(25) كانت رقية بجانب بلال الأيمن وزيد في الجانب الآخر، كلٌّ منهما يحمل ذارعه ويلفّها حول رقبته ويمشيان ببطء شديد ليتمكن بلال من مجاراتهما. قالتْ رقية في هلع واضطراب وهي تشاهد قطرات الدم النازفة من أنف بلال: لمَ لا نذهب بسيارة أجرة يا زيد، كما ترى بلال لا يستطيع المشي! قال زيد بعصبية: وهل تريْن أي سيارة أجرة هنا؟! تذكري أننا بعد صلاة الفجر، وأن هذا الطريق ذاهب من القرية حتى المدينة ولا توجد سيارات أجرة فيه، فكرّي بعقلك! امتقع وجهها لطريقته المُفاجئة وتغيّر أسلوبه معها، فأطرقتْ برأسها حزينة وهي تفكر في داخلها كيف يجرؤ على توبيخها أمام أخيها بهذه الطريقة...! رفعتْ رأسها بدهشة حين رأتْ بلال يضغط على أسنانه بغضب هامسًا: لا.. ترفع.. صوتك على.. أختي! اتسعتْ عينا زيدْ بدهشة وهو يقول باسمًا: ألهذه الدرجة؟! أختك مهمة؟! حاول بلال أن يردّ عليه بعد أن ابتسمتْ رقية بفرحة حقيقيّة لأنه دافع عنها، لكنه ما إن فتح فمه حتى ارتختْ قدماه فجأة وجثى على ركبتيه دون وعي وتقيأ! كان شيئا مفاجئا لزيد ورقية وهما واقفان أن ينزلق بلال منهما ويجلس حتى يتقيأ في الشارع هكذا، بمجرد استيعابهما انخفضا سريعا وهما يهتفان: بلال! اضطرّ زيْد بعدها أن يحمل بلال على ظهره، رغم نظراتْ بلال الغاضبة من عينيه المنهارتيْن وهو يقول بتحدّ: لا تحملني.. دعني أمشي. لكن زيد قال بسخرية: وكأنك تستطيع المشي أيها الطفل! صحيح أنك ثقيل لكنني كنت لاعب رياضة الأوزان الثقيلة قبل ذلك، ثق أنني لن أسقطك. وابتسم ابتسامة حمقاء جعلتْ بلال يكاد يحترق، لكن لم يكن بيده التصرف على أي حال، في الحقيقة لم يكن بيده إلا أن يبقى على قيد الوعي حتى ينتبه لأخته رقية برفقة هذا الوغد. وشعرتْ رقية بالاطمئنان قليلا وهي ترى هذا المنظر، لا تعلم كيف أرسل الله لها هذا الشاب لينقذهما من هذا المصير! لا تعلم لو لم يكن زيد موجودًا ماذا كان بيدها أن تفعل لبلال؟ ربما مات على يديها، لولا أنها استيقظت من إغمائها لتجد هذا الشاب بجانبها يبتسم لهما، في الحقيقة لم يكن عندها الوقت للابتسام له وهي تحملّ همّ أخيها، هو الذي نصحها بعدم تحريكه حتى يستيقظ ويعرف ما حلّ به، هو الذي نصحها للانتظار حتى الفجر ثم التحرّك، لقد كان ذو فائدة كبيرة لهما. _ في الحقيقة لقد كان جسدي محطّما، ولم أكن قادرًا على تحريك إصبع منه، لكنني كنت أقول ذلك لزيْد محافظة على كبريائي وماء وجهي، حاولتُ أخذ غفوة قصيرة حين قال هو بصوت عالٍ تقصدّه: لقد وصلنا! كانت إحدى العيادات المتواضعة في مقدمة المدينة، كانت الساعة قد شارفتْ على السادسة صباحًا، انتظرنا حتى أتى الطبيب في الساعة السابعة ثم ترجّى زيد المرضى المنتظرين على كراسي العيادة لأدخل أنا أولا، وهم بمجرد أن رأوْا حالتي سمحوا لي فورًا. لقد كانت العيادة مجانية، منحة من الحكومة! لكن.. كان باستطاعتي رؤية العناكب تملأ سقف الغرفة وأنا أستلقي على السرير. أهذا هو الثمن؟ عدم النظافة لأنها حكومية!؟ الطبيب تعامل معنا بفظاظة وضجر أشعرني بالتقزز، كدتْ أن أصرخ بغضب في وجهه أنني لست بحاجة إلى فحصه، لكن حالتي لا تسمح بذلك طبعًا -__-. عندما حاول زيْد مُساندتي للخروج من الغرفة والطبيب يُخبرهم بالنتيجة، شعرت بغثيان مؤلم وأنا أقف على قدمي بارتعاش، حاولتُ أن أتمسك في أقربهم إلي لأتجنب التقيؤ لكن فات الأوان! جثيتُ أرضًا بضعف، هذه المرة تقيأت دمًا! انفجر الطبيب صراخًا، كان علي هذه المرة أن أسمعه بوضوح وأنا ألهث: ما هذا التهاون؟ لديكم مريض مصاب بالغثيان ولا تحملون معكم أكياسا؟ لأنها حكومية لا بأس باتسخاها؟ سارعْ زيد لمسح الدم بينما ساعدتني رقية بتوتر وعصبية في الخروج ثم الجلوس على أحد المقاعد، كان الجميع ينظرْ لي برثاء، في الحقيقة لم أتمكن من صدّ نظراتهم بينما أسند رأسي إلى كتف رقية وأنا مُنهك القوى. سألتها وأنا بالكاد أتنفس: رقية.. ماذا.. قال.. الطبيب؟ قالتْ وعلى وجهها ملامح مضطربة: لقد قال إنه يجب إجراء أشعة فورًا، أي أننا علينا التوجه للمستشفى الآن. ثم نظرتْ إلي بحزن وفي عينيها الذعر: بلال.. أرجوك لا تمت. ابتسمتُ مهوّنًا: لا.. لن أموت بإذن الله! سوف أكون بجانبك. ابتسمت وهي تقول: أنت تعدني إذن! همستُ لها بأسف: أنا أعتذر على ما سببته لكم من إزعاج، لا أدري حقا كيف يمكنني تفادي ذلك. ظهر على وجهي الألم بينما سمعتُ صوت زيد يقول من فوقنا بابتسامة واسعة: لا بأس يا بلال، لا تعتذر، هذا ليس بيدك! ثم قال بجديّة لرقيةّ: سوف أذهب لجلب سيارة أجرة إلى هنا بما أن الساعة الثامنة الآن، أعتقد أنني سأجد الكثير. أومأت برأسها بحسم وهي تقول: نعم، أرجوك عُد سريعًا. بعد قليل كان زيد ورقية يُسانداني للوصول إلى سيارة الأجرة، مددّاني في الأريكة الخلفية، وجلستْ رقية لتحمِلَ رأسي في حجرها، التفت لنا زيْد مُلقيا نظرة، مطّ شفتيه متنهدًّا بحرارة، قالت رقية بحيرة: ما بك؟ قال: في الحقيقة لا ينبغي أن يتحرك رأسه نهائيا، خوفا من المضاعفات التي ستحصل له، لكن لقد حركنا رأسه بالفعل أكثر من مرة حتى الآن.. ثم تنهد في قلة حيلة، وابتسم لرقية عندما بدا على وجهها الارتباك والتوتر وهي تغمغم في ارتعاش: ماذا تقصد؟ ماذا أفعل لبلال إذن كي ينجو من المضاعفات؟ ابتسم قائلا يُطمئنها: حسنا، لا بأس، أبقيه كما هو. بدأت السيارة بالحركة، كنت أحافظ على وعيي بصعوبة، ثمّ.. لم أعد أتحمّل! أغمضتُ عيني أخيرًا وسقطتُ في الظلام. _ لم يقلق زيد من فقدان بلال لوعيه، ولم يقلق من مناداة رقية المستمرة له، لكنه شعر بالتورطّ حقا، حين توقفت سيارة الأجرة أمام مستشفى خاصة، ولا يمكن الانتقال لأي مستشفى أخرى قبل الاطمئنان على بلال. اُستُقبِل بلال في الطوارئ، كان زيْد يقف في مكتب الاستقبال وفي يده ورقة، وضعتْ رقية يدها على قلبها متسائلة بلهفة: أخبرني.. هل بلال بخير؟ أغمض زيْد عينيه وكأنه لا يريد منها أن تعلم الحقيقة، وهو يقول بهدوء: نعم. اطمئني. ثم وقّع فوق الورقة وسلّمها، قالت رقية وقد تسللت الطمأنينة إلى داخلها بعد جملته: إذن.. وماهي تلك الورقة التي وقعّتها؟ قال بلهجة جامدة وهو ينظر إليها ببرود: لقد كانت عملية جراحية عاجلة.. لبلال! اتسعت عيناها عن آخرها في ذعر، وهي تقول منفعلة: إذن كيف يكون بخير!؟ زفر زيد بحرارة، وهو يقول لرقية: حسنا، تعاليْ. ذهب في الطريق المؤدي إلى ذلك الطبيب الذي سيُجري العملية، بعد أن قاموا بعمل الأشعة والفحص، قرر الطبيب وجوب إجراءها على الفور، أصيب بلال بكسر في مؤخرة جمجمته، ليس كسرا فحسب، وإنما انبعاج أيضا في عظام جمجمته، سبب له نزيفًا داخليًّا خطيرًا، وهو الآن يحتاج عملية جراحية عاجلة لإعادة الوضع الطبيعي. كان هذا ما فهمه زيْد من الطبيب، لكن الذي لم يتوقعه نهائيًّا، هو احتمالية أن يكون بلال طبيعيَّا بعد هذه العملية! حينئذ صرخت رقية: ماذا تقصد؟ أن بلال لن يكون طبيعيا؟ قال الطبيب ببرود وكأنه معتاد: ربما يُصاب بشلل نصفي بعد العملية فالمنطقة المصابة خطرة جدا وحساسة. أو ربما تحصل له مضاعفات أخرى، ولا نستطيع إلغاء العملية لأنه معرّض للموت. علينا أن نوقف النزيف الداخلي ونعيد عظام جمجمته كما هي قبل الإصابة حتى تستطيع عظامه الالتئام مع بعضها. كانت رقية حينئذ قد بدأت في البكاء بشكل هستيري، وهي تضع يدها على فمها، عقد زيْد حاجبيه وجبينه يزداد تعرّقا وهو يسمع الممرض يقول بهدوء: أتمنى أن تذهبوا لدفع الحساب الآن، فلن تتمكنوا من رؤيته حتى تمام المبلغ! ثم مضى بخطوات رشيقة تاركًا رقية المنهارة وزيْد المصدوم وهو يحاول التفكير بحرارة عن حلّ فوري! __ كان زيد يحاول تهدئتها قائلا بحسم: سوف ننقذه، يا رقية، لا تبكِ الآن. المستشفيات الخاصة هي أكثر مستشفيات تهتم بحياة مرضاها، لكنها في المقابل لا تهتم بمشاعر أهل المرضى أبدًا، بل تهتم كل الاهتمام بالثمن الذي سيدفعونه.. مسحتْ دموعها وهي تقول بصوت متهدج: إذن.. ماذا سنفعل؟ ابتسم: أنتِ ابقيْ هنا، سوف أخرج لقضاء بعض المصالح وأتواصل مع معارفي لأجمع ثمن العلاج.. سأحاول أن أكون سريعًا. ثم قام واقفا وهو يقول باهتمام: أعتقد أنك تستطيعين تدبر أمرك في الانتظار هنا.. أليس كذلك؟ أخذتْ نفسًا عميقا وهي تقوم واقفة بدورها: نعم.. أستطيع الانتظار هنا حتى تعود. ثم أظهرتْ علامات الامتنان على وجهها المحمّر لتوه من البكاء قائلة: أشكرك كثيرا يا زيْد على ما فعلته، وعلى ما ستفعله أيضا، لا أعلم كيف نردّ الجميل لك، لكن أعدك سوف نقوم بر... قاطعها بسرعة مُحرجًا: بالتأكيد لا، لم أفعل شيئا يُذكر.. ولا أريد أي شيء. ثم اختفى من ممرات المستشفى أمام عيني رقية التي نظرتْ بدهشة خفيفة متسائلة في داخل نفسها ما هذا الشخص الغريب؟ كانت الساعة العاشرة صباحًا حين جلستْ رقية قليلا على مقاعد الانتظار، شعرتْ بالملل وهي تراقب المارّة، هل حقا ستجلس تنتظر زيد؟ حسمت أمرها وهي تقوم متوجهة إلى خارج المستشفى، لن تقف هكذا تنتظر مساعدة من أحد لا تعرفه ولا تثق به، سوف تقوم بواجبها أيضا لتنقذ بلال! _ وقف بكر بسيارته في المكان الذي أنزل بلال فيه، تنهدّ بحرارة وهو يفكر في كيفية البحث عن هذا الفتى! حسنا، ما هو المكان الأنسب للسؤال عن الأخبار واجتماع أكبر عدد ممكن من الأشخاص؟ أعتقد أنه السوق. هكذا حدّث بكر نفسه، كانت الساعة تُقارب العاشرة صباحًا، عندما ترجّل بكر من سيارته أمام إحدى المتاجر الكبيرة، لكنه تراجع قبل آخر لحظة من دخوله، ماذا سيقول للبائع؟ هل تعرف فتى اسمه بلال فتحي؟ يا له من سؤال ساذج! نظر إلى أحد الأطفال المتسوّلين واقفا أمام المتجر يحاول تدفئة يديه، اتجه إليه بكر، بما أن بلال كان متسولًا فيما مضى فهذا هو المفتاح للعثور عليه. عندما سأله بكر وهو يخلع قفازيْه ليعطيه إياهما، قال الفتى وهو يتذكر بتأثر: آه، بلال؟ بالتأكيد.. لقد كنا نتسوّل معًا. ابتلع بكر ريقه بصعوبة: إذن.. أتعرف أين هو الآن؟ هزّ الفتى كتفيه بلا مبالاة قائلا: بالتأكيد لا أعلم عنه شيئا، لقد اختفى منذ سنتين.. لم أره أبدًا منذ ذلك الحين.. سأله بكر بخيبة أمل: طيب، حاول أن تتذكر.. أي شيء عنه، بيته، أسرته، أخته؟ أخبرني. فكّر الفتى قليلا وهو يقول: حسنا، أستطيع تذكر منزله، سِر إلى آخر هذا الطريق ثم اسلك اليمين، ستجد بيته على آخر الشارع. شكره بكر بحرارة وانطلق مُسرعًا بسيارته، لكنه وقف بخيبة أمل وإحباط أمام ذلك المنزل المدّمر.. وهو يقول بانهيار: مستحيل! هل سقط البيت على بلال وأخته؟! لم يصدّق نفسه وهو يركض ويحاول أن يتبين أي شيء تحت الأنقاض، لكن ذلك الرجل الذي صاح: توقف! جعله يُعيد النظر إلى الخلف، وجده رجلًا قويًّا مليئا بالعضلات، يسأله بجفاء: ماذا تريد؟ أنت ابن فتحي المحتال أيضا؟! عقد بكر حاجبيه وهو يردد باستغراب: المحتال؟! قال الرجل وهو ينظر إلى لحيته بتمعّن: لا يبدو أنك ابنه، فأنت تبدو كشيخ. ولا أبناء له في سنّك. تساءل بكر: ماذا تقصد يا سيد...؟ قال الرجل بابتسامة واثقة: مُحسن.. اسمي محسن.. أخبرني يا شيخ، لمَ جئت لهذه الخرابة؟ تنهد بكر: تشرفتُ يا سيد مُحسن، أريد منك معروفًا، فأنا أريد بلال فتحي.. ومعه أخته، هل تعلم أين هما؟ حدّق مُحسن به في انفعال، وهو يهتف: أنت تبحث عن بلال؟ أومأ بكر برأسي مجيبًا، فقال بحدّة: كيف تبحث عن ولد ابن.. كهذا الولد؟ اتسعتْ عيناه وهو يقول بدهشة هاتفا بصرامة: لم تشتمه؟ أخبرني أين هو دون الإساءة له. رفع مُحسن حاجبًا واحدا وهو يقول باستغراب ساخر: يبدو أنك لا تعلم ماذا صنع، لا بأس، لأنك غريب، سأخبرك فقط حكايته.. قصّ عليه مُحسن كل شيء حتى وصل إلى نقطة تهجمهم عليه، شعر بكر بحرارة جسمه ترتفع كثيرا من الانفعال، هل من المعقول أن يملك هؤلاء في قلوبهم الرحمة؟ ألذنبٍ فعله الأب يُعاقب الابن؟! سأله بلهفة وانفعال: أخبرني أين ذهب بعد ذلك؟ حكّ مُحسن شعر رأسه في حيرة وهو يقول: في الحقيقة لا أدري أين ذهب، أعتقد أنه تقابل مع أخته لأنني سمعت بحفلة توديع قد أقيمت لهما وهما يخرجان من القرية ليلة البارحة. قال الجملة الأخيرة ضاحكًا، قال بكر مردًّدا بحذر: حفلة توديع؟ ماذا تعني؟ هل خرجا من القرية البارحة؟ قال مُحسن باستمتاع وكأنه يحكي قصة مُثيرة: لقد انتظرهم العمدة مع رجاله عند بوابة القرية، كانا يظنّان أنهما عندما يخرجان في منتصف الليل فلن يلاحظهم أحد، ولكنهما صُدما لمّا وجدا كل تلك الجموع تُحيّيهما بحرارة. ثم ظلّ يضحك وكأنه لا يستطيع إمساك نفسه أمام بكر الذي ضغط على أسنانه من شدة الغضب، فهم أخيرًا كيف أن بلال خرج من هذه القرية بنفسيّته تلك! لقد كان معه حق بأن يقتل نفسه خصوصا إذا عاش مع هؤلاء القوم طول حياته؛ فكلّ واحد منهم يُعاني من مرض نفسي. قال بكر محاولا تماسك أعصابه: حسنا، أهذا كل شيء؟ توقف محسن عن الضحك وهو يقول بهمهمة: اممم أعتقد أنهما ضُربا ثم خرجا من القرية وبالتأكيد لا أعلم أين ذهبا بعد ذلك! قال بكر بلهجة باردة وهو يتجه إلى سيارته: أشكرك يا أستاذ مُحسن. ابتسم مُحسن ابتسامة ذات معنى خاص وهو ينظر إلى سيارة بكر الفارهة وثيابه الجميلة المعطرة قائلا: أهكذا يكون شكرُك يا شيخ؟ تنهد بكر وهو يَخلع معطفه الأسود المصنوع من الجلد، ثم يُسلّمه لـ مُحسن مُصطنعا الابتسامة: تفضل، تعبيرًا عن شكري. أخذ مُحسن المعطف بانبهار تامّ وهو لا يكاد يصدّق نفسه وهو يُمسك المعطف بيديه الاثنتين، نظر إلى ظهر بكر وهو يركب سيارته ثم.. "انتظر يا شيخ" توقف بكر عن ركوب سيارته ولم يلتفت، ماذا يريد هذا الشخص منه الآن؟ وجده يقول بجدّية كبيرة: لقد أخبرني صديقي من رجال العُمدة أنه قد ضرب بلال بعصا حديدية ثقيلة على رأسه، وإذا كان هذا صحيحا فلابد أن إصابته كانت خطيرة وربما نقلته أخته للمستشفى و... قاطعه بكر بصدمة وقلبه سقط بين قدميه: وماهي أقرب مستشفى من هنا؟ قال مُحسن بسرعة: إنها مستشفى "..." الخاصة! انطلق بكر بسيارته سريعًا، وهو يردد في داخله بتضرّع: اللهم احفظ بلال من كل سوء. _ منذ أن أظلمت الدنيا في عينيّ وأنا لا أشعر بأي شيء، بدأت فجأة أشعر بما حولي، لكنني لم أستطع فتح عيني، كان جسدي ثقيلا ولكنني كنت أتحرك على شيء ما..! يبدو سريرًا، هل أنا في المستشفى الآن؟ ربما! أريد الاطمئنان على رقية ولكنني لا أستطيع حتى تحريك إصبع واحد من جسدي، يا الله.. ساعدني. توقف السرير عن الحركة، سمعتُ أصواتًا مختلطة، أحدهم هتف: إنه آتٍ! قال الآخر: هل سيتفقد غرفة العمليات فجأة؟ لم أسمع أنه سيقوم بجوْلة هذا اليوم! تركت محاولة فهم ما يقولون إلى وقت آخر ريثما أتمكن من محاولة فتح عيني وسؤالهم عن أختي.. فوجئت بشخص ما يتنفس بقربي، شعرت بيده تمسح على شعري وتتوقف كل ثانيتين وكأنه مصدوم! كان صوت تنفسه عاليا، ثم هدأ، وقال بلهجة آمرة: ابدؤوا في عملكم! أنا أثق بكم، سوف تنجح هذه العملية بدون خسائر! هتف الجميع بصوت واحد: نعم! ثم قال أحدهم باضطراب: ولكن يا سيدي لدينا مشكلة، فهو محتاج لنقل دمٍ ولكن ليس لدينا أي كيس من فصيلته الآن، و.... وجدته يقاطعه ببرود: الحلّ عندي! هتف الرجل بدهشة: آه.. سيّدي لم أقصد الطلب منك ولكن كنتُ... ردّ عليه بانفعال: قلتُ حلّ المشكلة عندي.. أرجو ألا يتدخل أحد في ذلك! سكت الجميع حابسين أنفاسهم، ولم أفهم أنا ما قصد ذلك الرجل، كان ذهني مشوشا للغاية. بعد ذلك سمعتُ صوت خطوات قدمه ترحل من الغرفة، وصوت بعض الأجهزة تبدأ بالعمل! شعرت بالخوف، حاولت أن أحرّك أي شيء من جسدي. نجحت محاولتي، لقد حركتُ يدي! لا -___- ، لقد كان شخص ما من حرّكها ولستُ أنا، يبدو أنهم يبدؤون بتخديري، هل سيقومون بعمليّة؟ يا له من أمر مُخيف! _ شعرتْ رقية بالاكتئاب وهي تنظر إلى ما في يديها من مال حصّلته جراء التسوّل لمدّة ساعتين، لقد قابلت أكثر من شخص وكل واحد منهم تجلس تحكي له حكاية أخيها لتحاول جمع مبلغ يُساعدها، لكن كان الكثير منهم يتجاهلها أو يدعو لها ببساطة فيها رائحة السخرية ويمضي.. في الحقيقة لو علم بلال بما تفعله لرفض رفضًا قاطعًا، لكنها طريقتها الوحيدة لإنقاذه، وهي لا تعلم أيضا كيف تذهب لتبحث عن عمل في هذا الوقت الحرج؟ تنهدتْ بتعب وهي تستلقي في مصلى السيدات، بعد أن صلّت الفجر والظهر معًا، لقد نسيت الفجر من شدة ذهولها مما أصاب بلال، لكن في الحقيقة كان بلال هو الذي تذكر الفجر، فقد صلّاه قبل تحرّكهما من أمام القرية إلى العيادة، ولأن زيد منعه من تحريك رأسه فقد صلّي بعينيه فقط. يا له من فتى، ابتسمت رقية بتأثر، لقد تغيّر بلال كثيرًا عمّا كان عليه، أصبح حنونا وعاقلا، وعالمًا أيضا. فهي لم تتصور في يومٍ ما أن المريض يجب عليه الصلاة حتى ولو بعينيه، كانت تعتقد أن المريض ستسقط عنه الصلاة تماما. وكثير من المعتقدات البسيطة التي امتلأت بها رأسها. وقد غيّر بلال القليل منها في أسبوع واحد. شعرت بدوار رأسها، هي منذ الأمس لم تنم لحظة واحدة، وتشعر أن جسدها مُتعب، تذكرت الشطائر التي صنعتها ليأكلا منها في الطريق هي وبلال.. لكن.. دمعت عيناها وهي تأكل ما تبقى منها، وتتذكر عندما حاولت إطعام بلال لكن زيْدًا لم يوافق. هل زيد كان له الحق بمنعها؟ لماذا كان يبدو واثقًا من نفسه؟ لم كانت تشعر أنه خبير؟ لم كان يكذب عليها ويقول إنه في الابتدائية؟ لا شك أنه كان يستصغرها! تأففتْ بغضب وهي تتذكر كلماته التي أغضبتْ بلال، يا له من وغد ذلك الزيْد! خطر على بالها فكرة، فقامتْ لتنفيذها على الفور، ستذهب لتدفع لهم عربوًنا حتى يصل المبلغ الحقيقي، وتطلب منهم رؤية بلال والاطمئنان عليه. يبدو أنه الحلّ المناسب. ابتسمت بثقة وهي تُخرج بضعة مئات من الجنيهات وتقدمها لتلك المرأة الجالسة خلف المكتب، قالتْ لها اسم بلال في ثبات، اتسعتْ عيناها دهشة وهي تسمع السيدة تقول: السيد بلال تمّ دفع حسابه! هتفتْ: كيف؟ من؟ قالت المرأة بهدوء وهي تعاود النظر إلى شاشة الحاسب: لقد كُتب أمام اسمه تم الدفع، ولم يُكتب اسم الدافع يا آنسة، وفي الواقع لقد تم وضع مبلغ إضافي في حسابه يسمح له بالإقامة في المستشفى لمدّة أسبوع كامل. ردّدت رقية في داخلها بفرحة عظيمة: إنه زيـــْد، يا له من شخص رائع، لم أتوقع عودته بهذه السرعة، ولم أتوقعه كريمًا لدرجة دفع حساب أسبوع كامل أيضًا! ثم سألتْها بلهفة: إذن، أستطيع زيارته الآن؟ أرجوك أخبريني رقم غرفته. قالت المرأة بتركيز: لقد نُقل إلى غرفة رقم 217 في الطابق الثاني، بعد خروجه من غرفة العمليات وإجراء العملية الجراحية له بنجاح. انطلقتْ رقيةْ على الفور وهي تشعر بقلبها يطير في الهواء من شدة السعادة، حمدتْ الله كثيرا في داخلها وهي تصعد السلالم، وتركض، تبحث عن رقم 217 بعينيها في لهفة، تجد الغرفة، تُمسك المقبض، وتفتحها بعجل! _ |