السلام عليكم و رحمة الله و بركاته كيف حالكم؟ إن شاء الله بخير ~ أهلا بكم في أطول فصل بتاريخ الرواية حاليـا (و على الأرجح إطلاقـا) صحيح أنني قلتُ بأنه فصل مزدوج لكن بصراحة... هو بطول حوالي ثلاثة فصول XD لذا اعتبروه هديتي لكم قبل الفراق المؤقت في الحرب لأنني لن أقوم بنشر أي فصول خلالها ~ آمل أن يجيب هذا الفصل على بعض تساؤلاتكم و يعطيكم فكرة عما هو قادم و طبعا جزيل الشكر لـ آكا-تشين لخوضها في هذا الشيء الضخم معي [ جواب الفصل السابق ] : القسم الأول لينا، القسم الثاني يايث ~ انبهرت و سعدت عندما خمنت آكا-تشين الإجابة الصحيحة من أول محاولة المهم لن أطيل عليكم أكثر و أترككم للقراءة ~ دوريان. دوريان لم يقرأ اليوم و لو صفحة واحدة، رغم تظاهره عكس ذلك منذ الصباح، مبقيا كتابا بين يديه. الكتاب الأخير الذي قدمه تورسييل إليه، و على الأرجح آخر واحد سيقدمه إليه في حياته. لم يغمض له جفن الليلة الماضية كذلك، و قد كان شاكرا للصحبة التي حظي بها، للتشتيت، حتى لو لم يسر كل شيء بسلاسة. أولا تورسييل الذي ظل معه بعد أن ضمد جراحه من جديد و جدل شعره، ملمس خصلاته البيضاء بين أصابع دوريان أيقظ فيه المزيد من ذكريات الماضي. هذه المرة كانت ذكريات جميلة، ذكريات لخصلات بنفس اللون تنتمي لشخص آخر، ذكريات تداعب أوتار قلبه بلطف، تاركة خلفها ابتسامة حزينة على شفتيه. أخته، بيليند، كانت تملك شعرا كهذا، أبيض و طويل، ليس حريريا تماما لكن ليس شائكا لدرجة مؤلمة، و كانت تحب أن تقسمه قسمين و تربط كل منهما على طرفيّ رأسها. لم تتمكن يوما من إتقان الجديلة بنفسها، لذا كان على دوريان أن يفعل ذلك لأجلها على الدوام، أحيانا منزعجا من اعتمادها المستمر عليه. تمنى لو أنه لم ينزعج منها مطلقا، لو أنه لم يرفض عروضها للعب فقط لأنه كان يحاول إرضاء والدهم الذي لا يرضى، لو أنه لم يضيع أي لحظة أمكنه قضائها معها. حتى ضمن النبلاء، كانت عائلته أشهر من غيرها لأسباب لا يطيقها دوريان، فرغم أن ذلك كان منذ زمن بعيد، إلا أن ما اقترفه أسلافه لم يُمحى من صفحات التاريخ. من الصعب فعل ذلك، فبعد كل شيء لقد كُتب ذلك التاريخ بدماء ضحاياهم، العائلة التي و برغم امتلاكها القدرة على جعل معظم المخلوقات تعترف بأعماق أسرارها، إلا أنها لم تستغني عن اللجوء لأبشع أنواع التعذيب، و السبب وراء ذلك بسيط بشكل مقرف: آل رورك القدماء كانوا مجموعة من الوحوش السادية. جيل بعد جيل، أخذت عائلة دوريان تبتعد عن استحقاقها الأوصاف التي أطلقها عليها التاريخ، لكن من المستحيل أن يُمحق التأثير بالكامل، و قد رأى دوريان الصغير هذا في عينيّ والده القاسيتين. مثل بيليند، فإن أباه قد امتلك شعرا أبيض طبيعيا و عينين بزرقة السماء الصافية، لكن على عكس أخته فإن تلكما