فصل
في هديه صلى الله
عليه وسلم في المنع من التداوي بالمحرمات
روى أبو داود
في سننه
من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" إن الله أنزل الداء والدواء ، وجعل لكل داء دواء ، فتداووا ، ولا تداووا
بالمحرم " .
وذكر البخاري
في صحيحه
عن ابن مسعود : إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم .
وفي السنن : عن
أبي هريرة ، قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدواء الخبيث .
وفي صحيح مسلم
عن طارق بن سويد الجعفي ، أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر ،
فنهاه ، أو كره أن يصنعها ، فقال : إنما
أصنعها للدواء ، فقال : " إنه ليس بدواء ، ولكنه داء " .
وفي السنن
أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الخمر يجعل في الدواء ، فقال : " إنها
داء وليست بالدواء " ، رواه أبو داود ، والترمذي
.
وفي صحيح مسلم
عن طارق بن سويد الحضرمي ، قال : " قلت : يا
رسول الله ! إن بأرضنا أعناباً نعتصرها فنشرب منها ، قال : لا
فراجعته ، قلت : إنا تستشفي للمريض ، قال : إن ذلك ليس بشفاء ولكنه داء " .
وفي سنن النسائي
أن طبيباً ذكر ضفدعاً في دواء عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنهاه عن
قتلها .
ويذكر عنه صلى الله
عليه وسلم أنه قال : " من تداوى بالخمر ، فلا شفاه
الله " .
المعالجة بالمحرمات
قبيحة عقلاً وشرعاً ، أما الشرع فما ذكرنا من هذه الأحاديث وغيرها ، وأما العقل ،
فهو أن الله سبحانه إنما حرمه لخبثه ، فإنه لم يحرم على هذه الأمة طيباً عقوبة لها
، كما حرمه على بني إسرائيل بقوله : " فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم
طيبات أحلت لهم " [ النساء : 160 ] ، وإنما حرم على هذه الأمة ما حرم لخبثه ،
ولحريمه له حمية لهم ، وصيانة عن تناوله ،
فلا يناسب أن يطلب
به الشفاء من الأسقام والعلل ، فإنه وإن أثر في إزالتها ، لكنه يعقب سقماً أعظم
منه في القلب بقوة الخبث الذي فيه ، فيكون المداوى به قد سعى في إزالة سقم البدن
بسقم القلب .
وأيضاً فإن تحريمه
يقتضي تجنبه والبعد عنه بكل طريق ، وفي اتخاذه دواء حض على الترغيب فيه وملابسته ،
وهذا ضد مقصود الشارع ، وأيضاً فإنه داء كما نص عليه صاحب الشريعة ، فلا يجوز أن
يتخذ دواء .
وأيضاً فإنه يكسب
الطبيعة والروح صفة الخبث ، لأن الطبيعة تنفعل عن كيفية الدواء انفعالاً بيناً ،
فإذا كانت كيفيته خبيثة ، اكتسبت الطبيعة منه خبثاً ، فكيف إذا كان خبيثاً في ذاته
، ولهذا حرم الله سبحانه على عباده الأغذية والأشربة والملابس الخبيثة ، لما تكسب
النفس من هيئة الخبث وصفته .
وأيضاً فإن في
إباحة التداوي به ، ولا سيما إذا كانت النفوس تميل إليه ذريعة إلى تناوله للشهوة
واللذة ، لا سيما إذا عرفت النفوس أنه نافع لها مزيل لأسقامها جالب لشفائها ، فهذا
أحب شئ إليها ، والشارع سد الذريعة إلى تناوله بكل ممكن ، ولا ريب أن بين سد
الذريعة إلى تناوله ، وفتح الذريعة إلى تأوله تناقضاً وتعارضاً .
