رواية عيون لا ترحم [34] قلب حنون، لم يقتل، لم يغدر! -1- [باسل] بعد صلاة المغرب، كنتُ ألعب مع كلبي "جون" بمرح في الحديقة وهو يركض خلفي حيث أحمل سلسلة كنتُ ألاعبه بها، ولوّحت بها في إغراء وأنا أضحك لأفاجئ به يقفز علي لأسقط أرضًا على العشب ثم يلعق وجهي وهو يلهث وقد ظهر عليه الفرح باللعب. قلتُ ضاحكًا وأنا أدفعه: كلا لا.. لا تلعقني يا جون هذا مقزز! قمتُ بسرعة وتوجهتُ إلى صنبور قريب عند السور، صحيح أنني أحب جون لكن هذا لا يعني أنني أحب أن يلعقني. لكنه يفعل هذا في كل مرة ألعب فيها معه ويزداد حماسه في اللعب. غسلتُ وجهي ويديّ وذهب جون بعيدًا عني قليلًأ، شعرتُ بالانتعاش وأنا أشم رائحة العشب النديّ والأزهار والشجر. .كم أحب هذه الرائحة. تعطيني إحساسا بالأمان. قطع مسامعي نباح جون على مسافة قريبة، كان ينبح بطريقة غريبة وكأنه رأى عدوًّا ما.. هل رأى قطة أو فأرًا يا ترى؟ ذهبتُ إليه وأنا أقول بتساؤل: ماذا هناك يا جون؟ وفوجئت بذلك الجسم الراقد على العشب والعشب يغطيه، كان جسمًا صغيرًا، أسرعتُ إليه لأجدها فتاة يتناثر شعرها الأسود القصير حول رأسها، وقميصها الأبيض قد اتسخ بالعشب الندي والطين الذي تحته، وبنطالها الأسود الواسع الشبيه بالتنورة الذي يصل حتى كعبها قد انحدر قليلًا وأظهر ساقيها المليئتين بالرضوض والكدمات، أنا أعرف هذه الهيئة جيدا جدا، لقد كانت قمر. جلستُ بجانبها مذعورًا، ماذا حصل لها؟ أمسكتُ رأسها ورفعته على حجري وأنا أنادي باسمها في لهفة: قمر.. هل أنت بخير؟ ماذا جرى؟ لماذا أنت مستلقية في هذا المكان؟ تأملتُ وجهها النائم المجهد المتعب وتلك الهالات السوداء التي كانت تحت عينيها، نظرتُ إلى السور القريب منا، لماذا يُخيل إلي أنها تسلقت السور لتدخل إلى هنا؟ إذن هل سقطت من عليه؟! شعرتُ بالرعب من هذا الاحتمال وأمسكت يديها ورجليها لأتأكد ألا كسر فيهما. لكن جسمها كان سليمًا. إذن هل هو مجرد إرهاق؟ لم أكن أفهم أي شيء مما يدور حول قمر ، فكل الأحداث التي تحصل بخصوصها تكون غامضة ولا أستطيع معرفة تفاصيلها. بدأت قمر تفتح عينيها وهي تئن، ثم نظرتْ إلي وقالت بخفوت: باسل؟! نظرتْ حولها ثم اتسعت عيناها فجأة وهي تنظر حولها للعشب: أين أنا؟ ثم ابتعدت عني بحركة مفاجئة. ربما لأنها نظرت للكلب جون الذي كان خلفي فخافت منه. لكنها بمجرد ابتعادها أمسكت رأسها بألم ودفنت رأسها في العشب. يبدو أن رأسها تؤلمها بشدة، قلتُ لها بقلق: قمر. هل أنت بخير؟ رأسك تؤلمك؟ سكتت لثوان قبل أن ترفع رأسها بإجهاد وهي تقول بصوت منبوح: نعم..أريد مسكنا! ثم التفتت لي وقالت بتعب: باسل.. أين .. عمي؟ اتسعت عيناي بدهشة وأنا أقول: أتقصدين.. أبي؟ إنها لأول مرة تسأل عنه، قالت: نعم. أين هو الآن؟ شعرتُ بالغرابة والدهشة لكنني أجبتُ: إنه خارج المنزل، لابد أنه في العمل. ولم يعد حتى الآن. قالت بصوت واهنٍ: هل يمكنك أن تتصل به؟ زادت دهشتي وأنا أقول بتلعثم: نعم بالتأكيد. لكن لماذا؟ أهناك شيء ما؟ يمكنني المساعدة. قالتْ بضيق: كلا. أرجوك يا باسل، لا وقت لدي. اتصل عليه واطلب منه العودة. شعرتُ بالإحراج أكثر، خاصة أنها رفضت مساعدتي التي عرضتُها عليها. لكنني تنهدتُ وأنا أخرج هاتفي، وطلبتُ رقم أبي، ثم انتظرت حتى رد قائلًا بهدوء: نعم باسل. أنا في العمل الآن. أهناك شيء؟ قلتُ مباشرة: قمر تريد أن تتحدث معك يا أبي. قال بانفعال: قمر.. أين هي؟! فأعطيتُ قمر الهاتف ووضعتُها أمام الأمر الواقع، ظهر على وجهها الإحراج وهي تمسك الهاتف ووجهها يقول لي: لماذا لم تكلمه أنت؟! لكن لا دخل لي. أنت رفضتِ مساعدتي ولذا ستتكلمين أنت أيضًا معه. لن أتكلم بدلًا منك! -2- [قمر] عندما دفعني سامي بكل قوته أمام الباب وأغلقه، شعرتُ بقلق هائل لخوفي أن يكون السيد هيثم قد أطلق عليه من مسدسه، لكن سامي كان حادًّا جدا وصرخ فيّ بغضب أن أبتعد. شعرتُ بالألم لأنني سأتركه لكن يبدو أن وجودي معه يجعله يشعر بالهم أكثر. وأصلًا أنا السبب في أن السيد هيثم غضب ورفع علينا مسدسه! فأنا من أغضبته.. تبا لي. يا لي من حمقاء. لو أمسكتُ أعصابي جيدا كان الأمر ليتم بسلام وسأهرب بدون إثارة شكه، وكذلك سامي كان سيتمكن من النجاة أو نخطط لكل شيء كما نريد. ظللتُ أركض بعد صرخة سامي بكل قوتي. خرجتُ من العمارة وخرجت من الشارع كله. ظللتُ أركض حتى اقتربتُ من منزلي. لكنني توقفت في الطريق لاهثة لأنني لم أعد قادرة على إكمال الركض. جلست على كرسي في إحدى الحدائق وشعرتُ بتعب بالغ في جسمي كله. انتابني الخوف وأنا أتلفتت حولي وأتخيل أن جاسم أو كريم أو حتى السيد هيثم سيتبعانني. لقد بدا السيد هيثم مصرًّا وهو يمسك يدي ويقول أنه سيأخذني لمنزله لنتفاهم. أي منزل هذا؟! وأي تفاهم يقصد؟! لم أستطع أن أجلس لأستريح قليلًا وأنا خائفة من أن يتبعني أحدهم. لذا فضلت إكمال الركض حتى منزل عمي. ولكن عندما وصلتُ إليه كان وضع جسمي صعبًا، فأنا لم أعد أشعر بأطرافي تقريبًا من شدة التعب والإجهاد. أخذتُ بضعة أنفاس قوية وتسلقت السور. أريد فقط أن أصل إلى غرفتي لكي أهدأ وأستريح. لكن قدمي توقفت عن الحركة تقريبًا في النهاية، كنتُ على مقربة من العشب، وشعرتُ بأنه لا طاقة لي متبقية بعد كل هذا الجهد. فألقيتُ نفسي على العشب لأسقط على وجهي. حاولتُ أن أقوم جالسة على الأقل. لكن رأسي كانت تدور بشدة، وشعرتُ بظلام يلفني. فاستسلمتُ له هذه المرة. على الأقل أنا داخل منزلي الآن! بعد دقائق سمعتُ نباح كلب شرس عليّ، شعرتُ بالرعب الشديد وهممتُ بالقيام لكن جسدي كان يرفض رفضًا باتًّا. شعرتُ بأحدهم يمسك برأسي ويرفعني، وسمعتُ صوت باسل. أرغمتُ عيني على أن تفتح، وفوجئت بمنظر ذلك الكلب الشرس خلف باسل. والخوف من ذلك الكلب هو ما حرك جسدي للابتعاد عن باسل بسرعة! لكنني صُدمت بذلك الصداع الثقيل الذي يملأ رأسي، لبثتُ عدة ثوانٍ قبل أن أستجمع قوتي وأجلس، وأتذكر فورًا ما أتيتُ لأجله.. عميّ.. يجب أن أخبره! طلبتُ من باسل أن يتصل به ويطلب منه المجيء. لكن باسل فاجأني وأعطاني الهاتف! شعرتُ بالإحراج وأنا أضع الهاتف على أذني لأسمع صوت عمي يقول بلهفة: قمر.. أنت بخير؟ قلتُ بصوت منخفض: نعم. قال بلهجة حازمة: أين كنتِ؟ لماذا لم تسمعي كلامي وتظلي في البيت؟ قلتُ بندم: أنا.. آسفة.. سكت عمي قليلًا وتنهد ثم سأل بهدوء يخفي حدة: ماذا حدث؟ لا تخبريني أنك بالفعل ذهبتِ لمواجهة هيثم؟! قلتُ بإحراج: نعم.. فعلتُ هذا! قال عمي بلهجة غاضبة قلقة: وماذا حدث؟! قلتُ بألم: هل يمكن أن أقول كل شيء عندما تأتي؟ هدأ عمي قليلًا وقال: حسنًا. فهمت، لعلك لا تريدين الكلام أمام باسل. قلتُ بلهجة توشك على البكاء: نعم. قال عمي بلهجة متفهمة: لا تقلقي. سوف آتي. انتظريني. سكتُّ لبضعة ثوانٍ قبل أن أقول برجاء: عمي.. هل يمكنك أن تأتي سريعًا ولا تتأخر؟! شعرتُ بعمي يندهش قليلًا ويقول: آ.. حاضر.. لا تقلقي. أعطيتُ الهاتف لباسل الذي كان يشيح بنظره عني، وقمتُ واقفة سريعًا كي أعود إلى غرفتي.. لكن قبل ذلك، يجب أن أطلب من ريهام أن تحضر لي أي مسكن! فرأسي توشك على الانفجار! -3- [ياسر] عندما دخلت غرفة قمر في الصباح ولم أجدها، عرفتُ أنها ستذهب حتمًا لمواجهة هيثم، ولم أدري كيف أوقفها، ولم أعرف ما هي كمية المصائب التي