العينين لم تحملا تلك اللمعة المجنونة الدافئة، بل تسمرتا في نظرة ذات برود و صرامة لا تتزعزع. ربما كانت هنالك فترة ارتخت فيها تلك العينان، فترة ما قبل فراق ديكلان رورك عن والدة دوريان، لكنها مُحيت من ذاكرة دوريان ذي الست سنوات في اليوم الذي عاد فيه والده إلى قصرهم، لأول مرة غير مصحوب بزوجته. مملكة زورميث كانت لا تزال في خضم حروبها مع البلدان الصغيرة التي تلامس حدودها، حروب اندلعت منذ اختفاء الـ فان قبل عدة عقود، و قد كان واجب كل من يقدر على القتال، بالأخص من العائلات النبيلة، أن يشارك في إنهاء تلك الحروب. لذا و بطبيعة الحال فإن رجلا مثل ديكلان رورك كان من أوائل الملتحقين، و المرأة التي تزوجها، حورية محاربة أجنبية، كانت بجانبه في كل خطوة، إلا في الخطوة الأخيرة... فقد تقدمت أمامه و تلقت ضربة قاضية لأجله. بيليند كانت في الثالثة يومها، و عندما أخبرها والدهما أن أمهما لن تعود مطلقا، انهارت بجانب دوريان على أرضية المدخل، يداها الصغيرتان تتدليان على جانبيها بينما انهمرت دموعها بغزارة و تردد صوت بكائها في أرجاء القصر. سرعان ما حملها والده بذراع واحدة لتدفن وجهها في كتفه و تواصل البكاء بحرقة متشبثة بملابسه، أما يده الأخرى فقد امتدت لتحط على رأس دوريان الذي أبقى عينيه على الأرض، يصر على أسنانه و يحكم إغلاق قبضتيه. ما إن أخذ كتفاه يرتجفان حتى سمع أباه يقول بجدية من فوقه: -"أمك فعلت ما عليها لحماية هذه العائلة النبيلة. لذا لا تبكي، دوريان. عليك أن تكون جنديا و رجلا." دوريان أراد أن يفعل عكس ذلك تماما، أراد أن يرتمي في حضن والده تماما مثل أخته و أن يبكي حتى تجف دموعه. لكن والده مَحَق رجاءه فورا، بصوت يكاد لا يكون مسموعا وسط شهيق بيليند استطرد: -"لا حق لنا أن نضعف بعد تضحيتها، أتفهم؟" حينها رفع دوريان رأسه نحو أبيه لتقابله نظرة هذا الأخير الصاعقة، نظرة جعلته ينتصب واقفا و يبلع ريقه و حزنه بالكامل، ثم يخفق رأسه في هزة موافقة. مشاعره لا تهم، بل هي آخر ما يهم الآن. أمه تركت له واجبا و عليه الاستعداد لإنجازه على أكمل وجه، لذا لا يمكنه أن يسمح لنفسه برغبات تافهة كالمواساة، هذا ما قرره دوريان حينها... رغم ذلك لم يكن مستعدا تماما عندما تركت يد والده رأسه. تلك كانت آخر مرة أظهر ديكلان رورك أي نوع من المواساة أو العاطفة تجاه ابنه، و كانت أيضا بداية انعزال دوريان عن أقرب الناس إليه، بداية الفجوة التي خُلقت بينه و بين أخته، بداية النظرات القاسية غير الراضية التي رمقه بها والده يوميا، أو على الأقل في الأيام التي لا يقضيها هذا الأخير على أرض المعركة. الآن بينما يتذكر دوريان تلك الفترة، فإنه يكاد يضحك على سخرية الأمر. عندما تواجد أبوه كان دوريان ينتظر رحيله بفارغ الصبر، لكن