وأيضاً فإن في هذا
الدواء المحرم من الأدواء ما يزيد على ما يظن فيه من الشفاء ، ولنفرض الكلام في أم
الخبائث التي ما جعل الله لنا فيها شفاء قط ، فإنها شديدة المضرة بالدماغ الذي هو
مركز العقل عند الأطباء ، وكثير من الفقهاء والمتكلمين . قال أبقراط في أثناء
كلامه في الأمراض الحادة : ضرر الخمرة بالرأس شديد . لأنه يسرع الإرتفاع إليه . ويرتفع
بارتفاعه الأخلاط التي تعلو في البدن ، وهو كذلك يضر
بالذهن .
وقال صاحب الكامل : إن خاصية الشراب الإضرار بالدماغ والعصب . وأما
غيره من الأدوية المحرمة فنوعان :
أحدهما
: تعافه
النفس ولا تنبعث لمساعدته الطبيعة على دفع المرض به كالسموم ، ولحوم الأفاعي
وغيرها من المستقذرات ، فيبقى كلاً على الطبيعة مثقلاً لها ، فيصير حينئذ داء لا
دواء .
والثاني
: ما لا
تعافه النفس كالشراب الذي تستعمله الحوامل مثلاً ، فهذا ضرره أكثر من نفعه ،
والعقل يقضي بتحريم ذلك ، فالعقل والفطرة مطابق للشرع في ذلك .
وها هنا سر لطيف في
كون المحرمات لا يستشفى بها ، فإن شرط الشفاء بالدواء تلقيه بالقبول ، واعتقاد
منفعته ، وما جعل الله فيه من بركة الشفاء ، فإن النافع هو المبارك ، وأنفع
الأشياء وأبركها ، المبارك من الناس أينما كان هو الذي ينتفع به حيث حل ، ومعلوم أن اعتقاد المسلم تحريم هذه العين
مما يحول بينه وبين اعتقاد بركتها ومنفعتها ، وبين حسن ظنه بها ، وتلقيه طبعه لها
بالقبول ، بل كلما كان العبد أعظم إيماناً ، كان أكره لها وأسوأ اعتقاداً فيها ،
وطبعه أكره شئ لها ، فإذا تناولها في هذه الحال ، كانت داء له لا دواء إلا أن يزول
اعتقاد الخبث فيها ، وسوء الظن والكراهة لها بالمحبة ، وهذا ينافي الإيمان ، فلا
يتناولها المؤمن قط إلا على وجه داء ، والله أعلم
.
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج
القمل الذي في الرأس وإزالته
في الصحيحين
عن كعب بن عجرة ، قال : كان بي أذى من رأسي ، فحملت إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي ، فقال : " ما كنت أرى الجهد قد بلغ بك ما
أرى " ، وفي رواية : فأمره أن يحلق رأسه ، وأن يطعم فرقاً بين ستة ، أو يهدي
شاة ، أو يصوم ثلاثة أيام .
القمل يتولد في
الرأس والبدن من شيئين : خارج عن البدن وداخل فيه ، فالخارج : الوسخ والدنر
المتراكم في سطح الجسد ، والثاني من خلط رديء عفن تدفعه الطبيعة بين الجلد واللحم
، فيتعفن بالرطوبة الدموية في البشرة بعد خروجها من المسام، فيكون منه القمل ،
وأكثر ما يكون ذلك بعد العلل والأسقام ، وبسبب الأوساخ ، وإنما كان في رؤوس
الصبيان أكثر لكثرة رطوباتهم وتعاطيهم الاسباب التي تولد القمل ، ولذلك حلق النبي
صلى الله عليه وسلم رؤوس بني جعفر
.
ومن أكبر علاجه حلق
الرأس لتنفتح مسام الأبخرة ، فتتصاعد الأبخرة الرديئة ، فتضعف مادة الخلط ، ويبنغي
أن يطلى الرأس بعد ذلك بالأدوية التي تقتل القمل ، وتمنع تولده .
