أنه لن يقول لأحد عمّا رأى. لم يُعلّق بهاء فهو بالطبع لا يصدّق هذا الشخص ولو حلف لكنه همس: أبي.. هل.. كنت تعرف ذلك مُسبقا؟ ابتسم طارق ابتسامة غامضة، قال بهدوء: أتظنني بكل هذا الغباء؟ رفع بهاء حاجبيه دهشة، ثم قال بتلعثم خجِل: إذن.. فأكمل طارق وقد اتسعت ابتسامته: لقد انتظرتك لتُخبرني بنفسك طوال هذا الوقت! شعر بهاء بألم في قلبه لأنه أخفى عن والده شيئًا كهذا، وفي نفس الوقت أحسّ بالامتنان لترك والده له حرية الاختيار حول إخباره أو لا.
فقال بصدق نادم: أبي، صحيح أننا اتفقنا ألا أخفي عنك شيئًا يٌسبب لي أو لكم ضررًا، لكن هذا كان ظرفًا اضطراريًّا جدًا. قال طارق: أعلم. أنا أثق بك. لابد أن ما واجهته كان صعبًا عليك، أليس كذلك؟ ثم نظر له بعين عطوفة مُشفقة فارتاحت ملامح بهاء كثيًرا، وبدأ يشرح: بلى. لقد كنت مُحاطًا بسبعة أفرادٍ من الأمن، لم أكن متوقعًا هذه الحراسة الشديدة في مثل هذا الوقت، أيقنتُ أنهم سيمسكونني إذا تقدّموا أكثر، فقفزت من النافذة! شعر طارق بقلبه يؤلمه بمجرد فقط تخيّل ما حدث عند سقوطه!
فسأله متنهّدًا: وكيف تمكنت من القيام بعد سقوطك؟ قال بهاء: لقد تدحرجت على العشب حتى صُدمت بتلك الحنفية، لم أشعر بألم كبير وقتها، فقد كان همّي الهرب من هذه المنطقة، وخرجت ولله الحمد. ثم أرسلتُ الورق الذي يُثبت تهمتهم إلى الشرطة، وبمجرد أن جئت إلى هنا حتى شعرت بكل ذلك الألم الذي أتجاهله، ولم أستطع حتى الدخول عليكما.
أطرق طارق برأسه وهو يسأله بخفوت: إذن.. هل عثمان يعرف؟ هز بهاء رأسه نافيًا، فسأل طارق السؤال التالي: هل ستتوقف عن عمل بهابيهو؟ ابتلع بهاء ريقه وهو لا يعلم كيف يُجيب عن هذا السؤال، هل سيُجبره والده على التوقف رُغمًا عنه؟ شعر طارق بمخاوفه فأرسل يده ليقرص خدّه بخفّة وهو يقول: لا تقلق، أنا أبٌ ديموقراطي، عليّ استفتاء الشعب أولًا قبل منعك..
ثم ضحك ضحكة قصيرة وهو يقوم واقفا وبهاء يردد بفزع: ستستفتي الشعب؟! قال طارق ببساطة: نعم.. أمّك وأعمامك وخالاتك وهكذا! هتف بهاء بانهيار: أبي.. أغلق طارق الضوء وهو يردد بصوت عال ضاحك: هيّا هيّا، الحُلو عليه النوم الآن لكي يتعافى بسرعة..
ابتسم بهاء من وسط إحباطه وقد أدرك أن والده يمزح، نظر إلى الغرفة المظلمة ووالده وهو يُغلق الباب، ثم أغمض عينيه وغرق في النوم.
|