(20) لم أستطع أن أكمل جلسة المصارحة المتعبة مع نفسي بسبب عبير التي دخلت بكوب عصير، قائلة بتوتر: بلال.. ألن تشرب العصير معنا؟ نظرت لها ببرود فأكملت تحاول أن تجعلني مبتسما: إنه عصير ليمون، أنت تعلم أن الزكام قد انتشر انتشارا مخيفا هذه الأيام.. بقي أنا وأنت.. إذا شربنا الليمون لن تتمكن منا الفيروسات بإذن الله. ثم رفعتْ كأسي عاليا واقتربت مني لتسلمه لي، كنت جالسا على السرير فسألتها: ماذا يفعلون؟ نظرتْ إلي بتساؤل ثم فهمت قائلة: آه، تقصد أبي وعبد الله؟ لقد حاول عبد الله الخروج من المنزل ولكن أبي منعه! قلت: ولماذا منعه؟ أجابتني باستنكار: لأنه سيقف في الشارع ريثما تخرج جارتهم من منزله، فقد طلبت منه أمه الخروج حتى تُنهي زيارتها. سكتَّ وأنا أشرد بفكري بعيدًا، فقالت عبير بابتسامة: إن عبد الله فتى جيدّ، لا يحب أن يثقل على أحد. قلت بسخرية: آه. هذا واضح جدا أنه لا يحب الإثقال على أحد. قالت ببراءة وتضايق: ماذا تقصد؟ قلت بجفاء: لماذا يأتي كثيرًا إلى منزلكم إذن؟ بل ويأخذ راحته كاملة! قالت تدافع عنه بانفعال: لا.. صدقني نحن من ندعوه إلى الدخول، اليوم جعلته يدخل لأنه كان واقفا في الخارج بانتظار خروج جارته، وقد كان في حالة يُرثى لها من الزكام! ظللت مستمرًّا في سخريتي: إذا كان لا يحب الإثقال على أحد لن يدخل مهما حصل! إنه متحجج! قالت بخيبة أمل وبإحباط: بلال.. لم أنت متحامل عليه هكذا؟ قلت فجأة باندفاع: ما دمتم تقفون بجانبه هكذا! لم تتعاملين معي الآن بلطف وكأنني لم أفعل شيئا! ألم أتهجم عليه وأحاول ضربه في الصالة؟ لم تقفين محايدة؟ عليك أن تخاصميني على الأقل.. حتى الدكتور بكر لم يقل أي شيء وكأنه خائف مني! هل تظنين أنك تتعاملين مع طفل صغير؟ إنني افهم جيدا ألاعيبكم.. أفهم لم تعاملونني بكل هذا الحذر والحرص.. لأنكم خائفون من ردود أفعالي العنيفة.. خائفون من نفسيتي! كانت تنظر لي بعينين مصدومتين دامعتين، وضعت كأس الليمون على الخزانة بجانبي، ثم خرجت سريعا وأغلقت الباب! أما أنا فشعرت بقهر شديد وأنا أضع الوسادة فوق رأسي وأقول غاضبا: أف! _ استيقظت في منتصف الليل، شعرت باختناق كبير، كم أنا بائس في هذه الحياة! فقط أعيش لأسدد الثمن، حسنا، قلت سابقًا أنني لا أريد الموت إذا كان مؤلما، لكن الآن أقول إنني أريده لأن الحياة مؤلمة. فتحت باب غرفتي بحذر، كان البيت يغرق في ظلام تام، إلا من ضوء الحمام الذي أغلق بابه! تبينت وسط الظلام جسد الدكتور بكر نائما على الأرض كما هي عادته، كان واضحا من صوت تنفسه أنه يعاني من انسداد أنفه! اقتربت منه وجثيت على ركبتي وأنا أراقب، كم أنا متعجب من هذا الإنسان! رغم أنني شُفيت تماما، لكنه لم يطلب مني السرير ولا الغرفة أبداً! وظل ينام في الصالة على الأرض حتى الآن، ولم يطلب أن ينام بجانبي على السرير حتى لا يضايقني.. هو لا يريد الثمن، لقد فهمت أنه ليس من هذا النوع! المال لديه لا يمثل شيئا مقابل علاقاته مع الناس وأخلاقه. وأنا أعلم أنني لو قلت له أن يأخذ السرير لن يوافق، لهذا سأفعل ما برأسي.. غدًا. _ كنتُ في خضم العمل في المتجر، أشار لي الدكتور بكر بوجه مليء بابتسامة إشارة أعرف معناها، إنه وقت العشاء، قمت ببرود إليه وأنا أبحث عن تلك الشطائر التي كان يطلبها من مطعم قريب، لقد كان دائما يشتري منه. لكنه قال ضاحكًا بحماس: ما رأيك يا بلال أن نغير الروتين؟ سوف نذهب نحن بأنفسنا إلى المطعم، ولكنه مختلف عن السابق.. أريد أن أريك أجواء المطاعم.. نظرت بهدوء، وقلت موافقا عندما لم أجد سببا للرفض: حسنا، هيا بنا. مشينا إلى المطعم بما أنه قريب، واعتبرها الدكتور بكر رياضة المساء، كان سعيدًا جدا رغم إصابته بالزكام! عندما وصلنا، ألقيت نظرة عابرة على واجهته، واقتحمت أنفي رائحة الشواء الصادرة من داخله! لطالما كانت هذه الرائحة سببا لأحلامي السعيدة عندما كنت متشردًا في الشوارع.. لقد كان هذا المطعم هو نفسه الذي أحلم بالأكل فيه ذات يوم! عندما كنت أمر من جانبه أثناء تسولي، أقف قليلا لأشم الرائحة ويسيل لعابي، وأراقب الناس وهم يأكلون بما أن واجهة المطعم زجاجية، ثم أتذكر أنني لم أجمع المبلغ المطلوب، فأركض خائفًا من عقاب أبي. فجأة لمحت منظرًا أذهلني، لقد كان فتى يشبهني كثيرا، جالسًا على واجهته، تبدو يده مقطوعة، فكمه فارغ! وجهه متسخ وشعره أشعث، يمد يده للناس التي تمر وعلى وجهه ملامح الألم ويئن وكأنه لا يستطيع الكلام، يأخذ أي مال ويضعه في حجره ثم يمد يده مرة أخرى! ألقيت نظرة إلى الدكتور بكر فوجدته مصدوما بمنظر هذا الفتى وهمّ بإخراج بضعة أموال من محفظته، فتوجهت غاضبًا إلى ذلك الفتى! رآني مقتربا منه فحوّل يده إلي ومشاعر وجهه بين الرجاء والتوسل. لكنني فاجأته عندما أمسكته من تلابيبه غاضبا وقلت بحقد من بين أسناني: مع من تعمل؟ نظر إلي مصدوما وارتجفت شفتيه وأنّ محاولا التملص من يدي، فصرخت في وجهه: كُف عن ادّعاء البكم أيها الكاذب.. نظر لي مرتعشا ووجهه يشحب بين يدي، وقد التف الناس حولنا يراقبون ما يحدث وهم ينظرون لي باستنكار، اتركه، إنه ضعيف، أيها القاسي الظالم...! وضع الدكتور بكر يده على كتفي قائلا محاولا تهدئتي: بلال.. ماذا تفعل، أرجوك اهدأ، إنه مسكين! صرخت وأنا ما أزال أمسكه من رقبته: إنه ليس مسكينا، إنه كاذب! ثم قلت من بين أسناني: مع من تعمل قلت لك؟ هزّ رأسه محاولا أن يستنجد بالناس حوله، فقلت بقسوة: سأريك. ثم مددت يدي إلى قميصه لأمسك بيده المختبئة وأرفعها عاليا: أرأيتم؟ يده ليست مقطوعة، إنه يضحك عليكم أيها الأغبياء ليسرق أموالكم بدافع الشفقةّ! هاج الناس وماجوا من حولي، أما أنا فابتسمت بانتصار وأنا أرى نظرات الغضب في عينيه، كان جسدي أقوى بنية منه، لقد كان نحيفًا بارز العظام.. بجلد مُنهك مليء بالجروح الصغيرة. تكلم أخيرًا بحدة وهو يصرخ بشتيمة قبيحة، رميته على الأرض وأنا أقول ساخرًا للناس: أرأيتم هو ليس أبكما أيضاّ! كان الناس في قمة ذهولهم ومفاجأتهم، رددت على ذلك الفتى الشتائم بمثلها، ظل يلمّ حاجياته بسرعة وهو يلعنني في سرّه ثم هرب بعيدًا بعد أن نظر لي نظرة حقودة. التفتت إلى الدكتور بكر الذي كان خلفي يحدق بصدمة وعدم استيعاب، قلت وأنا أربت على كتفه: هيا بنا يا دكتور بكر! _ كان بكر لا يزال في حالة عدم استيعاب لما حصل، هل من فعل ذلك هو بلال حقّا؟ يا إلهي كيف؟ تلك الشتائم القبيحة جدا التي قالها بلال وكأنه معتاد عليها منذ الصغر، وكأنها مثل الماء الذي يشربه! قال بكر لنفسه في ذهول: بالطبع يا بكر هل تتوقع شيئا آخر ممن كان شحاذا وتربّى في الشوارع! ولا عجب أيضا أنه يحفظ حيَلَهُم.. لقد كان مصدومًا لأنه أول مرة يعلم هذا الجانب البشع في بلال، لم يشتم بلال قبل ذلك أمامه، ولم تحصل أي مشاجرات حقيقية من قبل سوى ما بينه وبين عبد الله التي أظهرتْ لبكر أنه لا يترك حقه بسهولة. كم هذا مخيف، مجرد أن يفكر أن هذا الفتى جلس معهم ثلاثة شهور إلى الآن.. كان يجلس مع عبير وحدها! هل علّمها يا ترى شيئا من هذه الألفاظ؟ هل كانت القصص التي يحكيها لها مليئة بمثل ذلك وأنا لا أدري! "أحاول تماسك أعصابي، أنا على وشك الانهيار مما رأيته وسمعته قبل قليل" لقد كان بكر يحاول تهدئة نفسه، دخل مع بلال إلى المطعم وهو ما يزال شاردًا، ظل بلال يراقبه باستغراب وحيرة، جاء النادل فطلب بكر ببضع كلمات مختصرة، حتى أنه لم يستشر بلال! كان يحاول الهرب من نظرات بلال له، فقد كان يعلم أنه إذا تكلم معه الآن ربما يعنفه ويندم على ذلك لاحقًا. لكن بلال تكلم أخيرا وهو يهتف باستنكار: دكتور بكر ما بك؟ لم هذه النظرات! تنهد بكر وهو يقول برفق: لا شيء يا بني.. فقط أردت أن أسألك. نظر له بلال بترقب فقال: لمّ فعلت هذا في الفتى؟ تحولت ملامح بلال إلى ملامح مخيفة، قاسية، وهو يغمغم في هدوء: أنتم تدمرونهم إذا أعطيتموهم أموالكم! قال بكر في حيرة وتردد: ماذا تقصد؟ بـ ندمّرهم؟ تنهد بلال وبدا وكأنه لا يريد الإجابة، لكنه قال باقتضاب وهو يشرد بعيدًا بعينيه: إنهم في الحقيقة لا يحتاجون أموالكم! لا يحتاجونها.. يحتاجون الرعاية فقط! تساءل بكر في داخل نفسه عن مدى تلك الملامح المؤلمة التي ظهرت في عيني بلال، لان قلبه له، لكنه تذكر شتائمه قبل قليل، فقال بتردد وهو يطرق برأسه: بلال.. هل لي أن أطلب طلبًا؟ تحولت ملامح بلال للانتباه قليلا رغم أنه كان ينظر بلا مبالاة، فأكمل بكر قائلا بحزم ولطف: أتمنى ألا تذكر هذه الألفاظ أمام عبير، والأفضل ألا تذكرها أبدًا. حدّق بلال بحدة إلى بكر، فقال بكر مبتسما: هذه الألفاظ لا تليق بك يا عزيزي. هدأ بلال ولمعت على شفتيه ابتسامة ساخرة، فقال بكر بعينين راجيتين: هل تعدني؟ قال بلال ببساطة: لا، لن أعدك! ظهرت ملامح الدهشة على بكر وهو يردد: ماذا؟ قال بلال بهدوء: أرجو ألا تعاملني كطفل يا دكتور بكر، أنا أعلم أن هذه الألفاظ سيئة، وأنها ألفاظ شوارع بالنسبة إليكم! واطمئن لم أقل أي واحدة منها أمام عبير ولن أقول شيئا كهذا! هدأ بكر بعد كلامه، لكنه شعر بأحاسيس سيئة تجاه هذا التصرف.. لا يعلم لمَ تأكد بأن بلال يعلم الكثير من الأشياء، يفهم العديد مما لم يتوقعه بكر أن يفهمه، وهذا ما أصاب بكر بالاضطراب. _ |