سرعان ما يرحل فإنه يمضي وقته بالدعاء لعودته السالمة. العائلة شيء مزعج. دوريان فكر الآن بأنه لا بد و أن تلك هي الرابطة التي تجمع الـ فان، و إلا لما تحملوا بعضهم طوال تلك المدة. أصدر صوت تهكم عند تذكره شخصية موريت فان التي لا تُطاق. -"ماذا هناك؟" سأل تورسييل رافعا رأسه نحوه. دوريان لم يجب، و تورسييل لم يسأل من جديد.. أمضى الاثنان الساعات المقبلة يتحدثان عن شتى المواضيع. تبادلا الإهانات المخفية كالعادة، و حتى بعض المديح، لكن لم ينطق أي منهما بحرف عما قد يحدث في الغد، و لم يعرف دوريان إن كان ممتنا لذلك أم حانقا. رغم أن تورسييل بقي لأكثر من المعتاد، إلا أنه رحل عندما أتت آنييل لتذكره بحضور العشاء، و لم ترمق المخلوقة ذات جسد الفتاة الصغيرة دوريان و لو بنظرة واحدة، متجاهلة وجوده تماما كما فعلت منذ اليوم الذي وقعت فيه عيناه عليها. ظل دوريان منفردا بأفكاره لفترة بعد ذلك، و هو أسوأ ما يمكن أن يحصل في مثل هذا الوقت، فإن أخذ بالقلق على مصيره و الغرق في أسوأ الاحتمالات فسيشكل ذلك مشكلة بالنسبة لأعصابه، و كذلك فائدته و دوره في الأحداث القادمة. لذا عندما طُرق بابه أخيرا، قفز من السرير الذي كان يستلقي عليه دون حراك و أسرع ليفتح الباب، منيرا أضواء الغرفة في طريقه، و كان مستعدا لتوبيخ بيتر مازحا بخصوص تأخره. لكن من وجده على عتبة الباب لم يكن بيتر. مُحي الحماس القليل الذي ظهر على وجهه سابقا، لكن ليس قبل أن تلاحظه قائدة الـ فان، فقد رفعت حاجبا ساخرا و سألت: -"هل كنت تتوقع شخصا آخر؟" -"كلا." عبس و أجاب بسرعة جعلت كذبه واضحا بشكل مؤلم. وضع دوريان يده خلف رأسه، يستشعر شعره المبعثر و يتذكر أنه لم يغادر الغرفة طوال اليوم، أنه يرتدي قميص نوم شتويّ و سروالا رماديا بدل بذلته المعتادة. جعله ذلك يشعر بعدم الارتياح، وقوفه هكذا أمام يايث فان، التي انسدل على قامتها الطويلة فستان أزرق داكن مزركش بخطوط سوداء رقيقة، و على ظهرها إحدى عباءاتها الفخمة، هذه المرة سوداء، و قد فاجئ ذلك دوريان قليلا، حيث إن يايث عادة ما ترتدي الألوان الفاقعة... على الأقل شعرها الملتهب لا يزال كستارة حريرية تتدفق على كتفيها عندما تقوم بحركة إمالة رأسها تلك، كما تفعل الآن. -"أتيتُ لمراقبتك الليلة،" قالت يايث بينما تبتسم بهدوء، "فلا نعلم ما يخطط له رجل مثلك في اللحظة الأخيرة، لورد رورك." كان على دوريان أن يحارب رغبته الملحة في التهكم أو التنهد أو السخرية، و بدل ذلك رد بنفس الهدوء، رغم أنه لم يبتسم: -"أعفني من الرسميات، رجاءً." سرعان ما تجاوزته بطولها ذاك مقتحمة الغرفة و عباءتها تطفو من خلفها، قبل أن تستدير نحو دوريان من جديد و تقول بمراعاة: -"لن أزعج راحتك، سأمكث في الشرفة، أو في بقعة بعيدة عنك. يمكنك