ستحصل بعد حدث كهذا.. لكنني قررت التحرك سريعًا أيضًا. قمتُ أولًا بعدة أعمال كانت متراكمة علي في الشركة، استغرقت مني الكثير من الوقت لإنهائها. وفي النهاية ذهبتُ إلى باسم، مدير أعمالي، واجتمعتُ معه لأول مرة منذ حادثة هجوم سامي وقمر علينا. أتذكرون تلك الحادثة الظريفة؟! كان باسم قد تحسن تمامًا، فقد كان الجرح الذي أصابه به سامي مجرد جرح سطحي. وقدعاد إلى العمل في غضون يومين، أما أنا فقد تطلب الأمر أسبوعًا تقريبًا لأعود إلى العمل! أظن أن جسدي غير مهيأ تمامًا لحرب المنظمات هذه! شرحتُ لباسم موقف قمر، وكيف أن هيثم قد خدعها واستغلها. هو لم يعلم هويتها عندما رد عليها هجومها. كم كان منظره مضحكًا وقد فتح فمه بدهشة وهو يقول: تلك الطفلة الشقية. ابنة السيد آسر؟! ثم سكت بإعجاب وبدأ في نوبة ضحك قوية، قائلًا: ذاك الشبل من ذاك الأسد! ابتسمتُ بهدوء، أراقب ردة فعله ضاحكًا، لكن ملامح وجهه تغيرت للكراهية وهو يقول: كيف لهيثم اللعين أن يستغل طفلة مثلها ويجعلها تنضم لمنظمته في هذا العمر الصغير؟ عقدتُ حاجبيّ بأسى وقلتُ: يبدو أن هيثم قد عرف بمحاولة منظمتنا للتحقيق حوله، وكان يشك في أنني من أسس منظمة التحقيق تلك، فقرر أن يقلب الطاولة علي. ويجعل ابنة أخي عدوة لي. ظهر الغضب على وجه باسم وهو يقول: لم أكن أعلم أنه حقير لهذه الدرجة. ثم قال بانفعال: إذن ماذا سنفعل يا سيد ياسر؟ كيف سنحمى قمر منه؟ هل يكفي أن تقنع قمر أن تتركه وتبعتد عنه؟ قلتُ بتفكير عميق: كلا. هذا ليس كافيًا أبدًا. فقمر من النوع الذي لا يقتنع إلا بمزاجه. لكنني أفكر بأمر آخر. سيجعل قمر تبعتد عن هيثم نهائيًّا. سألني باسم باهتمام: ماهو؟ قلتُ لباسم بشرود: لدي عمة تسكن في أطراف الصعيد، في قرية مسالمة في الأرياف هناك، سأنقل قمر إليها لتسكن معها هذه الفترة. حتى نستطيع التعامل مع هيثم بدون أن نقلق بشأن امتلاكه ورقة رابحة كـ قمر في يديه. فقال باسم بعدها بقلق: أهذا كفاية حقا لكي نبعد قمر عن هذه المهزلة كلها؟ تنهدتُ بحرارة: نعم، أظن ذلك. فسأل بعدها بحيرة: وكيف ستجعل قمر ترضخ لهذا؟ قلتُ بجدية: سأقنعها بالذهاب، إذا لم تقتنع فسأفقدها وعيها إذا لزم الأمر وآخذها. وأخطط للجلوس معها أسبوعًا أو أكثر حتى تعتاد على المعيشة هناك. لأكون متأكدًا من أنها لن تهرب! سكت باسم وقال بلهجة مهمومة: بالفعل يبدو حلًّا مناسبًا. لكن المشكلة إذا لم تقتنع قمر بسهولة أو حاولت المقاومة أو الهرب منك. لكن إذا سار كل شيء على ما يرام فلا أظن أن هيثم يستطيع الوصول إلى مكانها أبدًا. أمسكتُ رأسي بإرهاق وأنا أحاول تقليب كل الحلول الممكنة، لم تورط قمر نفسها وحسب وإنما ورطتنا كلنا في هذا الأمر! جاءني اتصال باسل حينها وفوجئت بقمر تطالبني بالعودة سريعًا. شعرتُ بدهشة عارمة وأنا أسمع رجاءها لأول مرة في حياتي. لأول مرة أراها تطلب مني طلبًا بل وتترجاني! ماذا حدث إذن؟ رغم أنني شعرتُ بسعادة لذيذة لكون قمر قد خاطبتني بلهجة أشعرتني بأنها تعتمد علي وتثق فيّ، لكنني شعرتُ بقلق رهيب.. لهجة قمر لم تكن لتتغير بهذه الطريقة معي إلا لو حصل شيء ما.. شيء ما.. وتذكرتُ بفزع احتمالية أنها ذهبت لتواجه هيثم بالكلام الذي قلته لها بالأمس! تركتُ باسم على وجه السرعة وانطلقتُ إلى منزلي. بمجرد دخولي من البوابة خاطبني العم فرج قائلا بصوت خفيض: سيد ياسر.. هناك ما أريد قوله لك. قلتُ له بلطف: هل يمكنك أن تؤجل الأمر فيما بعد؟ فأنا مستعجل. لكن عم فرج أصرّ قائلًا: ولكن الأمر هام يا سيدي. فقد أظهرت الكاميرات عندما راجعتها مساء اليوم أن ابنتك قمر قد خرجت من الفيلا متسلقة السور. وعادت بنفس الطريقة أيضًا! هذا خطر حقا على الآنسة.. تنهدتُ والهمّ بغمرني وقلتُ: أعلم يا عم فرج ذلك، لا تقلق سأعاقبها بالطريقة المناسبة، شكرًا على اهتمامك. وأربتُّ على كتفه بامتنان وهو شعر بالثقة قائلًا: اعتمد علي، فلم نركب هذه الكاميرات هباء. بادلته ابتسامة مجاملة وهرعتُ إلى الداخل، وجدتُ ريهام في وجهي عندما فتحتُ الباب فألقيت علي التحية قائلة بود: مرحبًا بعودتك يا سيد ياسر. هل تريد أن أحضر لك الغداء؟ قلتُ سريعًا: كلًا. لا أريد الأكل الآن. ولكن أجيبني من فضلك، هل قمر في غرفتها؟ قالت بابتسامة لطيفة: نعم. لقد عادت قبل مجيئك بساعة تقريبًا. وكان يبدو عليها التعب الشديد وأنها تعاني من صداع نصفي. أخذت حماما دافئًا وصلت فرضها وبعد ذلك أكلت نصف شطيرة صغيرة وأخذت المسكن ونامت على الفور. قلتُ بخيبة أمل: أي أنها نائمة الآن؟! قالت ريهام: نعم. تنهدتُ بحرارة وقلتُ: حسنًا.. شكرًا لك على تعبك معها يا ريهام. قالت بإحراج: العفو. لم أفعل شيئًا. تركتُ ريهام وصعدتُ السلم بهدوء، وألقيتُ نظرة عابرة على باب غرفة قمر، ذلك الباب المطلي بلون أسود وفيه خطوط فضية تزينه من المنتصف، لا أدري لماذا شعرتُ برغبة عارمة في الدخول وإلقاء نظرة عليها.. حتى لو كانت نائمة! أخذتُ نفسًا عميقًا وطرقتُ الباب مرتين بهدوء، لكن كما هو متوقع لم أجد أي رد، فتحتُ ببطء ودخلتُ. كانت الغرفة مظلمة إلا من ضوء تلك الأباجورة التي تصدر ضوءًا بنفسجيًّا، يلقي بظلاله على وجهها.. كان شعرها الأسود متناثرًا حولها يغطي وسادتها، وعندما اقتربتُ وجدتُ زخات العرق تغمر جبينها الصغير، وهي تتنفس بصوتٍ عال.. شعرتُ بأنها تعاني من إحدى الكوابيس، أو أن حرارتها مرتفعة! أصابني القلق وأنا أقترب لأرى وجهها الشاحب عن كثب، كان الإرهاق ظاهرًا عليه، وسمعتُ أنينها الخافت وهي تحرك رأسها يمنة ويسرة على الوسادة وكأنها تنام على شوك، شعرتُ بالتوتر الشديد وأنا لا أدري ماذا أفعل؟ كيف أساعدها وهي نائمة؟ وضعتُ يدي على جبينها أخيرًا لأقيس حرارتها، جبينها كان دافئًا ولكنها لم تكن تعاني من الحمى.. ويبدو أن يدي قد أقلقت منامها فقد وجدتها تشهق بفزع وهي تفتح عينها عن آخرها وتحاول الجلوس بهلع وهي تنظر إلي لاهثة.. شعرتُ بالإحراج أنني في غرفة نومها وتوقعتُ منها أن تهتف بحنق: "اخرج حالًا".. أو "ابتعد عني" كعادتها معي، لكن شيئًا من هذا لم يحدث! بل إنها ظلت تنظر إلي بعينين متسعتين وهي تلهث ثم همست بصوت منهك: ع.. عمي!؟ أجبتُها سريعًا وأنا أضع يدي على كتفها قائلًا بقلق: نعم.. هل أنت بخير يا قمر؟ هل رأيت كابوسًا؟ زمت شفتيها وكأنها على وشك البكاء، ونظرتْ إليّ بلوم قائلة: لماذا تأخرت؟! قلتُ بصدق: كلا.. لقد تركتُ ما بيدي وجئتُك فورًا! لكن وجهها الذي أوشك على البكاء جعل قلقي يصل إلى ذروته، فقلتُ أسألها باهتمام شديد: قمر.. أخبريني ماذا حدث مع هيثم؟ هل ذهبتِ لمواجهته حقا؟! عندها فعلتْ قمر أغرب شيء حدث لي في حياتي، فقد جلست على السرير، وضعتْ رأسها على صدري وطوقتني بيدها الصغيرة وقالت باكية: أنا... أنا آسفة! -4- [.....] جلس هيثم على الأريكة السوداء الفاخرة التي تنتصف الصالة في شقة سامي وهو يدخن سيجارته الفاخرة، ألقى نظرة على ذلك القطع البسيط في طرف بنطاله وابتسم بسخرية ونفث هواء سيجارته قائلًا: لم أكن أتوقع أن تأتي لحظة معرفتهم للحقيقة بهذه السرعة! قال ذلك وهو ينظر إلى سامي فاقد الوعي المستلقي على جانبه أمام باب الشقة، وقد تورمت شفتاه من الضرب ونزف أنفه بخيط سائل من الدم وصل حتى ذقنه، وتورم جفناه وازرق لونهما. ثم نظر