وحلق الرأس ثلاثة أنواع : أحدها : نسك وقربة . والثاني : بدعة
وشرك ، والثالث : حاجة ودواء ، فالأول : الحلق في أحد النسكين ، الحج أو
العمرة . والثاني : حلق الرأس لغير الله سبحانه ، كما يحلقها المريدون لشيوخهم ،
فيقول أحدهم : أنا حلقت رأسي لفلان ، وأنت حلقته لفلان ، وهذا بمنزلة أن يقول : سجدت
لفلان ، فإن حلق الرأس خضوع وعبودية وذل ، ولهذا كان من تمام الحج ، حتى إنه عند
الشافعي ركن من أركانه لا يتم إلا به ، فإنه وضع النواصي بين يدي ربها خضوعاً
لعظمته ، وتذللاً لعزته ، وهو من أبلغ أنواع العبودية ، ولهذا كانت العرب إذا
أرادت إذلال الأسير منهم وعتقه ، حلقوا رأسه وأطلقوه ، فجاء شيوخ الضلال ،
والمزاحمون للربوبية الذين أساس مشيختهم على الشرك والبدعة ، فأرادوا من مريديهم
أن يتعبدوا لهم ، فزينوا لهم حلق رؤوسهم لهم ، كما زينوا لهم السجود لهم ، وسموه
بغير اسمه ، وقالوا : هو وضع الرأس بين يدي الشيخ ، ولعمر الله إن السجود لله هو
وضع الرأس بين يديه سبحانه ، وزينوا لهم أن ينذروا لهم ، ويتوبوا لهم ، ويحلفوا
بأسمائهم ، وهذا هو اتخاذهم أرباباً وآلهة من دون الله ، قال تعالى : " ما
كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من
دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون * ولا
يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون "
[ آل عمران : 79 - 80 ] .
وأشرف العبودية
عبودية الصلاة ، وقد تقاسمها الشيوخ والمتشبهون بالعلماء والجبابرة ، فأخذ الشيوخ
منها أشرف ما فيها ، وهو السجود ، وأخذ المتشبهون بالعلماء منها الركوع ، فإذا لقي
بعضهم بعضاً ركع له كما يركع المصلي لربه سواء ، وأخذ الجبابرة منهم القيام ،
فيقوم الأحرار والعبيد على رؤوسهم عبودية لهم ، وهم جلوس ، وقد نهى رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن هذه الأمور الثلاثة على التفصيل ، فتعاطيها . مخالفة صريحة له ،
فنهى عن السجود لغير الله وقال : " لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد " . وأنكر
على معاذ لما سجد له وقال : مه .
وتحريم هذا معلوم
من دينه بالضرورة ، وتجويز من جوزه لغير الله مراغمة لله ورسوله ، وهو من أبلغ
أنواع العبودية ، فإذا جوز هذا المشرك هذا النوع للبشر ، فقد جوز العبودية لغير
الله ، وقد صح أنه قيل له : الرجل يلقى أخاه أينحني له ؟ قال : لا . قيل
: أيلتزمه ويقبله قال : لا . قيل : أيصافحه ؟
قال : نعم .
وأيضاً : فالإنحناء
عند التحية سجود ، ومنه قوله تعالى : " وادخلوا الباب سجدا " [ البقرة :
58 ] أي منحنين ، وإلا فلا يمكن الدخول على الجباه ، وصح عنه النهي عن القيام ،
وهو جالس ، كما تعظم الأعاجم بعضها بعضاً ، حتى منع من ذلك في الصلاة ، وأمرهم إذا
صلى جالساً أن يصلوا جلوساً ، وهم أصحاء لا عذر لهم ، لئلا يقوموا على رأسه وهو
جالس ، مع أن قيامهم لله ، فكيف إذا كان القيام تعظيماً وعبودية لغيره سبحانه .