الاطمئنان و الخلود للنوم." ما كاد دوريان يجيب حتى سبقته يايث، نبرة صوتها انقلبت تماما لتصبح حيوية كالابتسامة التي على وجهها بينما تستطرد: -"هذا ما كنت لأقوله، لكنني واثقة من أنك لن تنام الليلة، لذا—" تقدمت نحو الشرفة لتفتح نافذتها، "أنت عالق معي الآن." تبعها دوريان إلى خارج الشرفة، جسده يرتعش بردا بينما يسأل بصوت خافت منزعج: -"لماذا معكِ يا سيدتي؟ ما الذي حصل لتورسييل؟" -"لقد ملّ منك بعد قضاءه اليوم بطوله معك." أجابت يايث دون تردد، يد على جانبها و ابتسامة ماكرة على وجهها. عبس دوريان و قرر أن يصمت. من الواضح أن ما قالته نكتة، لكنها نكتة ترفع تساؤلاته حول حدود معرفتها لما حصل. أهي على علم بأنه رأى جروح تورسييل؟ بأن هذا الأخير قد كشف نقطة ضعف الـ فان له؟ بما كشفه له دوريان بالمقابل، أو بالأحرى ما سمح لتورسييل برؤيته يوم احتفال الكسوف؟ كلا، دوريان قرر أنه لن يصمت بعد كل شيء، ليس في يومه الأخير معهم هنا، لذا سأل مرة أخرى: -"ما الذي حصل لتورسييل؟" كان في صوته حدة لم يخطط لإظهارها. -"آنييل أرادت رفقته." كان من الصعب عدم مقاطعتها و انتظار إنهائها لتلك الجملة قبل أن يضيف: -"ذلك ليس ما قصدته. ما الذي حصل له؟" انقلبت تعابير يايث نحو الجدية، عيناها تحملقان فيه بحدة قاطعة لدرجة أنه استغرب عدم إشعاعهما بالأحمر في تلك اللحظة. فجأة أصبح مدركا للمسافة الصغيرة التي تفصلهما، لكونه محبوسا في طرف الشرفة، في مواجهة أحد الـ فان... دوريان يكره أن يُحبس أكثر من أي شيء آخر، لكن انتهى به الأمر يصبح رهينة بين أيادي الذين يشاع عنهم بأنهم أقوى مخلوقات الأرض، كان يجدر به توقع هذه السخرية القاسية من الحياة، فقد اعتاد عليها. لكنه و رغم مرور كل تلك السنوات إلا أنه لم يعتد بعد على تحكمه في إحساسه بالضيق في موقف كهذا، و كون الواقفة أمامه هي يايث فان بشعرها الأحمر ذاك لم يساعد على تهدئته. بل نقله مباشرة إلى تلك النقطة من ذكرياته حيث قبع رُوان دي غراي، بابتسامته الخبيثة و خصلاته الحمراء المنسدلة، يختفي تاركا دوريان في عجز و ظلمة مطلقة... -"غيرتُ رأيي،" نطقت يايث فجأة قاطعة حبل أفكاره الفظيعة، كانت تنظر خارج الشرفة الآن. "أنت لن تنام على أية حال، فلننزل." لاحظ دوريان أنها تراجعت و استرخت في وقفتها. أيُعقل أنها لاحظت عدم ارتياحه؟ هل فضح نفسه من جديد؟ أخفض رأسه قليلا حتى لا تلاحظ تعابيره الحالية، لكنه سرعان ما رفعه من جديد عندما خاطبته بحيوية: -"هل تريد أن أحملك؟" -"هاه؟" دوريان واثق أنه يبدو كالأبله الآن. فتحت يايث ذراعيها بابتسامة واثقة و كررت: -"هل أحملك و أنزلك؟" -"لا تسخري مني رجاءً!" احترقت وجنتاه الآن و أحكم إغلاق قبضتيه في استياء. هزت يايث كتفيها بينما تقول في خيبة أمل: -"أنت محترم