تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :
الفصل الثالث: عمي يؤنبه ضميره!-1- [ياسر] كانت قمر مبللة من قمة رأسها حتى أخمص قدميها، ترتجف وترتعش كريشة في مهبّ الريح، تستند إلى الباب وهي تنظر إلينا بعينيها الرماديتين الذابلتين! صرختْ جوهرة: قمر! أما أنا فأمسكتُها لأنها كانت تسقط، بل إنني تعجبتُ من قدرتها على الوقوف لثانية واحدة على ساقها المرتجفة! كانتْ شبه واعية، أو ربما فاقدة الوعي، لأنني رأيتها تُغمض عنينها، ويداها ترتخيان، كان وجهها شاحبًا، شعرتُ بالقلق، هتفتُ: قمر.. ما بكِ، ماذا حصل معك؟ كانتْ كل العائلة طبعا قدمتْ من صراخ جوهرة، ودانة قالت لي وهي تشيح بوجهها: أبي! إنها تمثل! ألقيتُ عليها نظرة حادة جافة رادعة، فامتقع وجهها وانصرفتْ، كان باسل معي يراقب باهتمام شديد، إلى أن قلتُ له مسرعا وأنا أحملها: نادِ أماني يا باسل. أسرع! نظر إلى نظرة قلقة مصدومة وتلكأ قليلا وهو ينظر إلى قمر في حال يُرثى لها، قلتُ: أسرع! فانطلق على الفور.. أماني هي مربية قمر، إنها امرأة في الخامسة والعشرين من عمرها عيّنتها كخادمة شخصية لها، فقد كانت قمر في بداية إقامتها عندنا لا تتكلم، ولا تأكل، تظل شاردة طوال الوقت، لا تفعل أي نشاط، لذلك رأيت أهمية تعيين مربية لها على الأقل تظل معها طوال اليوم لتستطيع العناية بها فهي لم تكن تتقبلني حينها نهائيا، كما أنها لم تكن تتقبل زوجتي. أماني بالنسبة لقمر هي أمها. وبعد مجيئها بعدة أيام استطاعت إخراج قمر من صدمتها بنجاح باهر. حملتُ قمر لغرفتها، وهي إلى الآن لا تتكلم ولا تتحرك، نظراتها باردة، جسمها مثلّج، ويداها مجمدتان. شعرتُ بالقلق يعصف كياني، قلتُ وأنا أضرب وجهها بلطف وأهتف: قمر، أتسمعين؟ هل تدركين ما حولك؟ ما بك؟ بم تشعرين؟ ولكنها لم تردّ بل ظلّت تنظر إلى بنظراتٍ خاوية بلا أي تأثر، حتى جاءت أماني مربيّة قمر وهي تركض، خرجتُ من الغرفة حتى تغيّر أماني لها ملابسها المبللة بأخرى جافة دافئة، لاحظتُ أن معطفها الأسود مفقود. طلبتُ من جوهرة أن تحضر لها حساء دافئًا، ثم عُدتُ إلى قمر لأطمئن عليها، كانت أماني ذاهبة لتُحضر مدفأة لغرفة قمر فالغرفة كانت باردة جدًّا. فتحتُ الباب، كانت غرفتها هادئة، مظلمة، سوى من صوت المطر الشديد الذي يدقّ على باب الشرفة الزجاجي بكل قوته، يكاد الباب يكُسر من قوة المطر، ومن صوت الرعد الذي يُرعب الجميع بصوت زئيره المتوحش، وبين الفيْنة والفيْنة، تُضاء الغرفة المظلمة ببرق مخيف يظهر ثوانٍ ثم يختفي تاركًا ورائه المكان يسبح في الظلام، إلا من ضوء الممر الذي بجانب غرفة قمر. اقتربتُ من هذا الجسم الراقد على السرير بكل هدوء، كانت تُغمض عينيها، اقتربتُ أكثر وشعرتُ بالضوء يملأُ الغرفة فجأة وأرى قمر بوضوح، وجنتاها حمراويين وشفتاها زرقاء من البرد. كانتْ جوهرة قادمة من ورائي، وهي التي فتحت الضوء، وبيدها صينية الحساء الساخن، قالتْ بقلق: ماذا بها يا ياسر؟ قلتُ باستغراب وأنا أتأملها: أنا لا أدري يا جوهرة أهي نائمة أم في غيبوبة أم مغشي عليها؟ بدأتْ قمر تفتح عينها، فنظرتُ إليها بلهفة، عدّلتْ جلستها بهدوء وأنا لا أميز صوتي من صوت جوهرة ونحن نناديها ونسألها عن حالها، كانت تتجاهلنا تماما.. إلى أن قالتْ جوهرة لها بابتسامة حنونة: قمر يا حبيبتي، ماذا جرى لك؟ وأين كنتِ؟ التفتت لنا قمر بشرود وهي تقول: الذي جرى.. وأينَ كنتُ؟ يا رب استر، هذه النظرات خاملة وعينيها أمستا سوداوين خاملتين، لماذا قمر غريبة هكذا؟ اقتربتُ منها وأنا أسألها في قلق: قمر أخبريني ماذا حصل؟ أين كنتِ بعد ذهابك للمسجد؟ وماذا فعلتِ؟ كانت تغمض عينيها بإرهاق ثم تنظرُ إلينا، أنا أعيد سؤالي وجوهرة تضع المعلقة في الحساء وتقرّب الصحن من قمر وتحثها على الأكل حتى تشعر بالدفء. لم تأكل بل ظلّت تنظر إليّ وبدأت عيناها تتسعان شيئا فشيئا حتى انتفضتْ فجأة وأمسكت ذراعيها بيديها وضمّت ركبتيها إلى صدرها وهي ترتعش! وقالت بصوتٍ مرتجف: أنا.. أشعر بالبرد.. بتلقائية رفعتُ الأغطية ووضعتها عليها، وجوهرة تقول في رجاء لها: إذن تناولي هذا الحساء حتى تدفئي يا قمر، إنك باردة جدا. أخذتْ قمر الحساء وراحت ترتشف رشفةً ونحن ننتظرها حتى تنتهي منه لنسألها عما حصل. ودخلتْ أماني وهي تمسك بالمدفأة وتهتف في سعادة: إذن فقد أفقتِ يا آنستي، حمدًا لله على سلامتكِ. وضعتْ قمر الصحن بعد أن أنهت قليلًا منه على المنضدة بجانبها. بعد ذلك شاهدتُ وجهها يستعيد حيويته وبهجته، وعيناها تستعيدان رماديتهما وخضرتهما مرة واحدة! قلتُ لها بلطف: هل أنتِ الآن بخير؟ نظرتْ إلى باستغراب، إنها أول مرة تستوعب أنني هنا أصلًا، قالتْ بهدوء: نعم.. أشكرك! _ماذا حصل؟ _لم أجد سيارة أجرة واضطررت أن أعود سيرًا على الأقدام من مسجد الأنصار. اتسعتْ عيناي دهشة وأنا أغمغم: سيرًا على الأقدام، ومن مسجد الأنصار! أومأت برأسها بإيجاب، فابتسمتُ بإعجاب وقلتُ: وكيف تحملتِ ذلك في هذا الجوّ؟ ثمّ.. أين معطفك؟ ردّتْ: لقد تحملّت، الله أعانني، ومعطفي قد سُرق. قلتُ بدهشة أيضا: سُرق؟ كيف؟ رأيتها تستلقي وتمدّ غطاءها ثم تضع رأسها على الوسادة، وتقول: عمّي.. خالتي.. أريد أن أنام، أنا مُتعبة، آسفة سأحكي لكما كل شيء، ولكن ليس الآن. ثم ابتسمتْ ابتسامة باهتة، ونامتْ بعمق! -2- [قمر] استيْقظتُ في الساعة الواحدة ليلًا، كانتْ غرفتي تحترق، أو هكذا خُيّل إلي، فأنا من كنتُ أحترق، رميتُ بالأغطية الصوفية جانبًا، كُنت أشعر بالصداع، وبجسمي المُتعب والمُنهك من الثلاثة كيلومترات التي مشيتها اليوم في العاصفة. أنفي كان مسدودا، جئتُ لأتكلم فخرج صوتي منبوحًا: آه.. يا رب! كنت أشعر بالبرد الشديد برغم أنني أحترق بل وأتعرق! كانت أطرافي ترتعش، لففتُ الأغطية حولي وأنا أشعر بالمرض! ها قد أصبحتِ محمومة يا قمر، ماذا ستفعلين الآن، كان من الواجب عليكِ أن تعرفي هذا ما دمتِ قد مشيت في المطر لأكثر من ثلاث ساعات، كانت الآلام منتشرة في كل مكان من جسدي، وفي صدري، عند قلبي، شعرتُ بأن قلبي سينفجر من شدة الحرارة، تركتُ الأغطية، ثم قمتُ زاحفة إلى الحمّام، إلى الحوض، ورحتُ أتوضأ، شعرتُ ببعض الارتياح، وارتديتُ خماري الأبيض، واتجهتُ للقبلة، وصليتُ صلاة المغرب والعشاء التي لم أقدر أن أصليها حينما عُدت، ودعوتُ الله أن يشفيني! الدقائق تمشي كأنها ساعات، والساعات تمشي ببطء شديد، وكلما مرّت دقيقة، زادتْ الحرارة في رأسي، وفي جسمي! كنتُ عطشى، فقررتُ النزول إلى المطبخ حتى أشربَ، ولكنني لا أستطيع! بالكاد سأقوم وأنام على سريري! استلقيتُ على سريري وأنا لا أزال بالخمار، تنهدتُّ بحرارة، هذه المرة بحرارة فعلا، بل تنهدتُ بحرقة. خلعتُ الخمار، كنت أريد أن أخلع شيئا مني، ربما أردتُ أن أخلع قلبي لأنه مصدر الحرارة كلها! كنت أحاول النوم لكي أنسى الصداع الحارّ في رأسي، وأغمض عينيّ طويلا ثم أفتحهما وأنظر لسقف غرفتي، ربما حفظت سقف غرفتي من كثرة نظراتي إليه! وإذا بطرقٍ خفيف على الباب، شعرتُ بالخوف، أحدٌ ما سيدخل وسيعرف أنني مريضة، وسأرى نظرات الشفقة والرأفة تنتظرني! لا، لا أريد، لا أريد أن أكون محل عطف أو محلّ شفقة! كيتيمة بائسة، هكذا يعاملونني، نظراتهم المشفقة تُشعرنني بالإهانة! الباب فُتح حينما لم يجد الطارق أحدا يفتح له أو يأذن له! أغمضتُ عيني من الخوف وأنا أرفض أن أنظر إلى أحد، وسمعتُ خطوات شخص يقترب، وأنا أغمض عينيّ وأعصرهما، حتى شعرتُ بيدً دافئة حنون توضع على جبهتي! وصوتٌ أشبه كالهمس: قمر، هل أنتِ بخير؟ لم أُجاوب، لأن عقلي كان منشغلا بشيء آخر، وهو تحليل هذا الهمس، ما مصدره؟ ومن صاحبه؟ فجأة تذكرتُ ملمس تلك اليد الكبيرة التي تتظاهر بالدفء والحنان التي كانت على كتفي قبل خمس سنوات! كان ملمس اليد الكبيرة التي تُوضع على جبهتي شبيه بها! فتحتُ عيني. مستحيل، إنه أبي! هتفتُ: أبي! وكدتُّ أقوم من سريري فرحًا، ولكنّ اليد التي توضع على جبهتي لا تزال موجودة، لذلك فلم أستطع القيام! ورأيتُ أبي يقول لي: بسم الله عليكِ يا قمريتي! أنا عمّك! هذه المرة عرفتُ لماذا هذه اليد شبيهة باليد قبل خمس سنوات، لأنها يد عمي! ويبدو أن الحرارة قد أحرقت المراكز البصرية في عقلي فلم أعد أقوى على تمييز من أراهم! وعُدتُ أحاول أن أنظر لعمي، بنظري المشوش، وأنا أرفع يدي لكي أضغط على صدغيَّ حتى يهدأ الصداع وأحاول التركيز مع عمي بعد أن رفع يده عن جبهتي وراح يقول كلامًا كثيرا لا أستطيع فهمه: أنتِ محمومة جدا، حرارتك عالية، انتظري سأحضر مقياس الحرارة، وسأوقظ أماني لكي تعتني بك! لحظة، هل قال سيوقظ أماني، لا، لا أريد لأماني أن تستيقظ، مسكينة، تظلّ طوال النهار تعمل حتى نصف الليل، ولا تنام.. فهل يريد أن يوقظها الآن بكل سهولة؟ كنت أريد أن أُخرج كلّ هذا الكلام لـعمي، ولكنه كان سيذهب، وسيخرج من غرفتي، ليوقظ أماني! عمّي، أرجوك لا، لا أريد أن أرتاح على حساب الآخرين، أماني يكفيها ما بها! كنتُ أناديه وأناديه ولكنّ نداء واحدا لم يتجاوز فمي! ولكنني حاولتُ، حتى خرجتْ من حنجرتي همسة أشبه بصوت النمل أنا متأكدة من أنه لم يسمعها، ولكن لحظة لقد توقف واستدار إلي! قائلا: هل قلتِ شيئا؟ قمر؟ تحاملتُ على نفسي ونهضتُ من سريري، وأنا أجاهد لأقول كلمة نعم! اقترب عمّي مني وهو يقول في قلق: ما الأمر؟ هل تريدين شيئا؟ قلتُ له بصوتٍ مبحوح: لا توقظ أماني! عمّي.. أنا سأكون بخير، أرجوكَ.. لا توقظها! قال عمّي محتجا: هذا مستحيل، أنتِ مريضة جدا، إذا لم أوقظها، فمن سيعتني بك؟ قلتُ بتعب مرتجفة: عمي، أنا لا أريد لأحد أن يعتني بي، أنا سأعتني بنفسي، سأنام وأستيقظ غدا وسيكون كل شيء على ما يُرام! تنهدّ عمي وقال: إذن سأعتني أنا بك! وخرج من غرفتي، يا إلهي، قاتل والدي، هو من سيعتني بي حال مرضي! هذا سيّء جدًّا، كيف سأواجه نظراته المشفقة التي أعتبرها إهانة؟ لن أستطيع الاحتمال، لن أستطيع احتمال رؤيته، مبتسما، فتلك الابتسامة تذكرني بيوم مقتل والدي. لا أستطيع احتمال رؤية يده عليّ وعلى جبهتي! فتلك اليد تذكرني بيوم مقتل والدي. لا أستطيع احتمال رؤيته أصلا! فهو كلّه يذكرني بيوم مقتل والدي! -3- [نور] تأملتُ وجه أبي، إنه أبي، ولكنني لم أره مرة واحدة في حياتي، أذكر أنني أخذت هذه الصورة من حقيبة أمي، وقد أخبرتني أنه زوجها السابق، وقد فهمت منها أنه أبي، ولكن، لم لا تذهب أمي بي إلى أبي ليراني، لا شك أنه مشتاق إلي كما أنني مشتاق إليه. أختي إيلين من زوج أمي الحالي، لذلك هي تُدعى إيلين بوارو، وغريب جدا أن اسمي في المدرسة هو نور بوارو، مع أن هذا ليس أبي ولكن أمي تقول إن هذا هو المكتوب في شهادة ميلادي وأنا أعلم أنها _ شهادة الميلاد _ كاذبة فيما هو مكتوب عليها! ولا أعلم لم أمي تُصرُّ على جعل أبي شخصا غامضا بالنسبة لي، فكلما تكلمت عنه أمامها انزعجت مني وغضبت وربما ضربتني وهددتني ألا أتكلم بهذا مرة ثانية وإلا عاقبتني، الحقيقة أنني أشعر أن أمي تكره أبي كرها شديدا، لماذا؟ هذا ما لا أعرفه. وفي إحدى المرات تكلمت عنه أمامها وأمام إيلين، فسألت إيلين أمي بكل براءة: أمي هل أبي ليس أبي أم ماذا؟ حينها غضبت مني أمي كثيرا وظلّت أسبوعين تخاصمني ولا تكلمني، وسافرت هي خارج إيطاليا مع إيلين وبوار وتركتني لوحدي في المنزل مع الخادمة إيليت التي أكرهها كثيرا ودوما أجلب لها المشاكل وأسبب لها المصائب. -4- [ياسر] أحضرتُ الكمادات وكيس الثلج وحضّرتُ عصير الليمون، وذهبتُ إلى قمر، كانت قد نامت، وإن كان صوت أنفاسها المتقطعة لا يدل على ذلك. وضعتُ الكمادات على رأسها والثلج أيضا، وأيقظتها بهدوء لكي تشرب الليمون.. أعترف بأنني لم أعرف أن أعصر الليمون جيدا، فنادرًا ما أدخل المطبخ، ولكن ماذا أفعل؟ فالخادمتان صفية ورهام نائمتان، وأماني مربية قمر أيضا نائمة، كما أن زوجتي نائمة، وأبنائي نائمون، وعلى فكرة أنا كنتُ نائما أيضا! رفضتْ بشدة الليمون، بل إنها رمتْ الكمادات والثلج أرضًا! استغربتُ من صنيعها هذا بعد أن تغطّت بـالبطانية وغطّت رأسها وهي تقول بصوتٍ مكتوم من تحتها: لا أريد أن أشرب شيئاَ، اخرج من غرفتي! شعرتُ بالحرج من كلامها هذا، عادةً ما في مثل هذه المواقف التي تسيء قمر فيها التصرّف أوبخها بكلمة عاتبة أو بنظرة حادة حتى تمتنع عن هذا التصرف السيئ ولكن الآن ولأنها محمومة ومزاجها معكر فسأسامحها! " ألا زلتَ واقفًا فوق رأسي؟ أنا لا أطيق رؤيتك!" يبدو أنّ نوبة مفاجئة اجتاحتْ ابنة أخي، لا بأس، سأخرج الآن! خرجتُ من غرفتها، وأنا أتذكر جملتها الأخيرة، هل حقا إلى الآن قمر ما تزال تحتفظ بتلك الصورة في مخيلتها عني؟ أنني وحش قاتل لا أرحم! ربّما أحدٌ حكى لها أنني من اليهود! مثلا.. أف، فتظنّ ما تظنّه، فلا أدري أنا أيُّ الأفكار قد زرعتها في رأسها يا آسر! فقد أسرتّ عقلها فعلا! -5- [جوهرة] استيقظتُ على طرق خفيف على الباب، نظرتُ بجانبي، ياسر نائم بعمق، فتحت هاتفي المحمول فإذا الساعة الخامسة فجرًا، قمتُ وفتحت الباب، كانت أماني واقفة بتوتر تفرك يديها، قلتُ: خيرا يا أماني، ما الأمر؟ أجابتْ أماني وهي تضم يديها الاثنتين إلى بعض وتقول بصوت مرتجف: قمر.. قمر يا سيدتي! سألتُها بقلق: وماذا بها قمر؟ أليستْ نائمة؟ هزّت رأسها نفيا وهي تقول بخوف: حرارتها مرتفعة جدا، حرارتها واحد وأربعون درجة! شهقتُ بفزع لدى سماعي هذا الخبر، واحد وأربعون درجة؟ يا ستّير، كيف! لقد نامت في الليل بهدوء بعد أن تدفأتْ وشربت الحساء! قلتُ لـأماني: سأوقظ ياسر إذن ليذهب بها إلى المستشفى! أماني أومأت برأسها موافقةً ثم انصرفتْ، أيقظتُ ياسر وقلتُ له الخبر، فقام متنهدًا وهو يمسح وجهه بكفه، لم يكن على وجه علامات الفزع والذهول التي على وجهي، ولا أعلم لماذا، ألهذه الدرجة لا يهتم بأمر ابنة أخيه؟! بعدُ أن صليتُ الفجر ذهبتُ إلى قمر، كان وجهها متعرقا ومحمرّا من الحرارة، ولوهلة أحسستُ بأنها هي مصدر الدفء في الغرفة وقد لاحظتُ أن المدفأة مُطفأة وقمر تتوهج بالحرارة. كانت نائمة وشعرها الأسود الفاحم القصير متناثر حول وسادتها وهي تتقلب في فراشها وتتنفس بصعوبة، وتئن أنينا منخفضا! مددتُ يدي إلى جبهتها لأتحسسها، وعلى الفور أبعدتها بسرعة البرق، كادتْ يدي تحترق! أنا عادة لا أهتم بقمر كثيرًا فهي لديها مربية خاصة وظّفها ياسر للعناية بها، ولكنني مشفقة عليها لأنها يتيمة، وهذه الصلة التي تجمعني بها الشفقة والرحمة، وربما في بعض الأحيان أشعر بأنها قليلة الأدب مع زوجي فأتضايق منها وأكرهها ولكن حناني الأمّي يتغلّب على ذلك فأحتضنها مع أولادي. جاء ياسر وقال لي: هيّا أيقظيها وتجهزي حتى نذهب! قلتُ له: لكنها ليستْ قادرة على المشي! هزّ رأسه ببساطة وقال: إنها خفيفة لا تقلقي! دُهشت لاهتمامه هذا، قبل ذلك لم يكن يسأل عنها حتى.. منذ أن قُتل أبوها وهي تعيش بيننا، في البداية كانت لا تقبل أن تعيش مع ياسر، وكلما رأته امتقع وجهها وقامت تصرخ وتبكي بصوتٍ مرتفع، وبصراحة أصبح هذا لغزا محيرا لي إلى الآن، إذ أنها من الطبيعي أن تتقبل عمّها بعد أن مات أبوها، وتحبّه وتتعلق به لأنه (عمها) ولكن العكس حصل، كانت تتهرب منه، وتتنظر حتى ينهي طعامه على المائدة وينصرف لتأتي هي وتأكل بدون أن يراها! ولأن غرفتها كانت قريبة من غرفتنا، كانت لا تخرج منها أبدا إلا أن يكون ياسر خارج المنزل. أفقتُ من أفكاري على ياسر الذي اتجه إلى غرفة قمر مباشرة، ثم خرج منها بعد دقيقة وهو يحملها، كانت أماني قد وضعت عليها غطاءً لكيلا تبرد في الخارج، ظل يتأمل وجهها في قلق، ثم نزل سريعًا وخرج من المنزل أما أنا فقد ارتديتُ عباءتي وتبعته. |