والمقصود : أن
النفوس الجاهلة الضالة أسقطت عبودية الله سبحانه ، وأشركت فيها من تعظمه من الخلق
، فسجدت لغير الله ، وركعت له ، وقامت بين يديه قيام الصلاة ، وحلفت بغيره ، ونذرت
لغيره ، وحلقت لغيره ، وذبحت لغيره ، وطافت لغير بيته ، وعظمته بالحب ، والخوف ،
والرجاء ، والطاعة ، كما يعظم الخالق ، بل أشد ، وسوت من تعبده من المخلوقين برب
العالمين ، وهؤلاء هم المضادون لدعوة الرسل ، وهم الذين بربهم يعدلون ، وهم الذين
يقولون - وهم في النار مع آلهتهم يختصمون - :
" تالله إن كنا لفي ضلال مبين * إذ نسويكم برب العالمين " [ الشعراء
: 98 ] . وهم الذين قال فيهم : " ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا
يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله " [ البقرة : 165 ] ، وهذا كله من
الشرك ، والله لا يغفر أن يشرك به . فهذا فصل معترض في هديه في حلق الرأس ، ولعله أهم مما قصد الكلام فيه ،
والله الموفق .
فصل
فصول في هديه صلى
الله عليه وسلم في العلاج بالأدوية الروحانية الإلهية المفردة ،
والمركبة منها ، ومن الأدوية الطبيعية
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج
المصاب بالعين
روى مسلم في صحيحه
عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " العين حق
ولو كان شئ سابق القدر ، لسبقته العين
" .
وفي صحيحه
أيضاً عن أنس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في الرقية من الحمة والعين
والنملة .
وفي الصحيحين
من حديث أبى هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " العين
حق " .
وفي سنن أبي داود
عن عائشة رضى الله عنها قالت : كان يؤمر العائن فيتوضأ ، ثم يغتسل منه
المعين .
وفي الصحيحين
عن عائشة قالت : أمرني النبي صلى الله عليه وسلم ، أو أمر أن نسترقي من
العين .
وذكر الترمذي ، من
حديث سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عروة بن عامر ، عن عبيد بن رفاعة
الزرقي ، أن أسماء بنت عميس ، قالت : يا رسول الله ! إن بني جعفر تصيبهم العين
أفأسترقي لهم ؟ فقال : " نعم فلو كان شئ يسبق القضاء لسبقته العين " قال
الترمذي : حديث حسن صحيح .
وروى مالك رحمه
الله : عن ابن شهاب ، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف ، قال : " رأى عامر بن
ربيعة سهل بن حنيف يغتسل ، فقال : والله ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة ! قال : فلبط
سهل ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم عامراً ، فتغيظ عليه وقال : علام يقتل أحدكم أخاه ألا بركت اغتسل له ، فغسل له عامر وجهه ويديه ، ومرفقيه وركبتيه ،
وأطراف رجليه ، وداخلة إزاره في قدح ، ثم صب عليه ، فراح مع الناس " .
وروى مالك رحمه
الله أيضاً عن محمد بن أبي أمامة بن سهل ، عن أبيه هذا الحديث ، وقال فيه : "
إن العين حق ، توضأ له " . فتوضأ له
.
وذكر عبد الرزاق ،
عن معمر ، عن ابن طاووس ، عن أبيه مرفوعاً " العين حق ، ولو كان شيء سابق
القدر ، لسبقته العين ، وإذا استغسل أحدكم ، فليغتسل " ووصله صحيح .
قال الزهري : يؤمر
الرجل العائن بقدح ، فيدخل كفه فيه ، فيتمضمض ، ثم يمجه في القدح ، ويغسل وجهه في
القدح ، ثم يدخل يده اليسرى ، فيصب على ركبته اليمنى في القدح ، ثم يدخل يده
اليمنى ، فيصب على ركبته اليسرى ، ثم يغسل داخلة إزاره ، ولا يوضع القدح في الأرض
، ثم يصب على رأس الرجل الذي تصيبه العين من خلفه صبة واحدة .