بشكل ممل، أتعلم؟" ثم تقدمت، خطواتها هادئة، رافعة يدها نحوه بنعومة و كأنها تستعد لقطف زهرة. -"سأجعلك تطفو إذن." كان ذلك التحذير الوحيد الذي حظي دوريان به قبل أن يرتفع كلاهما في الهواء، و سرعان ما أمسكت يايث كمّ قميصه الشتوي لتقود جسده إلى الأسفل معها، شعرها الأحمر يطفو وراء عباءتها الداكنة بشكل ساحر. استغرق الأمر فترة بما أن غرفته في الطابق الأخير، لكن يايث حطت قبله على أرض الباحة الخلفية للقصر، و جعل ذلك تعابيره تلتوي قليلا. -"ماذا هناك؟" سألت بحاجب مرفوع. تردد للحظة قبل أن يجيب غير ملاقٍ لعينيها: -"كنتُ أفكر كم أن الأمر غريب أن أراك من منظور الشخص الأطول..." ابتسمت حينها ابتسامتها تلك التي تجمع بين المرح و المكر، ثم أخذت تسير على الطريق الذي صنعته حواجز البستان الخارجية، دوريان يلمّ بالسير على خطاها مباشرة. -"هل يُعقل أن طولي يشعرك بالرهبة؟" سخرت بينما تخفي خصلة وراء أذنها، "الصبية ضعفاء للغاية." طوى دوريان ذراعيه و تهكم على مناداتها إياه بالصبي، لكن و رغم كون نبرة صوته مستاءة قليلا و بصره مركزا على أي شيء غير يايث التي بجانبه، إلا أنه أفصح عن مكنون قلبه بصدق عندما رد: -"بل إنه يشعرني بالراحة نوعا ما." حرر ذراعيه المطويتين، "أمي كانت امرأة طويلة القامة كذلك، و عيناها بلون عينيكِ و عينيّ..." أخذ يشير بيديه و كأنه يشرح درسا، رغم أنه مازال لا ينظر ناحية يايث و لا يرى تعابيرها. -"عيناها لم تلمعا بالطبع، لكن لديكما نفس الشعر الحريري الطويل! رغم أن شعر والدتي كان فحميّا، و ناصية شعرها ذات طراز مختلف— آه، أعتذر..." قاطع نفسه بضحكة قصيرة متوترة، مخفضا رأسه بنوع من الإحراج. لقد انجرف في الكلام مجددا، تماما كما حصل مع تورسييل يوم احتفال الكسوف، كلمة بعد كلمة حتى وجد نفسه يخول تورسييل فان رؤية أحلك ذكرياته. -"لا عليك. لقد نزلنا للحديث، ألم نفعل؟" اتسعت عيناه عندما رفع رأسه نحو يايث ليجد بصرها موجهتان نحو البستان على يمينها، إحدى يديها متشبثة بطرف عباءتها. لم يرَ قائدة الـ فان تشيح بنظرها عنه أو عن أي أحد قبل الآن. اقشعر بدن دوريان حينها، و لم يعد واثق من أن السبب هو البرد، رغم أن النسيم قرص وجنتيه المحترقتين. -"سيدتي—" -"سحقا! لهذا لا تريد آنييل الاعتراف بوجودك!" قفز قلب دوريان في صدره على اللسعة المفاجئة في نبرتها و رفضها المتواصل لملاقاة عينيه، لكن ذلك لم يدم طويلا، فسرعان ما نظرت نحوه و الاستياء واضح في حاجبيها المقطبين و زمجرتها عندما واصلت: -"ألا تفهم؟ إن تذكرنا بأنك شخص ذو قلب و روح فسيصعّب ذلك الأمور على الجميع!" قبل أن تسنح له الفرصة للرد توقفت يايث عن المشي و استطردت باستياء أكبر: -"ألا تذكر ما قالته لينا لدى مجيئها؟ ملكك أرسل جنوده مع إذن لذبح كل من يقف في طريقهم، و قد قُتل طفل بريء بسبب ذلك! فكيف لك أن تتشبث بولائك بعد هذا؟!" دوريان لم ينسَ سبب اختطافه و إبقاءه على قيد الحياة لحد الساعة، لم ينسَ الموقع الاستراتيجي لقصر عائلته، الأقرب لقلعة الملك من بين جميع ديار النبلاء، و بالتأكيد لم ينسَ وجود تلك الأنفاق التي تصل القلعة بقصره، الأنفاق التي لم يتجرأ على التوغل فيها منذ كان في الخامسة عشرة. -"كلمة واحدة منك، دوريان، و لن نحتاج للمفاوضات أو لقريبك ذاك، لن يحتاج أي أحد ليتأذى... لذا انطقها." حدقت يايث فيه بحدة، كلماتها أمر مباشر، لكن دوريان رأى من خلالها، رأى الرجاء الذي خلف تلك النبرة... يايث مستعدة لتلطيخ يديها، دوريان على يقين من ذلك. إذن لِمَ تحاول تجنب أذية شخص مثله، شخص يفضل الموت على مساندتها في خططها؟ دوريان شبه واثق أنه لو التقاها أولا لتعهد بولائه لها، فهي تشبه ذلك الرجل لحد مؤلم. لكنه لم يلتقِ بها أولا. -"لا أصدق ذلك..." نطق أخيرا، صوته خافت لكن ليس ضعيفا، "أنا مقتنع أنه لم تكن يد لملكي في ما حصل مع الآنسة لينا، ليس الرجل الذي أعرفه—" -"لا تخدع نفسك بالاعتقاد أنك تعرف رجلا من سلالة إرلكينغ حق المعرفة!" توسعت عيناه إلى نقطة اللا رجعة، فقد كانت يايث التي أمامه تستشيط غضبا بحق. تعابيرها تبعث برودا يقشعر له البدن، لكن عيناها المتوسعتان مشتعلتان في ظلمة الليل. -"ستدرك مدى حماقتك، لكن بعد فوات الأوان." صرّحت رافعة ذقنها. لم يدرك دوريان أن شفتيه المتباعدتين كانتا ترتجفان إلا حين ران الصمت، و قد كان واثقا هذه المرة أن البرد هو السبب، لذا أسرع بإطباقهما، عازما على أن لا يترك تحديقه المتمرد في عينيّ يايث. كسرت قائدة الـ فان الصمت أخيرا، نبرتها منزعجة لكن مسترخية عندما قالت: -"لماذا لم تقل شيئا بخصوص البرد؟ أنا أنسى أنكم تتأثرون بهذه الأمور كما تعلم." رمش دوريان بعينيه في حيرة، و قبل أن يدرك ما حصل أمسك غريزيا العباءة التي أُلقيت باتجاهه، عباءة يايث. -"ارتدِ هذه، رهينة مصابة بالزكام أمر مزعج." تذمرت بيديها على جانبيها. غلف دوريان كتفيه بالعباءة بينما يرد بنوع من السخرية: -"تتحدثين و كأنكِ جربتِ ذلك الموقف من قبل." كانت العباءة واسعة و دافئة لدرجة أن أصابع قدميه العاريتين اِلتوت لذلك الإحساس الجميل. -"لستَ أول شخص أختطفه." نبرتها و ابتسامتها الطبيعية جعلت دوريان يبلع ريقه، و رغم أنه رغب بالسؤال عمّا حلّ برهائنها السابقين، إلا أنه قال بنفس سخريته السابقة: -"هكذا إذن. يؤسفني أنني لستُ مميزا." بعد لحظة أضاف: -"مازلتِ لم تجيبي سؤالي." -"أي سؤال؟" بلع دوريان ريقه من جديد، و تشبث بالعباءة من الداخل. -"بخصوص تورسييل..." -"سأجيبك على شرط." هز دوريان رأسه بالموافقة و ترقب. -"أخبرني، ما الذي