السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ^_^ أعتذر لكم فلم أضع الأجزاء الأولى كما وعدتكم لكنني كنت منشغلة حقا، وبالمناسبة قرأت ردودكم على الأجزاء السابقة وأسعدتني جدا سأرد عليها قريبا جدا إن شاء الله (4) بكر وابنته حين تكلما مع بعضهما، وقال: لن يستطيع أن ينتحر في ذلك الوقت. سألته ابنته في دهشة: أتعني أنك لن تنفذ وعدك؟ فقال وهو يهز رأسه نافيا: بل سأنفذه يا بنيّتي لكن أنا أعني، شهر ليتعافى ومن ثم شهرين أو ثلاثة شهور ليدفع الثمن الذي قلتُ له، كلها سأستغلها في علاجه وتصحيح مفاهيمه عن الحياة والموت.. وبانتهاء الدفع سأتركه حقا ليفعل بنفسه ما يشاء لكنه حينئذ سيكون واعيًا وليس كما هو الآن يتصرف تبعا لتربية طويلة سببت له أزمة نفسية، لا أعلم مع من كان يعيش قبل ذلك، ولكن يبدو أن من ربّاه حتى بلغ عمره هذا قد ارتكب جُرما عظيما في حقه وكان شديد القسوة عليه حتى إن بلال لم يكن له أي أمنية إلا الانتحار؛ ليتخلص من حياته! ظهر على وجه عبير الألم رغم أنها لا تفهم والدها جيدا، ولكن هذه هي عادته فكثيرا ما يتكلم مع نفسه ويذكر مصطلحات علم النفس الصعبة التي لا تفهمها فتاة في العاشرة من عمرها، هل من المعقول أن تجعل التربية القاسية فتى ليس له أمنية سوى الانتحار؟ ورغم ذلك فهي تستمع له بتركيز وتسأله عدّة أسئلة وهو يجاوب. قالت: ولكن يا أبي لقد سألته عن عائلته فنفى وجودهم، ربما عاش يتيما أو بأب قاس جدا مع زوجة أب. قال بكر في تفكير عميق: من الممكن فعلا يا عبير أن يكون الأمر كذلك، سأحاول معرفة المزيد عنه لكي أفهمه أكثر، لكن أنتِ حاولي أن تتكلمي معه وتفهمي أحواله، أعلم أن ذلك سيكون عسيرا، لذا كوني صبورة.. أعتقد أنني تصالحتُ معه مؤقتا وإذا كان يثق بوعدي فلن يحاول الانتحار في هذه الأيام. أما بلال فلم يستطع سماع كل هذا، لأنه بمجرد أن سمع: لا.. لن يستطيع أن ينتحر في ذلك الوقت! حتى تشنج في مكانه وانفعل بشدة ولم يسمع بقية الحوار، فقد كان منشغلا بالتخطيط لعملية الانتحار القادم! _ لقد خططتُ لكل شيء، السلاح، هناك سكين كانت عبير قد وضعتها بجانبي لتقطيع الفاكهة، سآخذها معي. وعن الثمن، فلا حاجة لي بدفع ثمن لرجل لن يفِيَ بوعده ويستصغرني، كما أنه لو فكر جيدا حين يرى جثتي لأخذ أعضائي الداخلية وباعها فور وفاتي سيكون شيئا مُربحا جدا. أما عن الوقت، فسوف أنتظر لحظة خروجه إلى المسجد ليصلي الفجر، وحين تكون عبير أيضا منشغلة بالصلاة سأخرج، وحين يعود من الصلاة يفاجأ بي اختفيت فيذهب للبحث عني، وهكذا إن وصل إلي سيجدني قد نفذتُ ما برأسي رغم أنفه، وسيُسرع لبيع ما بداخلي قبل