والعين : عينان : عين
إنسية ، وعين جنية ، فقد صح عن أم سلمة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في
بيتها جارية في وجهها سفعة ، فقال : " استرقوا لها ، فإن بها النظرة " .
قال الحسين بن
مسعود الفراء : وقوله : سفعة . أي نظرة ، يعني : من
الجن ، يقول : بها عين أصابتها من نظر الجن أنفذ من أسنة الرماح .
ويذكر عن جابر يرفعه : " إن العين لتدخل الرجل القبر ، والجمل القدر " .
وعن أبي سعيد ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من الجان ، ومن
عين الإنسان .
فأبطلت طائفة ممن
قل نصيبهم من السمع والعقل أمر العين ، وقالوا : إنما
ذلك أوهام لا حقيقة له ، وهؤلاء من أجهل الناس بالسمع والعقل ، ومن أغلظهم حجاباً
، وأكثفهم طباعاً ، وأبعدهم معرفة عن الأرواح والنفوس . وصفاتها وأفعالها وتأثيراتها ، وعقلاء الأمم على اختلاف مللهم ونحلهم لا تدفع
أمر العين ، ولا تنكره ، وإن اختلفوا في سببه وجهة تأثير العين .
فقالت طائفة : إن
العائن إذا تكيفت نفسه بالكيفية الرديئة ، انبعث من عينه قوة سمية تتصل بالمعين ،
فيتضرر . قالوا : ولا يستنكر هذا ، كما لا يستنكر انبعاث قوة سمية من الأفعى تتصل
بالإنسان ، فيهلك ، وهذا أمر قد اشتهر عن نوع من الأفاعي أنها إذا وقع بصرها على
الإنسان هلك ، فكذلك العائن .
وقالت فرقة أخرى : لا يستبعد أن ينبعث من عين بعض الناس جواهر لطيفة غير
مرئية ، فتتصل بالمعين ، وتتخلل مسام جسمه ، فيحصل له الضرر .
وقالت فرقة أخرى : قد
أجرى الله العادة بخلق ما يشاء من الضرر عند مقابلة عين العائن لمن يعينه من غير
أن يكون منه قوة ولا سبب ولا تأثير أصلاً ، وهذا مذهب منكري الأسباب والقوى
والتأثيرات في العالم ، وهؤلاء قد سدوا على أنفسهم باب العلل والتأثيرات والأسباب
، وخالفوا العقلاء أجمعين .
ولا ريب أن الله
سبحانه خلق في الأجسام والأرواح قوى وطبائع مختلفة ، وجعل في كثير منها خواص
وكيفيات مؤثرة ، ولا يمكن لعاقل إنكار تأثير الأرواح في الأجسام ، فإنه أمر مشاهد
محسوس ، وأنت ترى الوجه كيف يحمر حمرة شديدة إذا نظر إليه من يحتشمه ويستحي منه ،
ويصفر صفرة شديدة عند نظر من يخافه إليه ، وقد شاهد الناس من يسقم من النظر وتضعف
قواه ، وهذا كله بواسطة تأثير الأرواح ، ولشدة ارتباطها بالعين ينسب الفعل إليها ،
وليست هي الفاعلة ، وإنما التأثير للروح ، والأرواح مختلفة في طبائعها وقواها
وكيفياتها وخواصها ، فروح الحاسد مؤذية للمحسود أذى بيناً ، ولهذا أمر الله - سبحانه
- رسوله أن يستعيذ به من شره ، وتأثير الحاسد في أذى المحسود أمر لا ينكره إلا من
هو خارج عن حقيقة الإنسانية ، وهو أصل الإصابة بالعين ، فإن النفس الخبيثة الحاسدة
تتكيف بكيفية خبيثة ، وتقابل المحسود ،
فتؤثر فيه بتلك الخاصية ، وأشبه الأشياء بهذا الأفعى ، فإن السم كامن فيها بالقوة
، فإذا قابلت عدوها ، انبعثت منها
قوة غضبية ، وتكيفت
بكيفية خبيثة مؤذية ، فمنها ما تشد كيفيتها وتقوى حتى تؤثر في إسقاط الجنين ،
ومنها ما تؤثر في طمس البصر ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الأبتر ، وذي
الطفيتين من الحيات : " إنهما يلتمسان البصر ، ويسقطان الحبل " .