إلى بنطاله الذي كان قد تغرق بالدماء مكان إصابته بالرصاصة، وقد لوثت الدماء الأرض تحته، عقد حاجبيه بغضب ثم أخذ نفسًا عميقًا ثانيًا من سيجارته، وهو يتذكر ما حدث. فقد كانت البداية حيث أمره أحد رؤسائه بمراقبة آسر نوار حيث كان له مشروع لتربية الأيتام في مركز من إنشائه، كان كل شيء في البداية يبدو طبيعيًّا. رجل أعمال يحب عمل الخير ويريد أن ينشئ مركز أيتام. لكن بعد أن حاول هيثم الاشتراك معه في عدة مشاريع والتقرب منه والإدعاء بأنه سيساعده في مشاريعه المستقبلية، اكتشف عدائه الشديد للإسرائيلين وبإن إنشاءه لتلك المراكز كانت بداية لتدريب هؤلاء الأطفال على أن يكونوا جيشًا مسلمًا يحاربهم. كان على هيثم أن يتصرف، ليس لأنه ضابط مخابرات إسرائيلي وحسب، بل لأن إنشاء مشروع كهذا يمثل خطرًا على دولته، حاول مع آسر العديد من المحاولات لتثبيطه تارة، ولاقتراح المناهج الغربية عليه وتزيينها له تارة أخرى. لكن آسر كان يمشي باتجاه محدد لا يحيد عنه. حتى توصل هيثم أخيرًا أن آسر يجب أن يُقتل، هو لن يتوقف عن فعل شيء كهذا إلا بقتله. ولكن رؤسائه كانوا يكررون عليه التعليمات بعدم اغتيال أي شخصية عامة على العلن، فهم لا يريدون إثارة أي ضجة، ولا يريدون تأجيج أي عواطف. فكر هيثم في التقرب من أخيه ياسر، ذلك الأخ الأحمق الذي اتضح أنه ضائع تماما حيث كان مدمنا على الخمر. في البداية كان يريد أن يقنعه أن يقتل هو أخاه، لكن مرت الأيام والشهور، وكل يوم يزداد دين ياسر، ويقنعه هيثم بأن الحل هو في موت آسر، لكن ياسر لم يكن ليفعل شيئًا كهذا أبدًا حتى وهو سكران! لكن استغل هيثم نقطة إدمان ياسر للخمر وكونه لا يذكر شيئًا عندما يستيقظ، وفي تلك الليلة أخذ هيثم ياسر السكران من الحانة مدعيا أنه سينقله لشقته، لم يعرف ياسر أن هيثم قد وضع له منوما إضافيا في الخمر كي يتأكد من عدم استيقاظه تماما تلك الليلة. حيث بدأ هيثم التجهيزات بمجرد التأكد من نوم ياسر العميق. ارتدى نفس ملابسه، وبمهاراته الفائقة في التنكر التي اكتسبها من تدربيه في المخابرات، صنع قناعًا رقيقًا فيه ملامح طبق الأصل من ياسر، وضعه على وجهه، وخرج متجها إلى آسر، كان يريد أن يبدأ حديثه معه بطريقة ودية كي يطمئن له آسر ثم يطعنه خلسة، لكن آسر انتبه إلى تنكره في اللحظة الأخيرة، وهذا ما جعل هيثم يسرع في القضاء عليه. وبعدها أخذ الكاميرات ورحل. فهو يستطيع أن يستفيد منها عن طريق كتم صوت الفيديو ليظهر أن ياسر هو القاتل. وكان هذا دليلًا دامغًا في يديه، لكنه لا يفكر في إخراجه لأي حد إلا عندما يحتاج! عندما عاد هيثم إلى شقته ألبس ياسر ملابسه المضرجة بالدماء ووضع الخنجر في يده، وعندما استيقظ خدعه بتلك الكذبة الكبيرة. صدق ياسر مقولته ولم يشك فيها. خاصة بعد أن عرف أن ابنة أخيه قد رأته واتهمته أنه القاتل! حتى لو لم يتذكر أنه قتل بيديه، فهو يعرف أنه كان سكرانًا ولن يتذكر شيئًا كهذا.. ظل هيثم يبتز ياسر ماليا لعدة سنوات تالية بعدها، ولم يملك ياسر من أمره شيئًا سوى أن يدفع له، لكن عندما بدأ باسم وياسر إنشاء تلك المنظمة السرية للتحقيق في أمر هيثم، رفض ياسر حينها أن يدفع لهيثم عندما عرف حقيقة كونه إسرائيليا! وهذا ما جعل الغضب يتأجج في صدر هيثم، وقرر أن يقلب الطاولة عليه، ليعلمه أن من يجرؤ على تحدي هيثم لم يُولد بعد! وهكذا قرر خطف قمر ليبدأ بتمثيل تلك التمثيلية عليها. التمثيلية التي راهن على نجاحها مع أتباعه، لكنها بالفعل لم تنجح! فقد اكتشفوا الحقيقة بسرعة حقا! خرج هيثم من أفكاره على صوت طرق الباب، فقال هيثم بصوت ثابت: ادخل. فُتح الباب بالمفتاح الذي كان مع الطارق، وظهر صوت جاسم وهو يدفع الباب بقوته قائلًا باستغراب: ما هذا الشيء الذي خلف الباب؟ أهو.. واتسعت عيناه دهشة وذهولًا عندما رأى جسد سامي الملقى خلف الباب بتلك الحالة، نظر إلى هيثم بفزع وقال: ماذا حصل لسامي؟! نظر هيثم بهدوء وقال: لقد أساء أدبه فعاقبتُه. لم يفهم جاسم شيئًا وسأل مرة ثانية: ماذا فعل سامي يا سيد هيثم؟ تنهد هيثم حيث لم يكن له أي رغبة في الكلام ولا في الشرح، فقال وهو يرخي ظهره على الأريكة مغمضًا عينيه: لقد عرف الحقيقة يا جاسم.. عرف هو وقمر تلك الحقيقة التي أخفيتها عنهما. قال جاسم بدهشة: كيف عرفوها؟ قال هيثم بهدوء: لقد اقتحمت قمر غرفتي ورأت بعض الأشياء التي تدل على ذلك. ظهر الانفعال على جاسم وإن كان فهم سبب ذلك المنظر، سكت وهو يراقب سامي بإشفاق ثم قال بحسرة: لقد حذرتك منهما، إن ولائهما في النهاية كان للقضية وليس لشخصك يا سيد هيثم! لم يرد هيثم عليه وهو مغمض العينين، انحنى جاسم وهو يفحص سامي عن قرب ثم غمغم بإشفاق: لقد توقف نزيف إصابته مؤقتا، لكن يجب معالجته فورًا حتى لا تحدث له أي مضاعفات أخرى. لم يرد هيثم عليه هذه المرة أيضًا، فوقف جاسم وهو يقول: أم أنك تريد أن تتركه حتى يموت؟! هز هيثم كتفيه وفتح عينيه قائلًا: إن أردتُ قتله لكنتُ فعلتُ ذلك من البداية! لكنني أردت تأديبه وحسب. نظر نحوه جاسم بتردد وقال: وأين قمر إذن؟ ألم تقل أنها عرفت الحقيقة؟ عقد هيثم حاجبيه قائلًا: نعم. لكنها هربت مني. قال جاسم بنبرة استنكار: ماذا ستفعل إذن؟ قال هيثم بملامج جادة مخيفة: أليس ذلك واضحًا؟ سأنقلهم للمنزل. ستصبح إقامتهم دائمة هناك! ثم ابتسم قائلًا باستمتاع: أي أنه سيتم ترويضهما هناك! ترويضهما حتى يصبحا جنديّان مخلصان لنا. اقشعر جاسم من رؤية تلك الملامح المرعبة على هيثم، وابتلع ريقه وهو يرمق سامي.. أحقا يستطيع هيثم ترويضه؟ لا يظن أن سامي من النوع الذي يُروض أبدًا. لا هو ولا قمر! وقف هيثم أخيرًا ورمق سامي بنظرات باردة وقال لجاسم بلهجة آمرة: احمله إلى السيارة يا جاسم، بعد نقله للمنزل. سوف تذهب لإحضار قمر أيضًا! قال جاسم بإذعان: حاضر. -5- [قمر] لأول مرة أشعر أنني..أحضن صدرًا حنونّا! لأول مرة أتأكد أنه يحمل قلبًا عطوفًا، لم يقتل، لم يغدر، ولم يخن، وحاول التكفير عن جريمة لم يرتكبها، بل ظل يلوم نفسه ويجلد ذاته على جريمة لم يفعلها! أعترف أنني كنت قاسية عليك جدا يا عمي. أعترف أنني.. لم أجد ولن أجد قلبًا صادقًا في حبك لي كقلبك. كنتُ أبكي أيضًا لأنني تذكرتُ أبي، فعمي في النهاية، هو النسخة المطابقة لأبي! سكت عمي وهو يضمني لصدره قائلًا بعطف: اهدئي.. ماذا حصل؟ لا أدري لماذا لا أستطيع الكلام؟ كل ما أستطيعه الآن هو البكاء بشدة، وهذا ما يجعل رأسي يؤلمني لدرجة أنه ينبض بقوة الآن. لاحظ عمي شهقاتي المتتابعة أثناء بكائي، فجلس القرفصاء أمام سريري ووضع رأسي على كتفه وظل يمسح على شعري قائلًا برفق: لا تقلقي. لم يحدث شيء.. مهما كان قد حصل لك مع هيثم، فكل شيء سيسير على ما يُرام! بدأتُ أهدأ قليلًا، ليس لأنني قد هدأت بالفعل، ولكن لأن النبض في رأسي زاد لدرجة مهولة أشعرتني أنني على وشك فقدان الوعي! فتوقفتُ عن البكاء ليهدأ نبض رأسي قليلًا، وبدا لعمي أنني قد نمتُ، فقد ظللتُ لعدة دقائق صامتة وحسب أستسلم لوضع رأسي على كتفه وتلك اليد الحانية التي تمسح على شعري وظهري، قام واقفًا ليعيد رأسي إلى الوسادة، فتحتُ عيني المرهقة فابتسم قائلًا: ظننتُك نمتِ! قلتُ بصعوبة: أريد أن.. أحكي ما حدث.. مع هيثم! هز عمي رأسه نفيًا وهو يغطيني بعد أن وضع رأسي برفق