أن يفسد هذا إن كان يهمّه المال أصلا، أما أنا فأشعر أنه يضحك علي، هو لا يحتاج ثمنا أو ما شابه بل قال ذلك مستغلا حساسيتي الشديدة نحو المساعدات. تنهدتُ براحة وحماسة، عليّ أن أنتظر أذان الفجر. أذّن أخيرا، ولأول مرة أشعر بأنني مضطرب جدا، قلبي يدق بعنف، أغمضت عيني محاولا أن أهدأ.. ولكن ما زاد من قلقي هو دخول الدكتور بكر علي، تظاهرتُ بالنوم.. ريثما يرحل. لكن يبدو أنه جلس بجانبي على السرير، وشعرتُ بابتسامته، وأيضا.. يده كانت تهبط على جبهتي وهو يقول في حيرة: ما به؟ يبدو أنه سمع تسارع نبضات قلبي، فقد كان يقول بقلق: إنه لا يُعاني من أية حُمى إذن.. لمَاذا.. هل يرى كابوسا مزعجا؟ حين سمع الإقامة تنهد وأسرع خارجا. لكيلا تفوته الصلاة. عندها فتحتُ عيني بسكون وأنا أُنصت لصوت الماء المنساب من بين يدي عبير وهي تتوضأ، نعم إن هذا البيت هادئ جدا! شعرتُ بخطواتها قادمة إلى غرفتي مرة أخرى فاضطررتُ إلى تمثيل النوم عليها أيضا، ولكن يبدو أن خطواتها السريعة سبقتني فقد فتحت الباب فجأة ورأيتها وهي ترتدي الإسدال الصغير المخصص لها وتنظر لي بابتسامة واسعة ثم قالت بلهجة حماسية: أنت مستيقظ لتصلي الفجر أليس كذلك؟ لم يكن عندي جواب لها إلا: نعم بالطبع! مع أنني لا أصلي أصلا ولم يسبق لي أن فعلتها إلا إذا دخلتُ المسجد مُرغما بسبب أبي. فابتسمت بفرحة وأغلقتْ الباب واختفت مرة أخرى.. بعدها مباشرة سمعتُ همسة تقول: الله أكبر.. لابد أنها بدأت الصلاة، إذن عليّ أن أستغل الفرصة، خبئتُ السكين في ملابسي، وقمت بصعوبة شديدة واقفا على قدميَّ.. فتحتُ باب غرفتي بحذر شديد. حريصا ألا يُصدر أي صوت، ومشيت متحمّلا الألم الكبير الذي أشعر به، حتى وقفتُ عند الباب وأنا آخذ بعضا من أنفاسي وأنصتُّ لأحاول أن أطمئن أن عبير ما زالت تصلي ولن تشعر بي الآن. خرجتُ على الفور وأنا خائف من أن تنتهي صلاة الدكتور بكر فيأتي في أي لحظة، كنتُ منزعجا لأن قدمي كانت تؤلمني وكأن بها شللا.. حتى صرتُ أعرج بشكل مثير للشفقة، ولكن من الجيد أن المنطقة التي يسكن فيها هذا الدكتور منطقة هادئة جدا ولا أرى أي شخص يمشي في الشارع.. يا إلهي، هل جسدي بات هشّا لهذه الدرجة؟ إنني أشعر بالإرهاق لمجرد أنني مشيتُ شارعا واحدا مبتعدا عن بيته.. توقفتُ عند شجرة قريبة ألهث تحتها، وأطمئن قلبي الخائف قليلا.. وجدتُ فتى يخرج من بيته مسرعا وعلى وجهه آثار الماء، يبدو أنه يريد اللحاق بصلاة الفجر. كان طريقه مصادفا لطريقي.. وعلمتُ أنه سيراني حتما إذا استمر، لهذا حاولتُ أن أخفي نفسي أكثر تحت الشجرة وساعدني على ذلك الظلام السائد. ولكنه اتجه مباشرة إلى الشجرة وكأنه يعلم أنني هنا، ألقى علي نظرة مندهشة متعجبة وأنا نظرتُ نظرة متحفزة.. تابع نظراته تلك وحدّق في الجبيرة التي تكسو يدي اليمنى، ثم نزل إلى الضمادات التي تلف قدمي الحافية وملابس المنزل القطنية التي أرتديها، وبعد أن أنهى تأمله رفع نظره لي وقال باستغراب ودهشة: ماذا تفعل هنا؟ أشحتُ بوجهي قائلا بجفاء: لا شأن لك، فلتلحق بصلاة الفجر.. هيا! دُهش من ردّي الوقح ذاك عليه، فابتعد بسرعة ووجهه احمّر من الإحراج لكنه وقف واستدار لي قائلا في حيرة: ولكنك خرجت من بيت الدكتور بكر.. هل أنت قريبه أو تعرفه؟ قلتُ في سخرية: يبدو أنك قد أًصبتَ بحوَل في عينيك، فقد خرجتُ من منزل آخر. ظهرتْ علامات الغضب على وجهه البريء، وضمّ قبضة يديه قائلا بتوكيد: لقد رأيتك وأنت تخرج من بيته يا هذا، أتكذب عليّ وقد رأيتُك بأمّ عيني؟ هممتُ بالرد لولا أن جاء صوت بعيد، كانت أم الفتى أخرجت رأسها من النافذة وصاحت: ماذا تفعل يا عبد الله؟ أسرع إلى المسجد. انتبه ذاك الفتى إلى أمه ثم هرول مسرعا واختفى من أمامي بعد أن قال بلهجة منزعجة: سأعود لك بعد الصلاة! أما أنا فقد أكملتُ طريقي إلى مكان بعيد قليلا عن منزل الدكتور بكر. اسمُ ذاك الفتى عبد الله؟ حسن، إذن، سأحفظه جيدا، لأنه سيكون آخر شخص كلمته قبل موتي! _ وصلتُ إلى المكان الذي صدُمتُ به قبل مدة، نعم هذا مكان مناسب جدا. لأنني لا أعرف مكانا آخر في هذه القرية غير هذا، اتجهتُ إلى شجرة بعيدة بعض الشيء، واختبأت خلفها، لبثتُ قليلا وأنا ألهث مُحاوِلًا السيطرة على نفسي.. قلبي يخفق بشدة والعرق يتصبب على جبيني.. هل أنا خائف من الانتحار؟ لا، وعليّ أن أثبت ذلك.. أخرجتُ السكين.. وضعتُ سنّها على إصبعي فجُرح في ثوان.. هذا جيد، إنها حادة كفاية لتخترق قلبي، فأنا لا أريد أن أتعذب قبل الموت، أخذتُ نفسا عميقا، وأمسكتُ السكين بيدي اليُسرى فيدي اليُمنى مجبرة، إنه لمن المؤسف أن أموت ويدي مكسورة. يدي ترتعش! تبا! ماذا يحصل لي؟ ابتلعت ريقي بصعوبة ووجهتُ السكين إلى صدري، سأصرخ عاليا وأغمض عيني ثم أفعلها! نعم لابد من فعلها بسرعة الآن حتى لا يأتي الدكتور بكر ويمنعني. يجب أن أتحلّى ببعض الشجاعة، فالارتياح من الدنيا لا يأتي بسهولة هكذا! صرختُ عاليا ورفعتُ السكين وغرزتها بكل قوتي.. في قلبي مباشرة. __ توقعتُ بعد أن أغرزها في قلبي أنني سأموت في ثوان قليلة، لكنني.. ما زلتُ على قيد الحياة! فتحتُ عيني، السكين.. أمسكها أحدهم بيده العارية! قبضة قوية أوقفت حدّها الذي كان على وشك اختراق صدري. عندما انتبهت، التفتتُ بذهول إليه لأصرخ في وجهه بكل الغيظ الذي في داخلي: ماذا تفعل؟ ولكن.. كان الدكتور بكر ينظر لي نظرة غريبة وهو يتنفس بصوت عال متقطع، فُتحت عيناي عن آخرها وأنا أرى هذا المنظر.. لقد لحقني في وقت قصير جدا.. يا إلهي، كيف فعل ذلك؟ ولكنني قلتُ بعناد: اتركني.. أقتل نفسي! نظر لي بحدة وحسم وعيناه تحملان صرامة كبيرة: لمَ لمْ تفِ بوعدك؟ أين الاتفاق الذي بيننا؟ ما زلتُ قابضا على السكين بيدي، رفعتُها صائحا: لا دخل لك في حياتي.. أنت أرغمتني على الموافقة عليه. لكن عندما رفعتُ السكين، ظلّ هو أيضًا مُمْسِكا بها، حتى رأيت قطرات الدم تسيل بانتظام من جرح يده، نظرتُ له متجمدا، لم أعد أستطيع الحراك! لماذا يكاد يضحّي بيده لأجل أن ينقذ حياتي مرة أخرى؟ ما هذا الرجل؟ عندما وجدني هكذا، تحرّك هو، فوضع يده الأخرى على يدي الممسكة بالسكين، وأغمض عينيه بألم وهو يسحب مني السكين، ثم رماها بكل قوته بين الشجر القريب منا! ثم نظر بعينين ثاقبتين لي، وقال بهدوء: لا أدري ما الذي جعلك تأخذ هذه الخطوة المجنونة في هذا الوقت بالذات، ولكنني لن أسمح لك بإخلاف الوعد الذي بيننا، فلتفعل ما تشاء بعد أن تدفع الثمن، أما الآن فأنا لن أفرّط في حياتك أبدا. شعرتُ أنني على وشك الانهيار.. هذا الرجل يكاد يُجنني، لماذا يتحكم في حياتي بهذه الطريقة؟ صرختُ في وجهه بقهر: أنا لا أريد دفع الثمن بتلك الطريقة التي قلتها، سأنتحر. فلماذا تتدخل أنت؟ قال حازما: لقد عرضتُ عليك الطريقة التي ستدفع بها، وأنت وافقتَ من البداية على ذلك، ولم أرغمك على شيء، وأنت الآن مُجبر أن تلتزم بالاتفاق الذي وقعتَ عليه بمحض إرادتك. يا إلهي، إنه رجل متبجح، ولكنني غير قادر على الرد عليه، إنني أرتعش، أمام نظراته. ارتجفت شفتاي وأنا أقول له بانفعال: لماذا؟ لماذا تريد التحكم في حياتي؟ ماذا فعلتُ لك؟ لمَ تفعل هذا بي؟ كانت أعصابي منهارة بشدة وقد زادها هذا الرجل انهيارًا. عيناي بدأتا بالبكاء، وأنا أنظر إليه بقهر وأردد كلماتي البائسة: ماذا أفعل لأتخلص من قبضتك الحاكمة علي؟ لقد كنتُ مبتعدا، عن الناس، وعن الدنيا، فما الذي أوقعني في يد شخص مثلك؟ كان انفعالي يزيد كلما زدتُ الكلام، ودموعي كذلك، بدأت الدهشة تظهر في عينيه، وقليل من الشفقة، لكنني صرختُ مرة أخرى باكيا: لا تشفق علي.. إياك أن تفعلها، أنا لستُ مسكينا ولا أستحق شفقتك.. أتفهم؟ أنا لا أريد شفقتك! مدّ يديه بهدوء ووضعها على كتفي، ثم نظر بعين صادقة وغمغم: أنا متأسف لأي كلمة أو نظرة ضايقتك مني، اعذرني يا بلال. يا ربي، لماذا يعتذر هذا المجنون لي؟ إنني بالفعل سأفقد عقلي من تصرفاته. ظللتُ أبكي بهستيريا وأنا أمسح دموعي بأطراف كمي، وأردد تلك الكلمات مرة أخرى: لماذا؟ ماذا فعلتُ أنا؟ لماذا لا أحصل على حريتي ولو على جزء ضئيل منها؟ الدموع الحارقة تغطي وجهي المحمّر من شدة الانفعال، ثم تنزل على الأرض العشبية أسفل مني.. إنه.. كما تنزل دموعي.. فإن دماء الدكتور بكر تنزل أيضا وتسقط على العشب. بدأتُ أشعر بالضعف يسري في أنحاء جسدي، فهمستُ بألم: أريد.. أن.. أموت! اقترب الدكتور بكر مني، ثم.. ضمني إلى صدره في حنان! يا إلهي، لم يفعلها لي أحد منذ قاربت الرابعة من عمري! وجدته يقول برفق: بلال، حياتك غالية، ليست رخيصة، إذا ذهبتْ فلن ترجع، بلال، حافظ على حياتك جيدا. لكنني تمسكتُ بملابسه أكثر، وزدتُ بكائي. لأول مرة أشعر بقرب أحدهم هكذا مني وبلطفهم بي في أوقات حاجتي لهم.. إن الدكتور بكر شخص غريب.. غريب فعلا! لقد كان يمسح على شعري بحنان وهو يهدّئني بكلماته العذبة. ظللتُ على هذه الحال مدة، حتى أشرقت الشمس، تعبت من البكاء ومن الجلوس ومن كل شيء. "هيا لنعد إلى المنزل يا بلال، عبير تنتظرنا، على أغلب ظني أنها أنهت تحضير الإفطار!" لا زلتُ كما أنا، أخبئ رأسي بين ملابسه ولا أنبس ببنت شفة. ردد مرة أخرى: بلال.. رد علي! قلتُ بصوت هامس ضعيف: لا أريد.. اتركني هنا واذهب أنت. ثم ابتعدتُ عنه وتراجعتُ إلى الخلف وأنا أزحف جالسا، لأنني لم أعد قادرا على الوقوف. ولكنه قال متبسما بعناد: لا.. لن أتركك، لقد اتفقت معي، إن السكن الذي تسكنه معنا ستدفع ثمنه والعلاج والطعام وكل شيء.. لا يوجد عندي شيء بالمجّان. ثم وضع يده على كتفي وقال بهدوء ولين: هيّا بنا.. أمسكتُ يده بعدوانية وغيظ وأنا أهمّ بإبعادها عن كتفي، إن هذا الرجل زاد عن حدّه فعلا! لكنني جفلتُ عندما شعرتُ يدي ملوثة بسائل لزج دافئ.. لقد كانت يدُه المصابة، ألقيتُ نظرة عليه فوجدتُ وجهه بارد الملامح، نقلتُ بصري إلى يده النازفة ثم تركتُها بألم. سمعتُه يقول بمرح: هيا وعليك أن تدفع ثمن جرحي هذا أيضا، فلا يوجد شيء بالمجان. ثم ضحك ضحكة قصيرة بيْد أنني.. نزلت دموعي وارتجفت شفاهي مرة أخرى! لا أعلم ما الذي حصل لأعصابي.. إنني أشعر وكأنني على حافة الانهيار.. أمسك بيدي وقام يساندني، إنه مصّر أن أعود معه رغما عني، وكم شعرتُ بالقهر حينئذ. إنني الآن.. أشعر بالحزن والألم.. والحرقة في صدري، لم أعد قادرا على تحمل شيء بعدُ.. دائما ما أُحرم مما أريده، ولا أنال حريتي في أشياء خاصة بي! تذكرتُ عندما أبي منعني من الانتحار وجلدني خمسين جلدة على ظهري حتى لم أعد قادرا على الوقوف، وأمي حينها أرغمتني على الأكل لكيلا أموت من شدة نقص الغذاء. ولكن الدكتور بكر، إن أسلوبه في منعي من الانتحار يختلف عن أساليبهم، إنه يمنعني بابتسامة غريبة على شفتيه وهدوء وثقة ثابتين على ملامح وجهه، لا أدري لمَ يفعل ذلك ويتحمل كل هذا! قلتُ بأنفاس متقطعة من أثر البكاء وأنا أراه يُسندني واقفا: أنا.. قدمي.. لم أعد أستطيع السير عليها. عقد حاجبيه باهتمام قلق وقال: لمَ؟ أجبتُ: إنها تبدو مشلولة! ولكنه رفع حاجبيه دهشة ثم قال برفق: لا بأس، استند عليّ ريثما نصل إلى المنزل. تُمسكتُ فيه بيدي اليُسرى وهو دعمني بيديه من خلف ظهري، وراح يمشي ببطء لكي أستطيع مجاراته في خطواته، إنه نفس الطريق الذي جئتُ فيه وأنا عازم على الانتحار.. والآن أنا أعود منه في حالة يُرثى لها.. تسارعتْ أنفاسي فنظر الدكتور بكر إلي طويلا.. ثم غمغم: هل تبكي مرة أخرى؟ أبعدتُ وجهي عنه وقلتُ بصوت مختنق: أنا لا أبكي.. ثمَ.. لا تتدخل في شؤوني! سكتَ بعدها طول الطريق وأنا حاولت أن أمنع دموعي من الهطول بلا فائدة تُرجى! عندما فتحتْ لنا عبير كتمتْ شهقاتها وهي تشاهد حالتي المُزرية مع جرح يد الدكتور بكر، لكن لم يبدُ عليّ أي ردة فعل. استلقيت على سريري وتجاهلتُ الدكتور بكر الذي بقي واقفا لكي يُساعدني، وعبير التي استمرت بالنظر إلي في هلع ويدها الصغيرة على قلبها وعلى عينيها الفزع الشديد على حالتي: عينايَ الحمراويتين من البكاء، وجهي المملوء بالكدمات والسجحات بسبب الحادث الذي كان قبل أيام، ويدي المكسورة وقدمي العرجاء.. لقد ساءت حالتي جدا.. كان علي أن أنتحر منذ زمن! غطيتُ عينيَّ الباكيتين بيدي اليسرى راجيا منه أن يغض بصره عني، وأن يذهب ويدعني في حالي، لكنني لم أنتبه أنني أثناء بكائي كنتُ أصدر أصواتا وأشهق شهقات طويلة.. إنني أبكي بقوة، ولهذا هما ينظران لي بكل هذا الذهول الآن.. حتى الدكتور بكر الذي كان مبتسما طول الطريق وهادئا، ظل رافعا حاجبيه بخوف وقلق شديد علي. حتى سمعتُه يقول معتذرا: اسمح لي يا بلال.. إنه مهدّئ فقط. أمسك يدي اليسرى وحقنني فيها، هذه المرة لم أقاوم بأي شكل، إنني.. أصبحتُ يائسا.. لقد أفقدني بكر الرغبة في الحياة وفي الموت أيضا! أشعر أنني، لا أريد أن أفعل أي شيء! .. فقط أن أغرق في غيبوبة طويلة جدا تنسيني كل ما يؤلمني. بعدها بدأت أهدأ بشكل تدريجي، حتى سكتُّ تماما ورحتُ أنظر بشرود للسقف وأنا أغمض عينيّ ناعسا، عبير كانت منشغلة بتضميد جرح يد بكر الذي جلس على نفس سريري بالقرب من قدمي، حاولت أن أفتح عيني لكي أنظر إليه، وجدتُه يمدّ يده إلى وجهي، ولكنني لم أتمكن من معرفة ما يمد يده له، فقد غرقتُ في تلك الغيبوبة كما تمنيت. ولكن ظل السؤال عالقا في ذهني، لماذا مدّ الدكتور بكر يده على وجهي قبل أن أنام؟ |