ومنها ، ما تؤثر في
الإنسان كيفيتها بمجرد الرؤية من غير اتصال به ، لشدة خبث تلك النفس ، وكيفيتها
الخبيثة المؤثرة ، والتأثير غير موقوف على الإتصالات الجسمية ، كما يظنه من قل
علمه ومعرفته بالطبيعة والشريعة ، بل التأثير يكون تارة بالإتصال ، وتارة
بالمقابلة ، وتارة بالرؤية ، وتارة بتوجه الروح نحو من يؤثر فيه ، وتارة بالأدعية
والرقى والتعوذات ، وتارة بالوهم والتخيل ، ونفس العائن لا يتوقف تأثيرها على
الرؤية ، بل قد يكون أعمى ، فيوصف له الشئ ، فتؤثر نفسه فيه ، وإن لم يره ، وكثير
من العائنين يؤثر في المعين بالوصف من غير رؤية ، وقد قال تعالى لنبيه : " وإن
يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر " [ القلم : 51 ] . وقال
: " قل أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق * ومن شر غاسق إذا وقب * ومن شر
النفاثات في العقد * ومن شر حاسد إذا حسد " ، فكل عائن حاسد ، وليس كل حاسد
عائناً ، فلما كان الحاسد أعم من العائن ، كانت الإستعاذة منه استعاذة من العائن ،
وهي سهام تخرج من نفس الحاسد والعائن نحو المحسود والمعين تصيبه تارة وتخطئه تارة
، فإن صادفته مكشوفاً لا وقاية عليه ، أثرت فيه ، ولا بد ، وإن صادفته حذراً شاكي
السلاح لا منفذ فيه للسهام ، لم تؤثر فيه ، وربما ردت السهام على صاحبها ، وهذا
بمثابة الرمي الحسي سواء ، فهذا من النفوس والأرواح ، وذلك من الأجسام والأشباح . وأصله
من إعجاب العائن بالشئ ، ثم تتبعه كيفية نفسه الخبيثة ، ثم تستعين على تنفيذ سمها
بنظرة إلى المعين ، وقد يعين الرجل نفسه ، وقد يعين بغير إرادته ، بل بطبعه ، وهذا
أردأ ما يكون من النوع الإنساني ، وقد قال أصحابنا وغيرهم من الفقهاء : إن من عرف
بذلك ، حبسه الإمام ، وأجرى له ما ينفق عليه إلى الموت ، وهذا هو الصواب قطعاً .
فصل
والمقصود : العلاج
النبوي لهذه العلة ، وهو أنواع ، وقد روى أبو داود في سننه
عن سهل بن حنيف ، قال : مررنا بسيل ، فدخلت ، فاغتسلت فيه ، فخرجت محموماً
، فنمي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " مروا أبا ثابت
يتعوذ ، قال : فقلت : يا سيدي ! والرقى صالحة ؟ فقال :
لا رقية إلا في نفس ، أو حمة أو لدغة
" .
والنفس : العين ،
يقال : أصابت فلاناً نفس ، أي : عين . والنافس : العائن . واللدغة - بدال مهملة
وغين معجمة - وهي ضربة العقرب ونحوها
.
فمن التعوذات
والرقى الإكثار من قراءة المعوذتين ، وفاتحة الكتاب ، وآية الكرسي ، ومنها
التعوذات النبوية .
نحو
: أعوذ
بكلمات الله التامات من شر ما خلق
.
ونحو : أعوذ بكلمات
الله التامة من كل شيطان وهامة ، ومن كل عين لامة
.