قلته حتى تجعله يعترف لك بنقطة ضعفنا؟" رُوان دي غراي قد وُلد بموهبة فذة للتحكم في قدراته، فعادة ما يستغرق سليل حورية سنوات ليتمكن من السيطرة على تحوّله الجسدي، فقد كان والد دوريان في السادسة و الثلاثين عندما أتقن التحول الكامل دون أن يتسبب بتمزق جسده من الداخل، لذا صُعقت العائلة عندما تمكن رُوان ذي الخمس سنوات من تحويل كفه الصغير دون أي جهد يُذكر. بدأت المضايقات بعد ذلك بفترة قصيرة، في البداية لم يأخذها دوريان ذي السبع سنوات على أنها أي شيء غير شغب طفولي، و رغم أن صبره كان ينفذ بسرعة إلا أنه لم يحتفظ بغضبه لمدة طويلة، و كان سرعان ما يسامح ابن خالته اللطيف عندما يبتسم هذا الأخير بكل براءة. ثم إنه و لحسن الحظ، عائلة رُوان تعيش في قصر أبيه اللورد دي غراي، بعيدا عن العاصمة و قرب حدود القارة، مما يعني أن زياراتهم لأقربائهم محدودة لدرجة أن مقالب رُوان لن تضره أبدا. أو هذا ما اعتقده دوريان، إلى أن تدريجيا و سنة بعد سنة، تحولت المقالب إلى فخاخ، و خمدت البراءة من ابتسامة رُوان إلى أن استحالت شريرة ماكرة، و كأن أنيابه تفيض سما و عيناه الصفراوتان تشعان قسوة. لكن دوريان كان الشخص الوحيد الذي يرى عينيّ رُوان مفتوحتين في تلك اللمعة الخبيثة، ذلك لأنه و مع تطور قدرات قريبه، بالأخص صوت أمر الحورية، فإن حواسه الأخرى أخذت تضعف، حتى أصبح من الصعب على رُوان التركيز بسمعه أو الشعور بما حوله، إحكام قبضته الصغيرة على أي جسم أثقل من كوب قهوة كان مرهقا، و حتى عيناه الصفراوتان لا تُفتحان إلا بما يبدو أنه جهد عظيم. لذا كان فتحه لكلتا عينه أمرا نادرا، على حد علم دوريان فإنه لم يفعل ذلك سوى أمامه، فما إن تظهر بيليند أو أي من الكبار، سواء وسط الأشجار أو على الساحل أو على السلالم، ليجدوا دوريان مصابا بشكل أو بآخر، حتى تُغلق عينا رُوان و تنقلب تعابيره لتُزيّف قلقا بريئا، و بتلك البساطة لا يجرؤ أحد على اتهامه. و قد كان رُوان حريصا على تغيير تكتيكاته بمرور السنوات، فالدموع كانت كافية في البداية بالنسبة لطفل، لكن سرعان ما كبر قليلا، و أخذ يلعب دور الضحية بمهارة أكبر و تخطيط عبقري، لدرجة أن دوريان وثق من أن قريبه يقضي تلك الأشهر التي لا يزورهم فيها في تحضير طرق لتعذيب دوريان دون أن يُلقى القبض عليه. -"لا بأس يا سيدي." قال رُوان ذي العشر سنوات في إحدى الأيام مخاطبا والد دوريان. كان دوريان قد فقد صبره و صفع قريبه تاركا كدمة واضحة على خد رُوان و جاعلا إياه يسقط أرضا من قوة الضربة، لكن هذا الأخير أوقف ديكلان رورك عندما كان على وشك معاتبة ابنه. رُوان الصغير نهض حينها، وقفته معتدلة و عيناه مغلقتان كالعادة، و يده لم تقترب من خده المصفوع حتى، بينما يواصل و في عينيه نظرة ناعمة: -"لقد كان خطئي