(13) بدأت المذيعة تحتل المساحة الكبرى من التلفاز ثم تقول بتأثر: وكما رأيتم أيها السادة، لكل من يبحث عن معاني العطاء والإنسانية، لكل من يريد مدّ يد المساعدة والعون لهؤلاء المساكين الذين أذنب فيهم المجتمع بإعطاء اهتمامه للأثرياء وكبار الشخصيات وإهمال من هم دون ذلك، هؤلاء إذا لم نساعدهم سوف يكبر أحفادهم يوما ما مجرمين، عازمين على الانتقام من كل قادر على المساعدة ولم يساعد.. لذا دعونا نقدم لهم مساعدتنا واعتذاراتنا على رقم الحساب الخاص الذي أرجو أن تسجلوه في مدونتاكم للتبرع إليه.. رقم... سارعت عبير بجلب ورقة وقلم وبدأت بالنظر إلى شاشة التلفاز، ثم شهقت بخفة وهي تجدها شاشة سوداء.. لأنني قد أطفأتُها! سألتني في دهشة شديدة: لماذا؟ لم أكتب رقم الحساب بعد! لم أردّ والتفتُّ إليها لأنظر نظرات معاتبة باردة، ثم تنهدت وأنا أعود إلى الأريكة وأجلس بهدوء.. غمغمت في إشفاق وهي تنظر إلى التلفاز المُغلق: لقد كان رجلا مسكينا! قلت ساخرًا: مسكينا؟ هه.. ثم رفعت قدميّ الاثنتين على الأريكة وضممتها إليّ وأخفيت وجهي مغمغما: هو من حوّل حياتي إلى جحيم! كيف يكون مسكينا؟ اقتربت مني عبير وشعرت بصوتها القريب جدا: لماذا يا بلال؟ هل تعرفه.. هل تعرف هذا الرجل؟ قلت بسرعة وأنا أخشى أن أقول نعم بدون قصد: كلا.. ورغمًا عنّي.. ظهرت مقاطع متفرقة.. يد عدنان المقطوعة، جثتان صغيرتان بجانب بعضهما البعض، رقية المنهارة من البكاء.. وأنا.. وأنا! بينما أكملت عبير بأسى: قصته مُبكية جدا يا بلال.. علينا أن نساعده، فــ.... قلتُ فجأة بحدة: لا تتحدثي عنه! سكتت وهي تشعر بالخوف، ثم أطرقت برأسها وهي تقول بفم مقوس إلى الأسفل: آسفة! قلت بغضب أيضا: ولا تعتذري! تراجعت هذه المرة وهي تقول: لن أعتذر.. آسفة! شعرتُ برغبة في الضحك عليها، لكنني تماسكت وقمتُ بكتمها، ثم قمت وعدت إلى غرفتي، التلفاز يبدو فكرة سيئة لقضاء الوقت أليس كذللك؟ __ ابتلعت عبير ريقها باضطراب وتوتر وهي تشاهد بلال يغلق باب غرفته، وتتذكر ما حدث في صباح الأمس، حين جاءت لتطمئن على بلال قبل ذهابها للمدرسة ووجدته في حالة يُرثى لها، الكمادات تغطي عينيه وأنفه محمّر من الزكام. وجدت والدها بجانبها يقول: لقد نام بعد معاناة! ابتسمتْ تهوّن عليه وهي تقول: يا لك من صبور يا أبي. ابتسم قائلا: أخشى أن ينفد صبري قبل أن يُشفى. ثم تغيرت ملامحه للجديّة: عبير إنني أحتاجك في مهمة.. انتبهت له فأكمل: بلال يفكر بالماضي كثيرا ويُهلك نفسه بذلك، إذا استطعنا ملء وقته بما يفيد أو حتى بما يشغله على الأقل عن التفكير في ماضيه سيُشفى سريعًا بإذن الله! ثم نظر إلى عينيها مباشرة وجلس على الأرض ليصل إلى مستواها الصغير: لذا أرجوك يا عبير.. وضع يديه على كتفيها وهو يقول باهتمام: ابذلي جهدك في شغل أوقاته بما أنني لن أكون في المنزل معظم الوقت. ثم ابتسم باطمئنان وهو يهمس: وأنا واثق من أنك تستطيعين أداء المهمة بنجاح! هزت عبير رأسها في حماس وهي تهمس أيضا بصوت خفيض: بالطبع يا أبي... سأحاول! ثم نظرت عبير في حيرة إلى باب غرفة بلال قائلة لنفسها: حاولت مع التلفاز.. ولكن تبدو خطة فاشلة! فبمجرد أن رأى ذلك الرجل حتى انفعل وأغلق التلفاز وغادر! ولكن يجب أن أفعل شيئا.. هكذا سيفكر ويتعب مرة أخرى! _ كنت مستلقيا على سريري، أتأمل السقف الذي حفظتُ ملامحه، لقد بدأت أملّ من هذا الروتين اليومي! لقد كان أبي يتحدث عن رقية أنها مريضة.. فهل هذا صحيح؟ أم أنه يقول ذلك فقط لكي يحصل على شفقة الناس بجدارة؟ "هل بإمكاني الدخول؟" سمحت لعبير بالدخول بينما أنظر إلى الباب وهو يُفتح برقة، ثم تظلّ عبير باسمة بوجه جميل، وهي تخبئ شيئا وراء ظهرها، جلستُ على سريري وأنا أنظر لها برتابة، فقالت بتردد وهي تنظر أرضًا بإحراج: بلال.. غمغمت في استغراب: نعم؟! احمر وجهها خجلا وهي تفتح فمها لتقول شيئا ما، هل هي غبية؟ أم مريضة؟ وجدتها تخرج يديها الاثنتين من خلف ظهرها وتهتف بصوت عال: هذه هدية لك...! ثم ركضت سريعا ووضعتها في حجري وانطلقت هاربة! أطلقت ضحكة قصيرة، إنها فتاة مضحكة جدا. حسنا، سوف أقبل الهدية وأفتحها، فهذا سيساعدني على قضاء الوقت! كانت الشريطة التي رُبطت بها معقدة وحاولت فتحها بأسناني ويدي.. هذه الذكية ألا تعلم أن يدي مكسورة وأنني لا أستخدم إلا يدا واحدة؟ كانت دفترا صغيرا ذا شكل جذاب بخلفية بيضاء عليه زخارف سوداء، وهناك قلم بجانبه يملك نفس الرسوم. ظهرت على وجهي معالم الإحباط، ألم تجدي إلا هذه الهدية تُهدينها لي يا عبير؟ ابتسمت لنفسي بسخرية مريرة، بالتأكيد فهي لا تعلم أنني أمّي جاهل. والآن إذا رفضت الهدية فربما تظن أنني أمّي فعلا، لن أرفضها إذن.. سوف أُبدي إعجابي الشديد بها...! وأيضا.. علي أن.. أشكرها! أليس هذا صحيحاً؟ تنهدتُ، وناديتها: عبير! ظهرت من خلف الباب فورا.. هل كانت تراقبني؟ ابتسمتْ بإحراج قائلة: هل أعجبتك؟ ابتسمتُ لثاني مرة وأنا أقول: نعم.. أشكرك. ابتسمت بخجل وقالت: على الرحب والسعة. شعرت بالخوف من فكرة خطرت لي فجأة، ماذا لو قالت: هيا بنا لتكتب تاريخ الإهداء مثلا؟ هذه ليست فكرة مخيفة فأنا أستطيع كتابة الأرقام...! ولكن المصيبة إذا قالت اكتب اسمك عليه مثلا! تحول خوفي إلى واقع حين شعرت بها تجلس جانبي وتقول في حماسة: هل فتحت الدفتر؟ قلت بقلق: لا، قالت بخيبة أمل: ألم تقرأ الإهداء الذي كتبته لك؟ ابتلعت ريقي باضطراب، وقلت بخفوت وأنا أمسك الدفتر: لا.. فتحته على الصفحة الأولى وعبير تنظر إلى ملامحي في شغف، بالطبع لم أفهم شيئا! لكنني حاولت أن أجعل ملامح الامتنان والشكر تُطبع على وجهي ثم ابتسمت قائلا: أشكرك كثيرا! وتنهدتُ في راحة عندما ضحكتْ قائلة: من الآن فصاعدا حاول أن تكتب فيه ذكريات كل يوم.. أنا أفعل ذلك! ثم نظرت بشرود مبتسمة: لقد أخبرني أبي أن هذا شيء لطيف، فعندما نكبر ونقرأ كلامنا ونحن صغار سنضحك كثيرا على أنفسنا.. أومأت برأسي موافقا! ثم وضعت الدفتر والقلم بجانبي على الخزانة الصغيرة، وأنا أفكر في داخلي: هل سأتورط كثيرا مثل هذه الورطات في الأيام القادمة؟ __ عاد بكر إلى المنزل متأخرًا، كانت عبير تنتظره بفارغ الصبر، لكي تحكي له ما حصل اليوم وتسأله عن رأيه.. قال في قلق وهو يشرد بعيدا: لابد أن بلال يعرف هذا الرجل الذي رآه على التلفاز.. أعتقد أنه.. لم يكمل كلامه وهو يلتفت إلى عبير ويسألها بغموض: عبير هل بإمكانك فعل شيء غدًا من أجلي؟ اقتربت عبير باهتمام وقالت: ما هو؟ |