ونحو : أعوذ بكلمات
الله التامات التي لا يجاورهن بر ولا فاجر ، من شر ما خلق وذرأ وبرأ ، ومن شر ما
ينزل من السماء ، ومن شر ما يعرج فيها ، ومن شر ما ذرأ في الأرض ، ومن شر ما يخرج
منها ، ومن شر فتن الليل ، والنهار ، ومن شر طوارق الليل إلا طارقاً يطرق بخير يا
رحمن .
ومنها : أعوذ
بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه ، ومن شر عباده ، ومن همزات الشياطين وأن
يحضرون .
ومنها : اللهم إني
أعوذ بوجهك الكريم ، وكلماتك التامات من شر ما أنت آخذ بناصيته ، اللهم أنت تكشف
المأثم والمغرم ، اللهم إنه لا يهزم جندك ، ولا يخلف وعدك ، سبحانك وبحمدك .
ومنها : أعوذ بوجه
الله العظيم الذي لا شئ أعظم منه ، وبكلماته التامات التي لا يجاورهن بر لا فاجر ،
وأسماء الله الحسنى ، ما علمت منها وما لم أعلم ، من شر ما خلق وذرأ وبرأ ، ومن شر
كل ذي شر لا أطيق شره ، ومن شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته ، إن ربي على صراط مستقيم .
ومنها : اللهم أنت
ربي لا إله إلا أنت ، عليك توكلت ، وأنت رب العرش العظيم ، ما شاء الله كان ، وما
لم يشأ لم يكن ، لا حول ولا قوة إلا بالله ، أعلم أن الله على كل شئ قدير ، وأن
الله قد أحاط بكل شئ علماً ، وأحصى كل شئ عدداً ، اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي ،
وشر الشيطان وشركه ، ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها ، إن ربي على صراط مستقيم .
وإن شاء قال : تحصنت
بالله الذي لا إله إلا هو ، إلهي وإله كل شئ ، واعتصمت بربي ورب كل شئ ، وتوكلت
على الحي الذي لا يموت ، واستدفعت الشر بلا حول ولا قوة إلا بالله ، حسبي الله
ونعم الوكيل ، حسبي الرب من العباد ، حسبي الخالق من المخلوق ، حسبي الرازق من
المرزوق ، حسبي الذي هو حسبي ، حسبي الذي بيده ملكوت كل شئ ، وهو يجير ولا يجار
عليه ،
حسبي الله وكفى ، سمع الله لمن دعا ، ليس وراء الله مرمى ، حسبي الله لا
إله إلا هو ، عليه توكلت ، وهو رب العرش العظيم
.
ومن جرب هذه
الدعوات والعوذ ، عرف مقدار منفعتها ، وشدة الحاجة إليها ، وهي تمنع وصول أثر
العائن ، وتدفعه بعد وصوله بحسب قوة إيمان قائلها ، وقوة نفسه ، واستعداده ، وقوة
توكله وثبات قلبه ، فإنها سلاح ، والسلاح بضاربه
.
فصل
وإذا كان العائن
يخشى ضرر عينه وإصابتها للمعين ، فليدفع شرها بقوله : اللهم بارك عليه ، كما قال
النبي صلى الله عليه وسلم لعامر بن ربيعة لما عان سهل بن حنيف : " ألا بركت "
أي : قلت : اللهم بارك عليه .
ومما يدفع به إصابة
العين قول : ما شاء الله لا قوة إلا بالله ، روى هشام بن عروة ، عن أبيه ، أنه كان
إذا رأى شيئاً يعجبه ، أو دخل حائطاً من حيطانه قال : ما شاء الله ، لا قوة إلا
بالله .
ومنها رقية جبريل
عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم التي رواها مسلم في صحيحه "
باسم الله أرقيك ، من كل شئ يؤذيك ، من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك ، باسم
الله أرقيك " .