على الوسادة: ليس الآن يا عزيزتي، فأنت تبدين متعبة جدا! قلتُ بإصرار : لدي معلومة مهمة.. عقد عمي حاجبيه بإشفاق وقال: ستخبرينني كل شيء بعد أن ترتاحي قليلًا، لا تقلقي سأنتظرك! عاد إليّ البكاء مجددا وأنا أقول بصوت مختنق: أريد أن أتكلم.. الآن! تنهد عمي بقلة حيلة وقال: لكن الكلام سيزيد الصداع في رأسك يا قمر، أريدك أن ترتاحي كي نستطيع التحدث في كل شيء.. فأنا أيضًا لدي معلومة مهمة سأخبرك بها! سكتتُ بعدم اقتناع فقال عمي بابتسامة مُريحة: لا تقلقي.. سأنتظرك في غرفة مكتبي، اتفقنا؟ لدي بعض الأعمال أنجزها هناك، نامي بعض الوقت كي يتحسن الصداع وبعدها يمكنك النزول إلى غرفة مكتبي لنتحدث في كل شيء تريدينه. ابتلعتُ ريقي وأنا أنظر إليه بتردد، كنت أريد أن أقول له كل شيء الآن، لكن ذلك الصداع المؤلم في رأسي لن يجعلني أتكلم بشكل جيد، وسأعاني كل دقيقة من نبض هائل يجعلني أسكت في أثناء الحديث المهم، لذا كان قرار عمي حكيمًا، اقتنعتُ به وأنا أقول لعمي بصوت منخفض: فهمتُ. ابتسم عمي براحة وقال: هذا رائع، والآن تصبحين على خير يا قمر. ثم.. قام بتقبيلي فجأة قبلة صغيرة على جبيني وأدار ظهره لي ليخرج من الغرفة، احمرّ وجهي خجلًا، وأنا أشعر فجأة بارتفاع حرارتي. ماذا؟ لماذا تحول عمي فجأة ليشبه أبي بشكل متطابق هكذا؟! رائحته وصوته و..حتى تصرفاته.. كل شيء يذكرني بأبي! ابتسمتُ بحنين وأنا أتذكر قبلة أبي على جبيني قبل النوم، لقد أصبح وجود عمي الآن.. شيئًا جميلًا! -6- [نور] لقد مر أسبوع على موت بوارو، أسبوع كامل.. بدا لي كشهر. أمي أصابها اكتئاب حاد، وظلت معتزلة في غرفتها منذ ذلك الحين، أخذت إجازة من عملها، وأصبحت تضع إيلين عند جارتنا كل يوم، وكانت إيلين تصعد عند وقت النوم فقط، لكن مؤخرا أصبحت تنام أيضًا عند جارتنا، وقد تبقى لها ثلاثة أيام تقريبًا مقيمة عند جارتنا بشكل دائم! أما أنا فقد ذهبتُ إلى المدرسة لأن الوضع أصبح لا يُحتمل. كنت كلما عدتُ إلى المنزل، أجد أمي في غرفتها تجلس بكآبة، لكن هذه المرة عندما عدتُ وجدتها تجلس أمام التلفاز وتلتهم بعض الشطائر التي اشترتها من أحد المطاعم، وهي تمسك دفترا وتدون فيه بعض الكلمات، نظرتُ إلى شاشة التلفاز لأجد برنامج مسابقات تافه، ويبدو أن أمي تشارك فيه الآن! ماذا، هل جُنت هذه المرأة أخيرًا؟! شعرتُ بغضب رهيب وأنا أتوجه مباشرة لإغلاق التلفاز في الحال، نظرت أمي إلى شاشة التلفاز بصدمة ونظرتْ لي بحنق قائلة: لماذا أغلقته؟ قلتُ لها بحدة: ماذا تفعلين؟! قالت بحنق: أحاول المشاركة في أية مسابقات لكي نفوز فيها بأي جوائز مالية، أم تريدنا أن ننام في الشارع؟ قلتُ بغضب: وماذا حدث لعملك؟ لماذا لا تريدين العودة إليه؟! قالت ساخرة بألم: لقد فُصلت منه! وصلني خطاب بأنهم رفدوني من العمل بسبب عدم انضباطي فيه، فقد غبتُ أكثر من أسبوع! قلت والصدمة تثقل لساني: أتعنين أنك لم تأخذي إجازة من العمل؟! قالت هازئة: لقد رفضوا إعطائي إجازة لموت بواور، فغبتُ عن العمل غصبًا، لكنني فوجئت بأنهم رفدوني بالفعل. يا إلهي.. أي أن مصدر الدخل الوحيد لنا قد ضاع! لكنني قلتُ بانفعال: ولماذا لا تبحثين عن عمل آخر بدل تضييع الوقت أمام التلفاز؟! سكتت أمي وقد ظهر على ملامحها الكآبة، فقلتُ مستدركًا: وماذا حدث لذلك المعاش الذي سيُصرف لنا من عمل بوارو؟ قالت بأسى: إنه معاش زهيد يا نور، سيكفي إيجار المنزل بالكاد. وماذا سنفعل في بقية المصاريف؟ ظهر على وجهي الورطة، وشعرتُ بإحساس الخوف فجأة، حقا.. ماذا يمكننا أن نفعل؟ تذكرتُ راتب المافيا الشهري لأمي، فاطمئننتُ بعض الشيء، ولكن أمي لا تعلم بخصوص أنني أعلم عن ذلك الراتب الشهري، فسكتتُ.. قالت أمي بضيق: والآن افتح التلفاز، لعل مشاركتي في المسابقات تحل الأزمة! ابتعدتُ عنها بجفاء وقلت: افتحيه أنت! شعرتُ أنني أكره أمي جدا في هذه اللحظة! تغلبتُ على ذلك الاستياء الناقم عليها وأنا أدخل إلى غرفتي لولا أن طُرق الباب. ذهبتُ لفتح الباب بملل فقد توقعتُ أنها جارتنا قد جائت بإيلين بعد أن ملت منها، فوجئت بأنها إيليت! تلك الخادمة التي لم تأت إلينا منذ ذلك اليوم.. يوم مشاركة أمي في المهمة! وقفت أمي قائلة بلهجة جامدة تخفي انفعالها: إيليت، عودي. لا يمكنك العمل في هذا المنزل بعد اليوم! قالت إيليت بلهجة باردة: لم آت للعمل في المنزل، بل جئلت لاستدعاء نور. فالسيد فيجو ينتظره في الأسفل! ظهر على وجه أمي الصدمة وشعرتُ أنا باضطراب شديد مفاجئ، نقلت أمي نظرها بصدمة إلي وإلى إيلت ثم قالت بانفعال: لماذا يريد فيجو نور؟ ما دخله بكم؟ قالت إيليت ببرود مستفز: الآن هو عضو في المافيا بدلًا منك. وسيقوم بأول مهماته اليوم. نظرت أمي بانهيار وكتمت شهقتها وهي تهتف: ماذا.. عضو في المافيا؟؟ بدلًا مني!! ماذا تعنين؟! من الذي قرر هذا!؟ قالت إيليت بعيون حادة: زعيم المافيا قرر هذا. ولا يمكنك الاعتراض. انهارت أمي جاثية على ركبتها، في حين أشارت لي إيليت إشارة معناها "أسرع فأنا أنتظر" ابتلعتُ ريقي وأنا أترك حقيبتي المدرسية على أريكة الصالة وأهم بالخروج، لولا أن صرخت أمي قائلة: نور.. إياك أن تذهب! التفتًّ إليها بشرود، فقالت بهلع هاتفة: أنت الذي طلبتّ من زعيم المافيا أن تكون مكاني؟ قلتُ بحزن: نعم! وجدتُ إيليت تقول بلهجة حازمة: يبدو أنكما تحتاجان لبعض الوقت للحديث، سأنتظر نور في الأسفل، وآمل ألا يتأخر لكي لا يغضب السيد فيجو. خرجت إيليت وأغلقت الباب، بعد ذلك انهارت أمي باكية: لماذا فعلتَ ذلك؟ هل أنت مجنون؟! سكتتُ بأسى حقيقي، وقلتُ بلهجة صادقة: لقد كنتُ أريد حمايتك، لا أريدك أن تعملي في المافيا يا أمي! رفعتْ حاجبيها وهي تقول بغضب ساخر: إذا كنت لا تريدني أن أعمل في المافيا لماذا تعمل أنت فيها؟! قلتُ أدافع عن نفسي بانفعال: لأنهم هددوني بقتلك أو بقتلي. أنت التي تورطتِ معهم منذ البداية فلومي نفسك يا أمي! لا تلقي اللوم عليّ وحسب. قالت أمي بعصبية: حتى لو ورطتُ نفسي، لماذا تورط نفسك أنت؟ هل تريد أن تموت؟! إن العمل مع المافيا يعني المخاطرة بحياتك. نظرتُ لها قائلًا بمرارة: نعم، يمكنني المخاطرة بحياتي، فحياتي في النهاية لا قيمة لها. أما أنت فيجب أن تعيشي لكي تهتمي بابنتك إيلين. أنايمكنني الموت في أي وقت، و سترتاحين مني. لأنني أذكرك بأبي الذي تكرهينه، أن أموت فهذا يعني أنني لن أسألك عنه ثانية. وسترتاحين من سؤالي ومن شكلي الذي يذكرك به. وفي نفس الوقت سترتاحين من العمل مع المافيا ولن تعودي لها. وستأخذين راتبًا شهريا منهم سيكفيك بقية حياتك. أليس هذا الحل لكل مشاكلك؟! نظرتْ أمي بصدمة إليّ وغمغمت بذهول: نور.. ماذا تقول؟! أظننتَ أني أكرهك!؟ هذا ليس.. أشحتُ بوجهي عنها وأنا أفتح الباب قائلًا بصوت مختنق: تعاملك معي يشعرني بهذا يا أمي. لا حاجة لتؤكدي لي أنك تحبينني بالكلام، فالأفعال هي أبلغ طريقة لإيصال ذلك! ثم أغلقتُ الباب قائلًا بضيق: وداعًا! ونزلتُ السلم سريعًا وأنا أسمع صراخها: انتظر.. نور.. عد إلى هنا! لكنني ركضتُ سريعًا مبتعدًا عن المنزل وعن العمارة كلها، وذلك الشعور الضخم بالألم والمرارة يسيطر على أنفاسي. وكم تمنيتُ جدا حينها .. أن أموت.. وألا أعود إلى هذا البيت الكئيب مرة ثانية! . . فهرس رواية عيون لا ترحم |