لأنني أفصحت عن اشتياقي لخالتي، أعلم أن دوريان في حالة أسوأ مني و أنه لم يتجاوز رحيلها بعد، لذا استحققتُ ما فعله بي يا سيدي." ثم انحنى في تأسف، و حينها اجتاحت دوريان الرغبة في الأخذ برأسه و رطمه بالأرض حتى يصبح لون وجهه مماثلا للون شعره. فكيف يتجرأ الشقي على إقحام أمه في الأمر! -"أنت تسبب لي العار يا دوريان!" انتشله صوت أبيه من غضبه، "أصبحتَ في الثالثة عشرة و أنت رجل بالفعل! كيف تسمح لنفسك بفقدان السيطرة أمام رُوان من هو عائلتك، و أصغر و أضعف منك!" والده كان ينظر إليه، لذا لم ينتبه كيف أصرّ رُوان على أسنانه عند سماعه الجملة الأخيرة. -"اعتذر حالا!" -"والدي...!" قاطعت دوريان تلك النظرة الباردة و جعلت بدنه يقشعر، فما كان منه إلا أن يحني رأسه مستسلما، "أنا أعتذر، رُوان." رُوان قد ربح هذه المرة، لكن دوريان قد اكتفى من تركه يفعل ما يحلو له. دوريان هذه المرة سيذيقه من نفس الكأس، سينتقم شر انتقام، لكن هنالك ما عليه فعله قبل التخطيط. في تلك الليلة و بعد أن تحرر من واجباته أخيرا، ذهب ليزور أمه بأسرع وقت، أو بالأحرى يزور لوحتها الكبيرة التي قبعت في زاوية مخصصة لها من الرواق الكبير، زاوية مزينة بالورود و الشموع ذات الروائح الطيبة، تماثل تلك التي كانت تفوح من هندام والدته كلما ضمته إليها. دوريان الصغير وجد أن هنالك من سبقه إلى اللوحة. لم يتخيل دوريان و لو بعد مئة عام أن يرى والده على ركبتيه، لكن ما لمحه قبل أن يختبئ خلف جدار الرواق لا يمكن إنكاره، بل إنه تأكد من ذلك عندما أخرج رأسه قليلا ليتحقق من الأمر، و بالفعل كان والده جاثيا أمام لوحة زوجته، ينطق بكلمات بالكاد تتسلل إلى مسامع دوريان الصغير. بعد أن سمع ما قاله والده لتلك اللوحة يومها، قرر دوريان أنه سيتحمل أيا كان ما يفعله رُوان من الآن و صاعدا، أنه لن يسبب القلق و العار لأبيه بعد اليوم. ففي النهاية مشاعره لا قيمة لها أمام مستقبل العائلة، و ما يحصل له غير مهم مادام يؤدي واجبه. لذا استمرت الأمور على ذلك المنوال، على الأقل لمن ينظرون للصورة الخارجية: دوريان الفتى الذي حطمه موت والدته و جعل منه وحشا يملؤه الحقد و الغضب، و رُوان الصبي الطيب المؤدب الذي وقع ضحية له. الوحيدة التي صدقت براءة دوريان كانت أخته، على الأقل في البداية، فقد لاحظ دوريان الأمر بعد فترة، لاحظ نبرتها غير الواثقة، و نظراتها التي تخفي الشك، و ابتساماتها المزيفة... رُوان لم يضايقها يوما، بالتأكيد لأن الجميع سيصدق بيليند اللطيفة و المتزنة عاطفيا، على عكس دوريان... لا بأس، فهو لم يعد يقضي وقته برفقتها على أية حال، و لن تهم أي من هذه الأمور في المستقبل المثاليّ الذي يتجهز دوريان لتحقيقه. كل ما عليه هو أن يتحمل أكثر. [ يُتبع في الرد القادم ] |