(30) امتدتْ يد عدنان لتُمسك بيد فريد الزعيم السابق لتساعده على الانتقال إلى سريره الفاخر بصعوبة. نظر عدنان بإشفاق إلى وجهه المليء بالتجاعيد وعينيه الضيقتين الضعيفتين، وشعره الأشيب الذي كسى رأسه، سأله باهتمام وهو يغطّيه ببطء: هل تأخذ دواءك الآن؟ ترك فريد يده المُرتجفة لتسقط بجانبه قائلا بوهن: لا، فيما بعد. فقط توخّ الحذر في محاربة أولئك المهرّبين! ابتسم عدنان وهو يقول: نعم، ثق بي! قال بلهجة واثقة رغم عجزه: أثق بك منذ زمن بعيد! التفت فريد بوجهه الشاحب لعدنان قائلا بتردد: شهاب، ما حال ذلك الفتى الذي خانهم وأردت منه الانضمام لنا؟ أطرق عدنان برأسه قائلًا بمشاعر خالية: مازال سجينًا حتى يوافق! أطلق فريد ضحكة ضعيفة سعل بعدها عدّة مرات فقلق عدنان وهو ينظر إليه، ابتسم فريد بعدها قائلا بصوت مبحوح: هل تظنّ أنني صدّقت أنك أمسكتَ فتى لينضم إلينا فقط؟! رفع عدنان حاجبيه بدهشة، فتابع العجوز قائلا: أعلم أن هذا الفتى الذي تسجنه ليس كذلك، أعلم أنه حالة خاصة، وأعلم أنك ضحكت على رجالك! نظر إليه عدنان مبهوتًا، ثم قال له: وكيف عرفت؟! قال العجوز بلهجة خاصة: أعلم أخلاقك جيّدًا يا عدنان، رغم تجارتك في المخدّرات لكنّك لا زلتَ شهمًا! لم يعلّق عدنان على كلامه وإنما نظر بشرود حزين إليه وهو يسأله بهدوء: إذن.. ألن تُخبرني من هو الفتى؟ أنت تعلم أنني لن أقوم بأذيّته! قال عدنان بعينين بائستين في بئر سحيق من الحزن: إنه أخي الصغير! اتسعت عينا العجوز رغم ضيقها، وظنّ أن عدنان لن يقول شيئا بعد ذلك، لكنه تابع بنفس الأسى: إنه نفس الأخ.. الذي جاءك منذ سنتين في مستشفاك ليستعلم عنّي، وأخبرتَه أني ميت! ابتسم العجوز في مرارة وهو يهمس: إذن.. قد عرفتَ ذلك! ابتسم عدنان في مرارة ممُاثلة قائلًا: نعم قد عرفتُ. ثم أغمض عينيه بشدّة وظهرت على وجهه ملامح الألم المُفاجئ وهو يضغط على أسنانه بقوة جعلتُ العجوز يمدّ يده ليُمسك بيده المرتعشة الواهنة يد عدنان الباردة بقلق، لكنه شعر باسترخائها وعدنان يعود إلى حالته الطبيعيّة وكأنه كان يُقاوم شعُورًا خطيرًا في قلبه ثم قال بجمود: ولكنني قد سامحتُك. ظهرتْ معالم الراحة على وجه العجوز ويده ترتخي أكثر في يد عدنان الذي ضغط عليها برفق: لا تقلق، لا زلتُ وفيًّا لك حتى آخر لحظة تموت فيها.. يا فريد! قال الجملة الأخيرة بهدوء مُخيف جعل فريد ينتفض بألم وبرد رغم رقوده على الفراش، لم يُبال عدنان برعشته تلك وهو يشعر بيده، التفت إلى الخلف حين طُرق الباب بأدب فقال بلهجة عالية: ادخل! دخل الرجلان اللذان أرغما بلال على تناول المخدّر قبل قليل، ابتسم أحدهما ابتسامة تحيّة وهو يقول لفريد: طِبت مساء يا زعيمي السابق، أتمنى أن صحتك بخير! أومأ الرجل العجوز برأسه في ضعف وهو ينظر إليهما باهتمام مُنتظرًا ما سيقولانه، فقال أحدهم بتردد: نريد التحدث إليك وحدنا أرجوك بعيدًا عن الزعيم شهاب. نظر عدنان إليهما نظرة بعيدة باردة شديدة التأثير حتى أنهما ارتعشا وهما واقفين في نهاية الغرفة، تساءل عدنان في داخله بسخرية عما سيقولانه هذين القردين لزعيمه السابق الذي لم تعد له فائدة في الحياة حتى هذه اللحظة، ولكنّه فكّر أنها فرصة مناسبة للوقوف مع بلال قليلًا فكما يعلم أن هذين الاثنين هما من وكّلهما برعاية بلال وما داما هنا ولن يعلما بأمره فلا بأس ببعض الوقت الذي يقضيه مع أخيه. خصوصا أن فريد سوف يُعطيه ما قالوه لاحقًا حتى لو استحلفاه على عدم علمه بالذات. لكنّه ما إن همّ بالقيام حتى شدّ فريد بضعف على يده قائلا بحسم: لا، ابق هنا. ثم التفت التفاتة صغيرة إلى الرجلين قائلًا بقوة: هيا، قولا ما عندكما، فهو على كل حال لن يخفى على شهاب! ارتبك الرجلين ارتباكًا واضحًا، ولكنهما تماسكا وأحدهما يقول بقوة: أولا نقسم أننا نريد مصلحتك يا سيدي على مصلحتنا الخاصة! ابتسم عدنان بسخرية وهو يتابعهما يقول الآخر في بطء: لقد قمنا بمحاولة بسيطة لإقناع هذا الفتى المهرّب السابق بالعمل معنا. جاء دور عدنان ليتصلب مصدومًا، والرجل يُكمل في ثبات مضطرب: وهذه المحاولة أكيدة المفعول، لذلك يا سيدي نحن جازمون أنه غدًا على الأكثر سيبدأ العمل معنا. وهذا كما ترى من مجهودنا الخاص وبعيدًا عن أوامر الزعيم المحترم شهاب. ابتسم الرجل بعدها بثقة ونصر وهو واثق أن سيّده السابق سيقف فخورًا به ثم يُسلّمه قيادة العصابة بدلًا من شهاب، لكنه فوجئ بعدنان يهّب منتصبًا ليقول بصوت عميق قادم من قاع بركان: مـاذا.. فعلتم.. له؟ زاد ارتباك الرجل بقوة وهو ينظر بأمل إلى سيده السابق الذي أشاح بوجهه وغمغم في سُخرية متهكما: سوف أدع ابني العزيز يُعاقبكم هو هذه المرّة! انتزعهم صوت عدنان الغاضب من شرودهم وارتباكهم وهو يزمجر: انطقا! قال أحدهم بتردد بعد أن استجمع قوّته: سيعجبك هذا أيها الزعيم، خصوصا حين تراه غدًا يتابعنا بطاعة و.. قطع كلامه حين رأى عينا عدنان الناريّتين وهو يتقدم منه في بطء، قائلا: هل ستُخبرانني أم أجبُركما بطريقتي؟ فقال بتوتر وهو يتراجع: لقد قمنا بإعطائه من المخدّر رقم(..) الذي يسبب إدمانًا شديدًا لصاحبه من أولّ مرّه ويجعله راغبًا في تناوله بأية طريقة، وهذا من أجل مصلحتكم يا زعيم.. انتفض الرجل برعب وهو ينظر إلى وجه عدنان! لقد كان رجلًا مُرعبًا حينها، جدًّا! _ ضربتُ رأسي في الأرض عدّة مرّات، يجب أن أتقيأ، يجب ألا يصل هذا المخدّر لمعدتي.. لكن لا شيء يحصل رغم افتعالي للسعال ومبالغتي فيه، في نهاية الأمر شعرتُ باليأس وأنا أُسند رأسي إلى الأرض مجددَّا وعيناي تحرقهُما الدموع، هل سأصبح مُدمنًا؟ شعرتُ بغضب هادر وأنا أحس بخدر لذيذ ينتشر في جسدي، ونار رهيبة في صدري، هل أقتل نفسي حتى يتوقف مفعوله؟ لكنّ دخل عدنان فجأة راكضًا، لم يُغلق الباب حتى وراءه، شعرتُ بأنفاس لاهثة وراء رأسي، رفع عدنان رأسي وهو ينظر إليّ بعينين منفعلتين مُنهكتين. قلتُ له بضيق وعصبية وأنا أرفع رأسي: ابتعد عني.. لقد خدعتني! قال فجأة بأسى: لم أكن أنا! انفجرتُ فيه بقوة: هل تظنني سأصدقك؟ قال بهدوء غريب: لقد كان الرجلان اللذان أعطياك هذا المخدّر يعملان دون إمرتي، وقد أدبّتُهما! انتبهتُ إلى قطرات الدم التي على وجهه، فجفلتُ هامسًا: هل.. قتلتَهما؟ ابتسم بسخرية وهو ينحني إلى يديّ: لقد نالا ما يستحقان. لم أصدق أن أخي عدنان قد قتل شخصان لأنهما أرغماني على تناول مخدّر، لقد كان هذا فظيعًا! بمجرد فكّ قيد يدي أدخلتُ إصبعي أخيرًا في فمي، تقيأت بصعوبة شديدة، فأنا لم آكل شيئا سوى هذا المخدّر، ماذا سأتقيّأ أكثر؟ بعدها جلستُ ألهث بألم والبرد يزلزل جسدي من الارتعاش، لم أدر ما أصابني، سمعتُ صياح عدنان: بلال، تماسك قليلا! اختفت الدنيا أمامي، الجداران البيضاء، الأرض الممتلئة بما استفرغتُ، كل شيء اختفى، حلّ مكانه الظلام! حاولتُ فتح عيني، فأنا ما زلتُ أسمع عدنان، هيا أيتها العين.. افتحي قليلًا، وأنتِ كذلك افتحي.. رأيتُ عدنان بملامح مشوشة، لمحتُ نظرات القلق والعتب، اكتفيتُ بقولي: عدنان، توقف، أعدني.. ثم اكتسح الظلام الدامس عينيّ مرة أخرى، فاستسلمتُ له بدون حلّ آخر! _ لربما عدنان لم يفهم شيئا من كلماتي الأخيرة والدوار يهجم على رأسي، لذلك لم أتعجب حين شعرتُ بدفء الأغطية فوقي، ونعومة الفراش تحتي، وتلك النسمات الباردة الممتعة التي تهبّ على وجهي المتعرّق كل ثوان لتمنحني شعورًا جميلًا. فتحتُ عيني، كانت الغرفة فخمة للغاية، السرير الذي أستلقي فيه ينتصف الغرفة بكبرياء، النسائم الجميلة كانت تهب من النافذة المفتوحة ستائرها، الستائر البيضاء الرقيقة التي كانت تتمايل يمينا ويسارًا بفعل الهواء، كان منظرًا ملائكيًّا خصوصا في وقت كهذا الوقت، الغروب. تكهفر جبيني فجأة، هل أنا في غرفة من غرف هذه الفيلا؟ هل أنا أنام على مالٍ حرام الآن؟ كنتُ أحاول الاقتناع بالأمر وأنا متجمد في مكاني، لربّما الآن هي اللحظة المناسبة للهرب من هنا، النافذة تبدو كبيرة جدا! أدهشني كثيرًا حلول الظلام عليّ في تلك اللحظة، لقد أغمضتً عيني دون إرادة! يبدو أن جسدي يعصي أوامري. هل أبدو واهنًا لتلك الدرجة بدون طعام؟ ماذا يحدث إذن لمن يُضرب عن الطعام في السجون مدّة شهر أو شهرين؟ صحيح أنهم يتناولون العصائر ليبقوا على قيد الحياة، لكن.. الأمر يحتاج قدرة صلبة وإرادة جبّارة. أنا لا أؤيدهم أو أعارضهم فلم أختبر ظروفهم، لكنني الآن.. أفهم معنى ألم الإضراب. بعد دقائق، أفقتُ مرة أخرى، كان صوتًا متسلسلا فوق رأسي، اختفت ستائر الغرفة، لقد تم إغلاقها، وبدا الجوّ كما لو أن الليل قد حلّ وفُتحت أنوار الغرفة. انتبهتُ أن الصوت المتسلسل فوق رأسي يُنادي اسمي، نظرتُ إلى وجه العدنان الباسم، قال بصوت هادئ: ألا تستطيع التوقف عن النوم قليلًا. نظرتُ له بتيْه وعدم فهم، فقال: منذ الظهيرة وأنت نائم! والآن قد قاربنا على الساعة العاشرة ليلًا. فزعتُ كثيرًا، حاولت الجلوس، قلتُ بعدها بألم: ليس وكأنني أريد ذلك، بل لأنني لا أستطيع أن أوقف نفسي كما ترى! قال بتفهم: أعلم ذلك، سوف تصبح في خطر غدًا إذا تابعتَ هذا، لحسن حظك أنك تقيأت المخدّر، وسوف أحاول إعادتك للمنزل الليلة. قلتُ بذهول: الليلة؟ هل تخلصت من أولئك المهرّبين؟ ابتسم قائلا: لا ليس بعد. لكن خطّتي هي أن أعيدك بعد أن أكون قد استدرجتُهم إلى هنا، هم على كل حال يريدونني أنا لا أنت، فلن يهتموا بك بعد أن يروْني أمامهم. تنامى القلق بداخلي، هل يعني أن يظهر أمامهم بدلًا منّي؟ سمعتُه يقول بضيق: إحضارك إلى هنا كان خطة ناقصة الخبرة، فقد ظننتُ أن الدكتور بكر لن يقدر على حمايتك منهم، لكنني الآن أثق به كثيرًا، سيفديك بروحه لو تطلّب الأمر. قلتُ بانفعال: بالطبع لا، لو كان سيفديني فلن أعود، لا أريد تعريضه للخطر. ضحك عدنان ضحكة قصيرة وهو يغمغم: لا تقلق يا عزيزي، سيفديك بروحه في حالٍ واحدة! ثم نظر إلي بعينين حنونتيْن: إذا قضوا عليّ أولًا. ولن يستطيعوا ذلك. شعرتُ بالدوار، سيطرتُ على نفسي في اللحظة الأخيرة وعدنان يتأملني ببطء، لا يظهر في عينيه القلق، إنه يعلم ما يحدُث لي، يعلم أن هذا هو الطبيعي. تبّا لها تلك المعدة الحمقاء التي ما إن تفرغ من الطعام حتى تحيل حياتك جحيمًا، بل ربما تقتُلك لأنك لم تنزِل الطعام لها حتى الآن! _ كان عدنان يمثّل الاطمئنان الظاهري والهدوء أمام بلال، ولكنه من داخله يعلم يقينًا ما يحصل بالخارج! لقد كانت مجموعة المهرّبين تلك مؤلّفة من سبعة رجال، كانوا قد بدأوا بالفعل بالالتفاف حول الفيلا ومحاصرتها بهدوء، عدنان يعلم بذلك، ولهذا كان عليه التحرك فورًا لإبعاد بلال عن هنا. ابتسم عدنان وهو يتأمل بلال النائم على السرير وعلى وجهه الإنهاك والشحوب، شعر بأنه محظوظ جدًّا لوجود أخيه جانبه في هذه اللحظة الصعبة، صحيح أن حالة بلال صعبة الآن ولكن إنقاذه سهل بمجرد عودته. أخرج هاتفه للاتصال برجاله وألقى عليهم عدّة أوامر لمباغتة المهرّبين على غفلة، رجال عدنان أيضا قلّة قليلة ولهذا لم يستطع الاطمئنان إلى أن الأمور ستكون بخير. أخرج معطفًا ثقيلا من إحدى الخزانات وألبسه لبلال، فتح بلال عينه، كان يشعر بإجهاد شديد بمجرد بذل مجهود بسيط كفتح العينين ومحاولة تذكر المكان. همس له عدنان بحسم وهو يُحاول مساعدته على الجلوس: بلال، سوف نغادر الآن. ابتسم بلال بإعياء وهو يقول بخفوت: أرجوك لا تُخبرني أننا سنسير على أقدامنا.. فليس هناك طاقة في جسدي. بادله عدنان الابتسامة في ثقة وهو يقول: ستسند إليّ، تحمّل حتى نصل إلى السيارة. كان عدنان يعلم ذلك الممر الخفيّ الموصل إلى سيارة بعيدة عن منطقة الفيلا، لم يستطع بلال حتى مجرد السير، فحمله عدنان على ظهره سريعًا. في