(29) كان بكر يدور حول نفسه من القلق بعد مكالمة الشرطة أنهم لم يجدوا أثرًا لبلال حتى الآن، إنه مختفٍ منذ البارحة، تنهد والعرق يغمر جبينه، ماذا سيقول لرقية الآن؟ فوجئ بصوت رسالة من رقم مجهول على هاتفه المحمول، وصُعق حين قرأ محتوياتها "لا تقلق على بلال، هو بخير، إنه معي" غضب كثيرا وهو يضغط على زر الاتصال بالرقم، ويستمع لرنين الهاتف، بمجرد أن فُتح الخط وظهر صوت شاب: نعم؟ قال بكر بعصبية: هل تمزح؟ هل أنت من خطفت بلال؟ قال الشاب بهدوء: لم أخطفه، لقد اشتقتُ إليه فقررت دعوته إلى زيارتي قليلًا! قال بكر وهو يضغط على أسنانه: دعك من هذا الهراء، وأخبرني مطالبك فورًا! قال الشاب ببساطة: لا مطالب لي، سوى أن تهدئوا وتكفوا عن قلقكم فهو مسرور معي، وأنا سأحافظ عليه! قال بكر بحيرة غاضبة: ماذا تعني؟ هل تحاول إقناعي أن بلال معك بإرادته؟ تنهد الشاب في ملل قائلا: ليس كهذا، ولكنك لن تفهم.. بالمناسبة، لا داعي لإخبار الشرطة عن رقمي، فبمجرد إغلاق المكالمة سيتم تحطيم الشريحة، وبهذا ستسبب بالمزيد من القلق لأخته. ثم أُغلق الخط فجأة جعل بكر يقف أمام هاتفه بحنق، يا له من مجرم متغطرس! لكن شيء ما، يجعل بكر يريد التصديق أن بلال بخير معه، وأن هذا الشاب لن يؤذي بلال بأي حال من الأحوال! أخذ نفسًا عميقًا ليحاول الهدوء والاستجمام، ثم تقدم إلى رقية ليخبرها أن بلال مع أحد أصدقائه في مهمة عاجلة ضرورية! وأنه لم يخبرها بذلك لأنه فوجئ باحتياج هذا الصديق له، لم تقتنع رقية في البداية، ولكنها استسلمت للأمر الواقع هي وعبير. _ لم أتناول طعام الغداء أو العشاء، كنتُ حينها منزعجًا جدا ومتضايقا بسبب إحساس الجوع الذي يُلازمني وفي نفس الوقت لا أستطع تناول طعام من عصابة مخدّرات! لم يأتني عدنان منذ الصباح، ولا أعلم ماذا أخّره هكذا، القيود بدأت تؤلم يدي بشكل جلب لي الاكتئاب وأنا أهمس: يا رب، أخرجني من هنا. دخل عدنان فجأة وهو ينظر إلي بصدمة، لم أعرف لم نظرته تلك لكنني هتفت به متألما: عدنان، أخرجني من هنا! تنهد والغمّ يظهر على وجهه وهو يقترب مني قائلا بعتاب: لم لمْ تتناول أي شيء منذ جئت عندنا؟ قلتُ بعصبية: لم آت عندكم، أنتم من خطفتموني. نظر إلي عدنان بحزن وهو يقول: صدّقني ليس بيدي، كنتُ مُجبرًا! صرختُ بانهيار: ماذا تعني؟ أليس لك إرادة حرّة؟ أليس.. قاطعني وهو يضع يده على فمي ليمنعني من الكلام قائلا بإشفاق: سأخبرك كل شيء لتفهم، لا تصرخ وتُنهي طاقتك فأنت لم ولن تعوضّها بالغذاء. علمتُ صدقه حين وجدتُ نفسي ألهث بدون مبرر من صراخي فقط! استسلمتُ وأنا أغمض عينيّ وأستند إلى الحائط قائلا بإنهاك: حسنا، هيا أفهمني. بدأ حديثه وهو ينظر إلي نظرات قلقة: ماذا تريد أن تعرف؟ قلتُ بحنق: كل شيء مذ جاء بي زيد ورقية إلى مستشفاك الخاص! تنهد بقوة وهو يقول: عرفتُ أنك حي أنت وأختي، عندما رأيت ورقة العملية التي مُررّت إلي لتوقيعها، انتفضتُ بقوة وأنا أقوم لأطلب منهم دلّي على غرفة العمليات التي نُقلتَ إليها. قلتُ وأنا أتذكر بعمق: أنت إذن من اقترب مني في غرفة العمليات وأحسستُ بأنفاسك؟ قال عدنان بابتسامة متعجبة: هل كنت تشعر حينذاك؟ حسنا، لم يكونوا قد خدّروك بعد لذا أعتقد أنك بالفعل شعرتَ بي، كما أن دمائي جرتْ في دمائك أيضًا. اتسعتْ عيناي بصدمة وأنا أغمغم: دماءك؟ ابتسم ببساطة قائلا بحب: نعم، لقد أعطيتُك بعضًا من دمي حين مجيئك، رغم أن الأطباء المشرفين حاولوا منعي بادعّائهم أن هناك متبرعين آخرين مستعدين، ولكنني كنت أعلم أنهم ليسوا صادقين، كنت أشعر بأنني أريد إنقاذك ولو اضطررت إلى أن أفديك بروحي. عند قوله الجملة الأخيرة نظرتُ إليه بعينين مُنكسرتين وممتنتين في نفس الوقت، تذكرتُ ذلك الحوار الذي سمعته في غرفة العمليات، كان حينها إذن يريد التبرع بدمه لي؟ يا ربّي، كدتُ أن أردّ عليه لولا أن غصة اقتحمت حلقي، ودمعتْ عيناي، ابتسم هو بحنان مُشفق وأكمل: المهم أنني بعد ذلك دفعتُ مبلغ العملية من حسابي الخاص ولمدة أسبوع كامل لأنني اعتقدت أن هذه المدة المناسبة لنقاهتك وإن كنت تحتاج أكثر من ذلك كنت دفعت! عقدتُ حاجبيّ بحساسية وأنا أنظر إليه نظرة خاصة فضحك قائلا: لا، لم تكن شفقة عليك يا بلال، بل لأنني أردتُ تعويضك أيام الحرمان التي لم أقدّم لك فيها عوْني وفي أشد حالات احتياجك لي! سكتتُ بدون تعليق وأنا أسمعه يُكمل: ربما من أشدّ القضايا حيرة لك هي وضعي للمنوّم في شرابك وعدم وضعه عندما شربه الدكتور بكر، أليس كذلك؟ أومأت برأسي مجيبًا في هدوء، فقال: في الحقيقة هناك سببان: الأول أنني عرفت بأن الدكتور بكر فهم اللعبة وعرف أنني وضعت لك منوّما، وهذا سبب إصراره على شرب العصير في وجبة العشاء، لقد كان يريد الاختبار، فاضطررتُ للتوقف حتى لا يقوم برفع محضر عليّ في القضاء وأخسر سمعة مستشفاي الجميل! ابتسم ابتسامة مُشاكسة لي بينما قلتُ ببرود: والثاني؟ قال: كنت أريد تنويمك حتى لا تهرب من المستشفى كما جرى عندما استيقظت لأول مرة، ولكن وجود الدكتور بكر بجانبك هدّأني بعض الشيء فقد أقنعك بعدم الهروب والانتظار ريثما تقدر على الحركة، وعندما أخبرني طبيبك أن التمرينات الطبيعية لقدمك كل يوم لازمة، توقفت عن فكرة المنوّم نهائيا، وكذلك لتجلس مع الثلاثة الذين زاروك، لقد لاحظتُ أنك مسرور برفقتهم. ابتسم ابتسامة صافية بينما أنا أشحتُ بوجهي دون ردّ، فلم يُعجبني ما فعله على أية حال، وكأنه يُجبرني على النوم -__-! ثم قال بعد تفكير: وآخر شيء هو الحارس وأعتقد أنك تعلم لماذا وضعته؟ قلتُ بدون اهتمام: لكيلا يصيبني أحد من القرية بأذى! قال موافقا: نعم، ليس لهذا فقط، ولكن هناك سبب آخر أيضًا، هو سبب اختطافك. نظرتُ إليه محاولا إخفاء لهفتي وفضولي لهذا السبب بالذات، فقال: هناك مجموعة مهرّبين كنا نتعامل معهم في السابق، وقد حصلت حادثة صغيرة تسببت بالقبض على نصفهم، ظنّوا أننا من بلّغ عنهم، ولذلك سعى زعيمهم للانتقام منّي. ونظر إلي بعينين عميقتين: وبما أن الحراسة مشددة عليّ، ولا يستطيعون الوصول إليّ بسهولة، فقد قرروا مراقبة مستشفاي، وعلموا أنك الوحيد الذي دفعتُ له الحساب، فافترضوا أن حياتك تهمنّي، ولهذا رفضتُ مقابلتك سابقًا لئلا يعتقدوا بوجود علاقة أكبر من ذلك! قلتُ غير مصدّق: أتقصد أنهم كانوا يحاولون قتلي انتقامًا؟ قال بحسم: بالتأكيد، ولهذا السبب عيَّنتُ من رجالي ثلاثة لمراقبتك بعد خروجك من المستشفى، وبالفعل حصلت محاولات عديدة لقتلك لكنك لم تُلاحظ عمل رجالي في الخفاء! تذكرتُ حوادث مفاجئة، سيارة مجنونة تمرُق بجانبي وأنا أسير في الشارع، أحدهم حاول إسقاطي أمام القطار لولا أن أمسك رجل ما يدي، الحديدة التي كادت تسقط عليّ لولا أن دفعني أحدهم! يا الله كيف لم أتيقظ لهذا!؟ قلتُ بدهشة: ولكن.. لم إذن قررت خطفي فجأة؟ ولماذا لم يحاولوا قتل رقية؟ قال: رقية كانوا يظنّونها زائرة لك وحسب مع الدكتور بكر وابنته، أما أنت فقد قررت أنه من المستحيل نجاتك من جميع الحوادث، وعزمتُ على أخذك لتبقى بقُربي! قلتُ بعينين غاضبتين: ولمَ إذن أنا مقيّد؟ قال باسمًا: لأنني قلتُ لرجالي أنك فتى تملك مهارات عبقرية، وأنك تخلّيت عن عملك مع أولئك المهرّبين، ونريد انضمامك لنا قبل أن يقتلوك لأنهم غاضبون لخيانتك، وهكذا أقنعتهم أنك ستعمل معنا مهرّبا وتوافق على الفور، وبمجرد موافقتك فستكون مكسبًا عظيما لنا، بل وإنك ستُخبرنا بأسرار أولئك المهرّبين لنقضي عليهم جميعًا! نظرتُ له بحدّة فقال وابتسامته تتسع: لكنني لم أتوقع ما فعلته معي في غرفة الاستقبال حيث أنك بصقت علي وكدت تهاجمني، ورفضت رفضا قاطعًا، فأخبرتُ رجالي أن يقوموا بسجنك حتى توافق! رفعتُ حاجبيّ بقوة واستنكار وأنا أقول: حسنا وهل ستظل تسجنني للأبد؟ قال ضاحكًا: بالطبع لن أفعل، خصوصا مع إضرابك للطعام هذا، هل تعلم أنني لا أملك الكثير من الوقت للحديث معك؟ فقد أخبرتُ رجالي أنني هنا لمحاولة إقناعك بالموافقة على العمل معنا.. ابتسم ابتسامة لزجة فقلتُ بعصبية: عدنان كف عن ذلك وأخرجني من هنا، افعل أي شيء، لن أتحمّل ذلك طويلًا! قال بنظرات متفهمة: أعدك أنني سأخرجك قريبًا، ولكن أخبرني لم لا تتناول وجبات طعامك حقًّا؟ التزمتُ بالصمت وأنا أنظر إليه نظرات خاوية، فابتسم بحنين مغمغما: في الحقيقة يا بلال أنت أكثر شخص فينا تمتلك عزة نفس قوية وكبرياء قاتلًا، وهذه المشاعر سوف تُهلكك في يوم ما! هل تذكر يوم كنت مصرًّا على الانتحار لكيلا تُكمل حياة الهوان والذلّ التي نعيشها؟ ظهرتْ على وجهي ملامح الألم وأنا أتذكر وقتها كيف عاقبني أبي ثم ضحّى عدنان بنفسه لإنقاذي! وضع يده الدافئة على كتفي قائلا بتوسل: أنا لم أقدّم لك الطعام إشفاقًا عليك، بل لأجل أن تظلّ حيًّا، فلا أريد فقدانك بعد ما وجدتُك أخيرًا! لان قلبي له وأنا أقول بوجوم: لكنني لم أرفض الطعام بسبب ذلك! ظهر على وجهه الدهشة وهو يقول: إذن لمَ؟ آه.. من الممكن أنك تعتقد بوجود شيء في الطعام؟! قلتُ بهدوء: لا، ليس بسبب ذلك أيضا! لم يسألني حينها عن السبب الحقيقي وإنما حدّق بي منتظرًا إجابتي. قلتُ: حسنًا، في الحقيقة لم أرفض طعامك بسبب عزة نفسي وكبريائي، لا زالت تلك المشاعر موجودة بالطبع ولكن الدكتور بكر ساعدني لتوجيهها في الاتجاه الصحيح، وخفف من مبالغتي في الاعتزاز بنفسي لدرجة المرض، ولكنني.. أطرقتُ وأنا أقول بضيق خفي: لم أقبلها لأنها حرام! رددّ عدنان منتفضا: حرام؟! قلتُ بتأكيد ولازال الضيق ينبعث من عيني: نعم، أم أنك لا تعلم ذلك؟ ظلّ محدّقا فيّ بعينين متسعتين ثم عاد وجهه إلى طبيعته وهو يقول مبتسما بذبول: بالطبع أعرف.. ولكنني لم أفكر في هذا الأمر قط بشكل جدّي! لم أحاول الردّ عليه، فهذا أهم شيء في الحياة، أن تعرف الله وتعرف ما حرّمه وحللّه، وألا تأخذ الموضوع بشكل جدّي لهو أمر يدعو إلى الشفقة عليك! نظر عدنان إلى ساعته ثم قال بتوتر: لا أستطيع المكوث أكثر من ذلك يا بلال، أتعلم أن رجالي لا يعلمون أنك أخي حتى؟ إنهم _كما أقنعتهم في الصباح_ دخلتُ إليك لأحاول إقناعك بالموافقة على العمل، والآن دخلتُ لك لأنهم أخبروني أنك مضرب عن الطعام، فوعدتهم بمحاولة إقناعك بوقف الإضراب. ابتسم قائلا: فهم كما يعتقدون أن لديّ أسلوبًا ساحرًا لإقناع من أريد! نظرتُ إلى عينيه الساحرتين بالفعل، كنت على وشك أن أقول بتصديق: نعم صدقوا! لكنه قال فجأة بخيبة أمل: إذن.. لن تأكل أبدًا؟ كيف نجعلك تأكل؟ قلتُ مباشرة بحسم: أعدني إلى منزلي وسأفعل. قال بوجه مهموم: هذا ليس حلًّا عمليّا الآن، ما رأيك أن نشتري لك من المتجر القريب ما تحبّ؟ ضحكت بشدة وأنا أقول: هل تظن أنك عندما تشتريه من المتجر سيتغير الوضع؟ ستظل أموالك حرامًا يا عدنان! بدت كلماتي قاسية عليه وهو يقول فجأة بعينين جامدتين: هل تكرهني يا بلال؟! قلتُ نافيًا: لا، ولكنني فقط متضايق بشدة بسبب ما فعلتَه، فآخر شيء كنت أتخيّلك عليه هو كونك زعيم عصابة مخدّرات. احتقن وجه عدنان وهو يسعل بشدة، ظلّ احمرار وجهه يزداد وهو يضع يده على فمه ويُبعده عنّي.. أثار هذا قلقي وعجزتُ عن السيطرة عن تلك المشاعر المتفجّرة في قلبي وأنا أقول: ما بك يا عدنان؟ توقف عن السعال وهو يتنفس بصعوبة، قلتُ له بقلق: أأنت مريض؟ هزّ رأسه نافيًا بعد نفس عميق عاد له لون وجهه الطبيعي، ولكنني ما زلتٌ أنظر إليه بفزع وأتخيّل كل أمراض الدنيا الممُكنة وخطر على بالي فجأة خاطر مُرعب حين تذكرت منظره بعد قطع يده وهو يرتعش من الحمّى! قلتُ له بانفعال: أنت محموم؟! ابتسم حينها قائلا: ما بك؟ قلت لك لا، إنه سعال يلازمني منذ أسبوع بسبب تغيّر الجو.. قلتُ بإصرار: لا، يبدو وجهك مُتعبًا، أرني جبهتك لأقيس حرارتك! قال باسمًا: وكيف ستفعل ذلك وأنت مُقيّد أيها الذكي! قلتُ بثقة: اقترب أنت فقط. اقترب بترقب وهو ينظر إلي بعينين متسعتين، فما كان منّي إلا أن قرّبتُ رأسي حتى لامستْ جبهتي جبهتُه، أغمضتً عيني وأنا أحاول استنتاج درجة حرارته، بعد ثوان تركتُه قائلا باطمئنان: أنت بخير. ضحك ضحكة عالية وهو يحاول السيطرة عليها قائلا: أنت مجنون يا بلال!! ما زلتَ كما أنت أحمقًا وحنونًا! ابتسمتُ هذه المرة بصدق، لأول مرة أشعر أنني أحبّ عدنان حبًّا عميقا، وعندما عرفتُ أنه حي ازداد خوفي أن أفقده كما فقدتُه في المرة الأولى! ربما أنا مريض نفسيّ بالفعل! _ |