السلام عليكم ^_^ (16) ضغط بهاء على أسنانه ألمًا وهو ينتزع السكين من بين أضلعه وبحركة خاطفة هوى بالسكين على رأس مبارك، ضربه بمقبض السكين وليس برأسها الحاد.. تأوه مبارك وخار أرضا، فقد كانت ضربة بهاء قوية، وهوى بهاء أرضا هو الآخر. وقال مبارك وهو يُمسك رأسه بألم وغل: نعم.. الحقيقة أنا أحقد عليك وعلى والدك، طارق كان معي في نفس الكلية، كلية التجارة، ولكنه كان ذكيا متميزا متفوقا، صادقته لأحصل منه على مصالحي.. استمع بهاء إليه بتركيز رغم صدره الذي يشعر أنه قد تحطم تماما.. وهو يحاول الجلوس والاستناد إلى الحائط الذي خلفه. ومبارك يُكمل بضعف وهو يشعر بدوار في رأسه: أنا أكرهه كثيرا، لقد تزوج امرأة لم تلد له إلا أنت، ولكنه رغم ذلك كان سعيدا، واجه صعوبة شديدة في حياته، ولكنه تخطاها وهو مبتسم، أخبرني كيف؟ كيف كان ناجحا وسعيدا في حياته وليس لديه إلا ابن واحد وزوجة واحدة، كما أن دخله المادي متوسط وشركته الصغيرة تجلب له أرباحا قليلة، أنا ، كنت من أثرى رجال الأعمال، لدي أكثر من شركة تُدر علي أرباحا هائلة، لدي زوجتان تجعلان حياتي جحيما، لدي سبعة من الأولاد لم يعقّوا أحدا مثل ما عقّوني.. أخلاقهم قذرة ولا يصلني عنهم إلا الفضائح، دائما وجهي عبوس بسببهم، لم أستطع أن أفرح من قلبي كثيرا، أما أنت، فوالدك لم يترك ابتسامته ولا هدوئه حتى وأنت هارب من المستشفى.. لم؟ لمَ؟ ضغط بهاء على أسنانه غيظا وألما: لأنك حقير، لا تريد للناس أن يعيشوا بأمان، لأنك مريض نفسي! تحتاج أن تذهب إلى المستشفى. رفع مبارك وجهه وقال بغضب: أنا لن أذهب إلى السجن إلا وقد قتلتك، لأرى أي حزن على وجه طارق، أريد أن أراه حزينا ولو لمرة واحدة. وحاول القيام بانفعال، ولكن بهاء رفع قدمه وهوى بها على رأسه مرة أخرى فخمدت حركته وغاب عن وعيه. أما بهاء فقد أعاد رأسه إلى الخلف ليسندها، وحاول أن يُمسك هاتفه، لم يكن له صبر أن يكتب رقم الشرطة الذي يحفظ، بل اسم: توأم الروح.. ضغطه سريعا ووضعه على أذنه وهو يحاول أن ينظُم تنفسه المنفعل لكيلا يفزع عثمان. "أين أنت يا بهـــــاء؟ أنتظرك منذ مدة عند باب المدرسة" ابتسم بهاء بوهن وهو يُبعد الهاتف قليلا بسبب هذا الصوت العالي، ثم ابتلع ريقه قائلا: آسف يا عثمان على تأخري! لكن.. يبدو أنني لن أستطيع الذهاب. تغير صوت عثمان وهو يسأله بقلق: لماذا؟ ما به صوتك؟ زفر بهاء متأوها ثم قال: عثمان.. أحتاجك بجانبي الآن، لأمر ضروري.. جدا! تعال! أنا في الزقاق الذي يُجانب محل المنظفات.. أسرع أرجوك! وقع قلب عثمان أرضا من لهجة بهاء الجدّية، كما أن صوته المرتعش جعله يطير هلعا إلى ذلك المكان الذي قال عنه بهاء. بعد خمس دقائق وجد بهاء عثمان يدخل عليه مرتعدا، نظر إلى جسد مبارك المٌلقى أرضا وسأله بدهشة: هل هذا.. ما كنتُ تقول عنه أنه ضروري؟ جيد أنك قبضت عليه.. لكن؟ لمَ لمْ تتصل بالشرطة؟ وجاء ليستدير لرؤية بهاء نفسه فاتسعت عيناه مصدوما، اقترب منه في ذعر، وهو يصيح: بهاء.. ما بك؟ لمَ هذا الدم على صدرك؟ أنزل بصره إلى أسفل بهاء فوجد بركة صغيرة من الدم تكونت تحته، التفت بهاء قائلا بصوت مبحوح خافت: لقد غدر بي.. ذلك الوغد! أمسك عثمان يدي بهاء بانهيار دون أن يصدق، قائلا: ماذا.. فعل؟ قال بهاء بصوت قد تحشرج: إنه غبي.. خدعني ثم.. كما ترى! ارتجف عثمان وهو يدور حول نفسه قائلا باضطراب: إنه مجرم.. آآ.. علي الاتصال بالإسعاف فورا.. لا.. بالشرطة أولا.. آآه.. بل بالإسعاف فحالتك خطرة. كانت أصابعه تضغط على الحروف بغير وعي، يراقب بهاء الذي اصفر لونه وتباطأ تنفسه بشدة، لا يدري ما هي الكلمات التي قالها لهم؟ وماذا فعل؟ لقد اتصل بثلاث جهات، الشرطة والإسعاف.. وطارق أيضا! اتصل به ليُخبره أن بهاء يحتاجه بشدة. وكان هذا القول كافيا ليجعل طارق يأتي من عمله على وجه السرعة غير مبالٍ بأي شيء آخر. بعدها مال على بهاء الذي تعرق وجهه، قائلا بهلع: بهاء.. أأنت بخير؟ أآ ماذا أفعل؟ أتحتاج شيئا؟ ابتسم بهاء ابتسامة باهتة وقال وهو يضع يده على كتفه: اهدأ يا عثمان.. اذكر الله! لا تجعل منظر الدماء يٌفزعك هكذا.. فأنت أقوى. هدأ عثمان قليلا ثم انتبه وهو يقول لنفسه: كيف هي الإسعافات الأولية.. كيف...! قال بهاء وهو يأخذ أنفاسه بصعوبة بالغة: أنت هكذا فعلت ما عليك.. لننتظر الإسعاف.. قال عثمان وهو يرتجف خوفا: ولكن.. انظر إلى نفسك.. منظرك.. أنا ...! ابتسم بهاء: لا عليك.. اهدأ فقط. تنهد عثمان وهو يسترجع، ثم قال بعدها مُضطربا: ولكن كيف استطاع طعنك وخداعك؟ تردد بهاء قبل أن يقول: لقد.. خدعني بكلامه عندما قال أنه سيتوب، ويريد أن أسامحه و.. ثم وضع يده على فمه وهو ينحني جانبا، على الفور اقترب منه عثمان صائحا: ما بك؟ وجد قطرات دم تسيل من فمه، لم يتمالك نفسه، ما هذا؟ ماذا يحصل لبهاء؟ لقد كان قبل يوم واحد فقط، يسمر معه ويأكل الحلوى.. كيف أصبح بهذه الحالة المُزرية؟ وشهق عثمان شهقة خافته وهو يتذكر كلاما غريبا، قيل له في طفولته، أن من تقيأ دما، فسوف يموت! ثم شهق شهقة أكبر وقد خطر على باله ذلك الحلم! الجسد الذي تكونت تحته بركة من الدماء...! سحب بهاء من يده صائحا: بهاء. وانتبه له بهاء وهو يحاول مسح الدم من فمه بطرف كمه، قميصه المدرسي الأبيض تحوّل إلى قميص أحمر. تمسك به عثمان جيدا وهو لا يقدر على أن يستوعب!! ماذا يجري لبهاء بالضبط؟ سمع بهاء يقول له هامسا: عثمان، أرجوك اهدأ يا عزيزي. وجد عثمان الدموع تتسلل من مقلتيه رغما عنه وهو يتساءل: هل تخطط للرحيل عنّي يا بهاء؟ هل سترحل عن أعزّ أصدقائك وهو أنا؟ ضحك بهاء ضحكة خفيفة، ثم قال: أيها الوغد.. تبكي لأجل قطرات دم رأيتها؟ لكن عثمان قال من بين دموعه وهو يضم بهاء إليه: ولكنّ الحلم.. الحلم الذي قصصتُ، إنه يتحقق الآن! سكت بهاء بضع ثوان قبل أن يقول بصوت صاف: أتعلم يا عثمان أنني كنت أرى مثل حُلمك! ولكنني كنت أراقب تلك الجثة المضرجة بالدماء من السماء.. آسف أنني كتمتُ عنك هذا الحلم يا صديقي، لم أكن أعلم أنه سيتحقق بهذه السرعة! عثمان لم يزدد إلا بكاء، حينما أيقن بأنه يودّع بهاء الآن! ولكن بهاء كان هادئا، مضى وقت ليس بالقصير على ذلك، عثمان يتمسك في بهاء بطريقة غريبة وكأنه طفل، وبهاء مستسلم وهادئ على شفتيه ابتسامة راضية. شعر عثمان بأصوات ضجة حوله، وأضواء كثيرة اقتربت، شعر بالغربة والوحدة، فازداد في بهاء تمسكا، ولم يشعر.. بل لم يفهم الأصوات التي حوله.. شعر أنه غاب عن الدنيا، لكنه ما زال يرى، وجه بهاء المتبسّم مُغمض العينين وخيط من الدم يتسلل من فيه، الزقاق الكريه الذي رأى فيه صديقه مطعونا. إذن هو يرى.. لكنه لا يفهم! شعر بهزّ غريب على كتفيه، أحدهم يهزّه بقوة، ويهتف باسمه، رفع رأسه بصعوبة له، من؟ "اترك بهاء، اتركه حتى ينقلوه إلى سيارة الإسعاف" كان هذا طارق يهتف بحدّة، انتبه لنفسه فوجد أنه متمسك في بهاء بقوة دون أن يدع مجالا لرجال الإسعاف أن يحملوه! ارتخت يداه من حول جسد بهاء، ورأى بهاء يُحمل على المحفة ثم يُنقل.. بعيدا عن نظره! كان لا يفهم.. مازال.. لم يستوعب! ماذا يجري؟ شعر بيدين قويتين تحملانه وتسندانه حتى يقف، وورائه طارق يقول بقوّة: ما بك يا عثمان؟ استعد قوتك! قف هيا. التفت له عثمان بدهشة وذهول، فوجد طارق، كان وجهه مصفرًّا من شدة القلق على ابنه لكنه كان يحمل في عينيه قوة وثباتًا. سأله طارق: أأنت بخير؟ اتسعت عينا عثمان دهشة، أهناك من يسأله هذا السؤال الآن!؟ أومأ برأسه إيجابا دون أن يدرك معنى السؤال، فإنه لو كان مدركا لقال: لا، فهل هناك شخص ما يجد أحب أصدقائه إليه محمولا إلى الإسعاف ثم يقول إنه بخير؟ ثم سأله مرة أخرى في قلق شديد: أكل هذه الدماء التي على ملابسك.. دماء.. بهاء؟ نظر عثمان بفزع إلى ملابسه، كلها ملوثة، منظرها أصبح مخيفا جدا. أمسك أطرافها بأصابع مرتجفة، ونطق أخيرا: نعم.. كلُها.. لبهاء! شرد طارق بهلع حاول إخفائه في قلبه وهو ينظر إلى مبارك الذي سيق إلى سيارة الشرطة بعنف وقد قُيدت يداه بالأصفاد. هل.. كان ثمن القبض عليك أيها الوغد.. هو دماء ابني؟ ثم انتبه طارق إلى عثمان الذي يراقب سيارة الإسعاف التي أسرعت في طريقها واختفت، أمسكه من ذراعه وقد لاحظ نظرته التائهة المصدومة: عثمان.. إلى سيارتي.. لنتبع سيارة الإسعاف. ركض ورائه دون وعي وعلى الفور انطلقا وراءها، دخلا المستشفى على عجل وقد سقط قلبهما أرضا عندما رأيا سيارة الإسعاف الفارغة، دخلا إلى المستشفى وممراتها.. كان طارق يعرف هذه المستشفى جيدا ولذلك راح يهرول بقلق دون أن ينتبه إلى عثمان الذي ناداه بضعف قائلا: أستاذ.. طارق! التفت له طارق سريعا واتسعت عيناه خوفا عندما شاهد اصفرار وجهه وجبينه المليء بالعرق البارد.. كان يستند إلى جدار ورائه مغمغما في صوت مهتز منخفض: لن أستطيع.. الذهاب معك! سأجلس هنا.. اذهب أنت ثم عٌد وطمأنني! اقترب طارق منه قائلا بقلق: عثمان.. أأنت بخير؟ جلس عثمان على كرسي خشبي قريب وأخفض رأسه متمتما: اذهب يا أستاذ طارق، أسرع إلى بهاء، إنه يحتاج واحدا منّا بجانبه. أنا.. لن أستطيع! زفر طارق بقوة وهو يشعر أن هناك كتلتين هائلتين من الأثقال تتمسك في كتفيه، بهاء وعثمان هما الاثنان ابناه، بهاء حالته أخطر.. سيطمئن عليه أولا ثم يعود لعثمان. وضع يده على كتفه قائلا: آسف يا عثمان.. سأرى بهاء وأعرف آخر أخباره ثم أعود إليك، لا تقم من هذا الكرسي. أومأ عثمان برأسه دون أن يرفعه، وطارق انصرف على وجه السرعة ليبحث عن بهاء، دخل إلى ممر يعرفه، إنه يقود إلى غرفة العمليات العاجلة.. وجده أخيرا وسط مجموعة من الممرضات والأطباء الذين التفوا حول السرير الناقل ذاك، كانوا يقفون أمام غرفة العمليات، وأحد الأطباء يصرخ: أسرعوا بالله عليكم.. الفتى سيموت بين أيدينا، أنهوا تجهيز الغرفة! أسرع طارق بأنفاس متوقفة إلى ذاك السرير، دفع ممرضا كان يقف بجانبه يصبّره ويهون عليه، ألقى طارق نظرة على بهاء الذي كان يأخذ أنفاسه بعُسر شديد ويغمض عينيه بألم، ويروح برأسه يمنة ويسارا على الفراش وهو يكتم العذاب الذي يشعر به.. ويده تقبض على ملاءة السرير بقوة لينفّس فيها من وجعه، حتى أوشكت الملاءة على التمزق من قبضات بهاء ويزفر بين كل لحظة وأخرى بصوت مكتوم: يا رب! قبض طارق بلهفة على يده ثم مال على رأسه يلثمها في حنان وهو يشعر بأن تلك السكين التي طعنت بهاء تطعن قلبه الآن مئة مرة.. لا بل أكثر. شعر بهاء به ففتح عيناه في راحة وقد لاحت في ملامحه المرهقة سعادة بقرب والده. همس له طارق بحزن مشفق: بهاء.. تحمّل يا صغيري، ستنهض بإذن الله وتعود إلي! حاول بهاء الابتسام، فنجح، وغمرت الفرحة قلب طارق لرؤية ابتسامته العذبة وهو في أصعب حالاته. غمغم بهاء بصوت متهالك: أبي.. هل أنتَ راضٍ عنّي أنت وأمي؟ تفاجأ طارق ثم قال بصوتٍ متهدج: طبعا يا بني، نحبك، وراضيان عنك، جعلني الله فداك. ابتسم بهاء: بل جعلني الله أنا فداك. ثم قال برجاء مُنهك: أرجوك أبي اعتنِ بعثمان، فهو مريض بالسكر. أومأ طارق برأسه موافقا بعينين دامعتين، حتى وأنت هكذا يا بهاء تهتم لأخيك عثمان، وجده يُمسك يده الدافئة ويتمسك بها كأنه طفل. أغمض عينيه، وجد طارق يضغط على يديه مواسيا وهمس في أذنه: اصبر بني.. كن قويا.. هيا اذكر الله.. فتح عينيه، أرجوك أبي.. أنا أتألم جدا، قلبي يُسحب مني بعنف، العرق البارد ينتشر على جبيني، أبي.. أليس بإمكانك التخفيف عني كما كنت تفعل دائما؟! .. آآه.. يا رب.! فٌتحت غرفة العمليات وسًحب سرير بهاء على الفور إليها في عجل وممرض يجذبه راكضا، حاول أن يتمسك في أبيه بيده، لكن الممرض نظر لأبيه، فترك طارق يده مرغما رغم نظرات بهاء المتوسلة، حاول أن يُطمئن ابنه فابتسم باطمئنان، تنهد بهاء ثم ابتسم ابتسامة عذبة هو الآخر.. ودّع بها طارق وداعا أخيرا. وكان هذا آخر ما رآه طارق! ابتسامته العذبة. ___ في غرفة العمليات: _توقف النبض يا دكتور.. ماذا نفعل؟ راحوا يحاولون إنقاذه بكل وسيلة، إلا أن بهاء كان يميل رأسه على جنبه اليمين، يبتسم ابتسامة حالمة، ابتسامة شفافة زاهية رغم وجهه الشاحب، حرّك شفتيه دون أن يسمعوا شيئا، ثم.. سكت كل شيء! |