(14) بعد أن عاد بكر إلى المنزل، نظر بتردد إلى غرفة بلال المغلقة، ثم مضى في طريقه إلى المطبخ ليضع الحاجيات التي اشتراها لوجبة الغداء. كما أنه قلق مما حصل لبلال اليوم، جسديا ونفسيا، فربما الضلعين المكسورين لديه من جراء الحادث سيسبان له بضع المتاعب، كما كلام عبد الله أيضا سيسبب له المتاعب. تنهد في حرارة، ثم رتب الفوضى التي أحدثها عقب الإفطار في المطبخ، ثم قام بإخراج اللحم المجمد من الفريزر واستعد لبدء الطهي فاليوم أم عبد الله ستسافر المدينة لترى أختها ولن تطبخ لهم، حتى أنها وصت الدكتور بكر بأن يطعم عبد الله وبثينة معهم في الغداء أيضا! عقد بكر حاجبيه في قلق، كيف يمكن لبلال وعبد الله اليوم أن يجتمعوا على الغداء؟ نظر إلى الساعة بهدوء، الساعة الثامنة صباحًا، لقد مرت ساعتان منذ دخل بلال غرفته ولم يخرج منها، قرر الدخول إليه. فتح الباب بهدوء وهو يقول بخفوت: بلال. هل أنت نائم؟ كان بلال نائما على سريره دون غطاء، يضع يده اليُسرى على صدره، وجهه في قمة الشحوب. أفزع بكر بمنظره، فاقترب مسرعا وهو يهزّ يده برفق: بلال.. أنت بخير؟ فتح بلال عينيه ببطء، ثم نظر إليه بإرهاق وهمس: ماذا هناك؟ هل هو الظهر؟ زفر بكر في راحة، وغمغم: لا.. كنت أطمئن عليك، لا تُلقِ بالًا، إنها الساعة الثامنة! عقد بلال حاجبيه وهو يقول: الثامنة؟ إذن لم أنت موجود؟ ابتسم وهو يفتح ستائر الغرفة: سوف أطبخ الغداء.. عليّ أن أكون نشيطًا. استوى بلال جالسًا، فالتفت الدكتور بكر وهو يقول بمرح: بلال هل تمانع لو تحدثت معك لدقائق؟ نظر بلال إليه ببرود ثم هزّ رأسه نافيا، فخرج بكر مسرعا. _ منذ الصباح وأنا أنازع تلك الآلام التي نشأت في صدري، ثم غفوت بعد جهد، وها هو ذاك المزعج يوقظني بكل بساطة! نظرت إليه باستغراب وهو يخرج، ألم يقل إنه يريد التحدث معي؟ أدركت الأمر حين أتى بصينية مليئة بخضروات وعليها لوح تقطيع وسكين، جلس في الأريكة المقابلة للسرير ثم قال ضاحكًا: سوف أستغل الوقت ريثما أتحدث معك. نظرتُ له مليًّا حتى يبدأ حديثه، فقال دون أن ينظر إلي بهدوء: بلال.. ما رأيك فيما حدث اليوم لك مع عبد الله؟ عقدت حاجبيّ بضيق وأنا أقول عابسًا: إنه ولد جاهل.. لا يفهم شيئا! همهم الدكتور بكر بغموض: أجل.. ربما! سألته بعدوانية باردة: إذن لماذا كذبت علي؟ _كذبتُ عليك في ماذا؟ قلت بحدة: عندما قلت لي أن أم عبير قد ماتت في حادث، لم تقل أن لك ابنًا قد مات أيضًا. زفر في حرارة ثم قال: هكذا لم أكذب عليك.. هكذا أكون قد أخفيت عنك! قلت بنفاد صبر: ولماذا أخفيت عني هذا إذن؟ قال الدكتور بكر دون أن ينظر إلى عيني: سأخبرك الحقيقة. ثم سكت قليلا ونظر إلي مبتسما بذبول: لكي لا تظن أن رعايتي لك تعوضني عن فقد ابني...! عقدت حاجبي دون فهم، كيف؟ هو لا يريد أن تكون رعايتي تعوضه عن فقد ابنه؟ وجد علامات الاستفهام على وجهي فأعاد قائلا بتوضيح: ما أقصده أنني خشيت أن تظن عندما تعرف أنني فقدت ابني أنني أنظر إليك وكأنك ابني المفقود وأعتني بك لأنني بحاجة إلى ابن مثلا.. وأنا لا أريدك أبدا أن تفهم ذلك، فأنا أهتم بك هنا لرغبتي الخاصة، لأنني أريد ذلك، أريد أن أتعامل معك، لقد أثارت شخصيتك اهتمامي. وكما أن ظروفك الغامضة أيضا تجذبني لمواصلة ما أفعله. ثم ابتسم ببساطة قائلا: هل فهمتني يا بلال؟ قلت بلا مبالاة: على أية حال.. ما اسمه.. ابنك؟ قالها وهو ينظر إلى عيني مباشرة: بلال. فتحت عيني في دهشة، هل هذا معقول، كان لابنه نفس اسمي؟ لماذا؟ لا شك بأن وجودي إذن يذكره بابنه في كل دقيقة، ماذا علي أن أعتقد؟ "بلال.. كان هناك سؤال أردت سؤالك إياه منذ مدة" كان الدكتور بكر يقاطع أفكاري، انتبهت له، وغمغمت: ما هو؟ قال بهدوء: إلى أين تظن أنك ستذهب بعد الموت؟ أو بعد الانتحار بشكل أدق؟ نظرت إلى السقف بدون اكتراث قائلا: لم أفكر في هذا الأمر قط! ثم التفت له بمرارة حاولت إخفائها: ولكنني أعتقد أنني سأرتاح من هذه الحياة! قال وهو على وشك الابتسام: عليك أن تفكر.. يجب أن تفكر، فهل سيسلك أحد طريقا ما وهو لا يدري إلى أين يتجه؟ وسألني بلطف: هل أنت مسلم؟ قلت باستنكار: بالتأكيد يا دكتور بكر.. هل تظنني كافرًا؟ قال بحرج: لا يا عزيزي، ولكنني كنت أريد أن أصل إلى نقطة، بما أنك مسلم، فأنت تعرف النبي محمد صلى الله عليه وسلم وتتبع أوامره، إذن يجب أن تعرف ما قاله في خصوص هذا الشأن! ثم عقد حاجبيه باهتمام وقال بحسم: لقد قال: "مَن تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيه خالداً مخلداً فيها أبداً، ومَن تحسَّى سمّاً فقتل نفسه فسمُّه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومَن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها [أي يطعن] في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً" وكذلك قال: "َمن قتل نفسه بشيء في الدنيا عذب به يوم القيامة" و قال: "كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح فجزع فأخذ سكيناً فحز بها يده فما رقأ الدم حتى مات. قال الله تعالى: بادرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة". ثم سكت قليلا، وأنا نظرت بتوتر، لم يُخبرني أحد هذا الكلام من قبل! لقد كنت أظنني، فور موتي سأدخل الجنة.. أنا حقا لا أعلم كيف أعبر عما داخلي. قام الدكتور بكر وهو يمسح يديه بمنديل ثم يجلس بجانبي، ابتسم بحنان قائلا: لقد كنت خائفًا عليك فقط يا بلال، لا أريد ولا أتمنى لأحد أن يقتل نفسه أبدا مهما كان حجم المصائب التي تنزل على رأسه! نظرت له بتأثر، هل أنا فتى عاطفي؟ هل يجب علي تصديق كل ما يقوله هذا الرجل؟ وضع يديه على كتفي أخيرًا وهو يقول: لذا أرجوك أن... فقلت فجأة أقاطعه: هل أنت من المتدينين؟ اتسعت عيناه بدهشة ثم ضحك ضحكة قصيرة وقال: لا.. عقدت حاجبي بعدوانية لأقول: إذن أنت من الشيوخ؟ اتسعت ابتسامته هذه المرة وهو يهز رأسه قائلا بضحكة: أيضًا لا.. نظرت مليّا إلى لحيته وقلت ببراءة: إذن ما هذه؟ قال ببساطة: لحية! عقدت حاجبي بغضب وقلت: لقد كان أحدهم يحاول استغلال عاطفتي للدين بأن يجعلني أنفذ رغباته، لكنني فهمت طريقته الحقيرة، ولن أسمح بتكرار التجربة مرة أخرى! ثم أشرتُ إلى لحيته وأنا أقول: لقد كان لهم نفس هذا المنظر! يبدو أن الدكتور بكر فهم أنني أوجه له نفس الاتهام، فقام من فوره مبتعدًا، نظرت بدهشة لظهره وهو يجلس على الأريكة المقابلة ويُمسك السكين ليُكمل قطع الخضار، بدا وكأنه مصدوم! شعرت ببعض التوتر وأنا أحدق إليه، إنه ساكن لا يفعل شيئا سوى تقطيع الخضار بشرود! يجب علي قول شيء ما، أليس كذلك؟ لقد فاجئني الدكتور بكر! تصرفه غريب جدا.. هل غضب لأنني وجهت له هذا الاتهام؟ حسنا، لم يكن شكل الدكتور بكر يوحي لي أبدًا بأنه من المتدينين المزيّفين الذين يضحكون على الأطفال الصغار ليأخذوا منهم ما يريدون، لقد كنت في صغري، يُجبرني أبي على حفظ القرآن متحججا بأن الملائكة ستتبعني وأني سأدخل الجنة فور موتي و. لكنه كان يريد المكافأة الضخمة التي تُعطى لكل من يختمه!! وفور شعوري بجشع أبي تركت المسجد وانطلقت هاربًا، لن أجعل أبي يتمتع بالأموال على حسابي. وانطلق صوتان متناقضان في داخلي، وكأنني أكلم نفسي. ولكن لا يبدو شكل الدكتور بكر كشخص يريد استغلال عاطفتي للدين لصالحه، إنه يبدو شخصا لا يريد الاستفادة مني أصلا والدليل أنه يعتني بي رغم المعاناة الشديدة التي سببتها له ولابنته. إنه يريد الثمن منك يا ذكي، أي أنه سيستفيد منك في النهاية، هو لا يقدم خدماته لأجلك، بل لأجل الثمن الذي تدفعه، لقد أخبرك أنك قادر على الانتحار بعد تسديد الثمن وهذا دليل على أنه مادّي حقير! لكن.. لو كان يريد الثمن حقًّا، لسمح لي بالانتحار عند الشجرة ولم يكن ليخاطر بيده لأجل إيقافي فقط! أنت تخدع نفسك، إن الدكتور بكر يستغلك. لا أبدًا، إنني أشعر وكأن الدكتور بكر.. بكل تصرفاته تلك.. وكأنه.. ينقذني! هل أنت أحمق؟ ينقذك؟ هل نسيت أنه أعادك إلى الحياة البائسة نفسها مجددا؟ لكنه حقًّا.. حقًّا.. أنقذني.. من نفسي، أنقذني من يأسي وكآبتي، لقد جعلني أفهم وكأن الانتحار أمر خاطئ جدا. لقد خدعك وحسب بالأحاديث التي قالها، إنه يستغل عاطفتك للدين مرة أخرى! لكن.. بالتأكيد سيُفهمك أن الانتحار أمر خاطئ جدا، لأن هذا في صالحه، أن يجد شخصا يخدمه طوال حياته! يكفي! انتبهتُ أني أمسك رأسي، توقف بكر عن عمله ناظرًا إلي بقلق، وهو يقول: ما الأمر؟ تركت رأسي وأنا آخذ نفسًا عميقًا، إن التفكير يكاد يقتلني، نظرت بهدوء: لا شيء. اطمئن الدكتور بكر وجلس مرة أخرى، لقد زالت علامات الصدمة من على وجهه. ومن ثم قال وكأنه يجيب على تعليقي السابق: هذه اللحية منذ سنتين فقط أطلقتها! سألته ببرود: لم منذ سنتين بالتحديد؟ _ |