السيارة قال له عدنان بلهجة آسفة: أنا أعتذر، كل هذا بسببي. كان باستطاعتي إنقاذك ببعض السكريّات أو المشروبات أثناء نومك لكنني قررتُ تنفيذ أوامرك يا بلال. ابتسم بلال الجالس بجانبه وهو بالكاد يأخذ أنفاسه بصعوبة وهو على وشك إغماض عينيه، قال بامتنان مُجهد: عدنان، أشكرك. وابتسم ابتسامة صافية ظّلت باقية على فمه طول الطريق. _ كان بكر يستمع لتلك السيدة التي تقول بانفعال واكتئاب: لقد كرهني كثيرًا في آخر الأمر، تخيّل أنه وضع المنوّم لي في شرابي حتى يتمكن من البعد عني أطول فترة ممكنة؟ ابتسم بكر بحنين وهو يتذكر ذلك المنوّم الذي وُضع لبلال، يا إلهي، كيف سكت عن غياب بلال يومين كاملين؟ حتى لو كان بلال في أيدٍ أمينة كما يقول، لم يكن عليه السكوت هكذا، بل محاولة البحث عنه مرّات ومرات حتى يسمع صوته على الأقل! كيف خُدع بهذه الطريقة؟ ماذا إذا تمّ تعذيب بلال أو إجباره على الاعتراف بجريمة لم يرتكبها؟ ماذا لو.. وظلّ بكر يُعيد التفكير في الاحتمالات الممكنة بجنون حتى أخرجتْه من حالته السيدة الأربعينية وهي تقول بتوسل: ماذا أفعل يا دكتور؟ لهذا الزوج العنيد! انتبه في هذه اللحظة أنه شاردٌ تمامًا عمّا تقوله، فابتسم بإحراج معتذرًا، أما هي فعقدت ذراعيها بانزعاج وهي تقول: ألم تكن تسمعني؟ كان يفهم مشكلتها جيّدًا فهي منذ ساعة كاملة تثرثر عن هذا الأمر، ابتسم بهدوء وهو يُمسك ورقة ويكتب عليها اسمها وتاريخ اليوم، كتب لها عدّة ملاحظات ثم همّ بإعطائها الورقة لولا ظهور مدير أعماله الشاب محمد فجأة قائلا باضطراب وتوتر: دكتور بكر.. هناك شاب يريد الدخول جبرًا و.. قطع حديثه دخول شاب طويل بعض الشيء، يملك عينين سوداويتين كحيلتين باردتين وشعرًا أسودًا ناعمًا يُشبه شعر بلال! لم يُفاجأ بكر بهذا الشاب قدْر مفاجئته بذلك الجسم الذي يحمله بين يديه، اتجه عدنان بسرعة إلى السرير الوحيد في الغرفة ووضع بلال عليه قائلا بهدوء: لقد أعدتُه إليك. اتسعتْ عينا بكر وهو يتأمل بلال، فحصه سريعًا بقلق بين دهشة مدير أعماله والسيدة المريضة الواقفة تحدّق في الورقة التي كتبها لها، التفت إليه بكر بحدّة قائلا: لقد أخبرتني أنك ستعتني به، ولكنه يعاني من هبوط حاد في ضغطه وانخفاض في السكر، أخبرني ماذا فعلت به؟ فوجئ بكر بالعيْنين الذابلتين لعدنان، كان ينظر له وكأنه يفضّل الموت على أن يكون سببًا في أذى بلال. وتغيرتْ ملامحه حين لان عدنان وهو يقول بصوت خفيض: لم يكن بيدي.. هو من أضرب عن الطعام! بقي له يومان لم يأكل فيهما شيئًا! شعر بكر بمشاعر عدنان الصادقة فلم يكن قادرًا على النطق سوى بـ: من أنت؟ كان كل شيء غير مرتب وغير مفهوم بالنسبة لمدير أعماله، ولكن السيدة المريضة لم تكن تُبالي وهي مازالت تنظر إلى الورقة في ذهول. ابتسم عدنان بمرارة: أعتقد أنني أخوه الأكبر! اتسعت عينا بكر بذهول وهو يقول: أنت عدنان؟ لم تظهر علامات الدهشة على عدنان وهو يقول برضا: أعلم أن بلال أخبرك كل شيء، نعم بالفعل أنا هو، لذلك لا أوصّيك على العناية به، الآن لديّ عمل هام سأُنهيه ثم أعود. ثم ابتسم ابتسامة حانية إلى بلال الراقد، وكأنها نظرة وداع، هكذا قال بكر في داخل نفسه. لم يعرف ماذا حصل في تلك الثواني القليلة إلا أنه وجد عدنان اختفى كما جاء فجأة، وبقيت تلك السيدة المريضة تردد: اليوم هو العاشر من مارس، عليّ العودة، لابد أنه يتجهز للاحتفال بيوم ميلادي. قالتها في لهفة كبيرة وهي تغادر وتحتضن الورقة، نظر بكر إلى مدير أعماله بعد خلوّ الغرفة وابتسما لبعضهما وهما يهزّان رأسهما في حيرة! _ عندما أفقتُ، كعادتي، أنظر دائمًا إلى السقف! كانت هناك إبرة مغذّ موصولة بجسدي، انتبهتُ في تلك اللحظة إلى رقية التي هتفت بحب: استيقظت! لم أستوعب ماذا حصل، كنت قبل قليل عند عدنان والآن أنا هنا؟ أمام رقية وعبير والدكتور بكر وعبد الله وبثينة! كنت أشعر بخمول يُخفي قلقي المُتنامي على عدنان، لم أستطع كتمه وأنا أسأل الدكتور بكر عنه بإلحاح كل يوم! لم أحكِ لأحد ما رأيتُه هناك، ولم أقص على رقية ما حصل، سوى أن عدنان كان حيًّا. بكت رقية بشدة تأثرًّا. أما أنا فقد نظرتٌ إلى السقف بحزن. مرّت خمسة أيام منذ عُدت، ولم أعرف أي خبر يُطمئنني عن عدنان، كان بكر يراقبني بقلق وأنا أتصفح الجرائد أو أقلّب قنوات التلفاز، لم يكن بكر يعرف أي شيء عنه بالتأكيد. بعد مدة استسلمت له وحكيتُ له كل شيء، قلتُ بعدها بعينين متوسلتين: أرجوك يا دكتور بكر، أريده أن يعود هذه المرة! رغم أنه مذنب ورغم كل شيء، لكنه أخي. تقصّينا أخيرًا أنا والدكتور بكر الأخبار عنه حتى وصلنا إلى خبر كارثيّ: لقد قُبض على عدنان بتهمة تجارة المخدّرات! لقد وجدوها متجمعة في قبو الفيلا التي يسكنها. وتم القبض على جميع رجاله أيضًا! عدنان لم يكن له أي ذنب فيما حصل، لقد فقد ذاكرته، وجد بجانبه رجلًا حنونًا قام بدور الأب بالنسبة له، لم يكن يعلم أي شيء عن نفسه سوى ما يقوله له ذلك الرجل! وتورّط في المخدّرات دون إرادته، ليس ذنبه! بالتأكيد ليس ذنبه! كنتُ مصابًا بصدمة عصبية بعد معرفتي خبر القبض على عدنان، أردد كلماتي البائسة في الدفاع عنه كلما حاول شخص ما الحديث معي. حتى وإن لم يكن الحديث عن عدنان فأنا أحوّله لعدنان تلقائيًّا. بذل الدكتور بكر الكثير من الجهد لأجلي، فقط ليُخرجني من حالة الاكتئاب التي سيطرتْ عليّ وقتها! ولم أكن أتحامل على نفسي وأبتسم إلا في وجود رقية التي أشفقتُ عليها لكثرة ما عانت بسببي، كانت هي الأخرى لا تدري على أي شيء تحزن؟ عليّ أم على عدنان الذي لم تره منذ سنتين؟ في ليلة باهتة، من إحدى ليالي الصيف، وقفت أبكي بارتجاف وأنا أدعو الله أن يخلّص عدنان من هذا السجن، أعلم أن عدنان تاجر مخدّرات لكنه في النهاية بريء، لا أعلم كيف أشرح، لكنّه بريء. حتمًا هو بــــــريْء! |