ورأى جماعة من
السلف أن تكتب له الآيات من القرآن ، ثم يشربها . قال
مجاهد : لا بأس أن يكتب القرآن ، ويغسله ، ويسقيه المريض ، ومثله عن أبي قلابة . ويذكر
عن ابن عباس : أنه أمر أن يكتب لامرأة تعسر عليها ولادها أثر من القرآن ، ثم يغسل
وتسقى . وقال أيوب : رأيت أبا قلابة كتب كتاباً من القرآن ، ثم غسله بماء ، وسقاه
رجلاً كان به وجع .
فصل
ومنها : أن يؤمر
العائن بغسل مغابنه وأطرافه وداخلة إزاره ، وفيه قولان . أحدهما : أنه فرجه . والثاني
: أنه طرف إزاره الداخل الذي يلي جسده من الجانب الأيمن ، ثم يصب على رأس المعين
من خلفه بغتة ، وهذا مما لا يناله علاج الأطباء ، ولا ينتفع به من أنكره ، أو سخر
منه ، أو شك فيه ، أو فعله مجرباً لا يعتقد أن ذلك ينفعه
.
وإذا كان في
الطبيعة خواص لا تعرف الأطباء عللها البتة ، بل هي عندهم خارجة عن قياس الطبيعة
تفعل بالخاصية ، فما الذي ينكره زنادقتهم وجهلتهم من الخواص الشرعية ، هذا مع أن
في المعالجة بهذا الإستغسال ما تشهد له العقول الصحيحة ، وتقر لمناسبته ، فاعلم أن
ترياق سم الحية في لحمها ، وأن علاج تأثير النفس الغضبية في تسكين غضبها ، وإطفاء
ناره بوضع يدك عليه ، والمسح عليه ، وتسكين غضبه ، وذلك بمنزلة رجل معه شعلة من
نار ، وقد أراد أن يقذفك بها ، فصببت عليها الماء ، وهي في يده حتى طفئت ، ولذلك
أمر العائن أن يقول : اللهم بارك
عليه ليدفع تلك الكيفية الخبيثة بالدعاء
الذي هو إحسان إلى المعين ، فإن دواء الشئ بضده . ولما كانت هذه الكيفية الخبيثة تظهر
في المواضع الرقيقة من الجسد ، لأنها تطلب النفوذ ، فلا تجد أرق من المغابن ،
وداخلة الإزار ، ولا سيما إن كان كناية عن الفرج ، فإذا غسلت بالماء ، بطل تأثيرها
وعملها ، وأيضاً فهذه المواضع للأرواح الشيطانية بها اختصاص .
والمقصود : أن
غسلها بالماء يطفئ تلك النارية ، ويذهب بتلك السمية
.
وفيه أمر آخر ، وهو
وصول أثر الغسل إلى القلب من أرق المواضع وأسرعها تنفيذاً ، فيطفئ تلك النارية
والسمية بالماء ، فيشفى المعين ، وهذا كما أن ذوات السموم إذا قتلت بعد لسعها ، خف
أثر اللسعة عن الملسوع ، ووجد راحة ، فإن أنفسها تمد أذاها بعد لسعها ، وتوصله إلى
الملسوع . فإذا قتلت ، خف الألم ، وهذا مشاهد . وإن كان من أسبابه فرح الملسوع ،
واشتفاء نفسه بقتل عدوه ، فتقوى الطبيعة على الألم ، فتدفعه .
وبالجملة : غسل
العائن يذهب تلك الكيفية التي ظهرت منه ، وإنما ينفع غسله عند تكيف نفسه بتلك
الكيفية .
فإن قيل : فقد ظهرت مناسبة الغسل ، فما مناسبة صب ذلك الماء على
المعين ؟ قيل : هو في غاية المناسبة ، فإن ذلك الماء ماء طفئ به تلك النارية ،
وأبطل تلك الكيفية الرديئة من الفاعل ، فكما طفئت به النارية القائمة بالفاعل طفئت
به ، وأبطلت عن المحل المتأثر بعد ملابسته للمؤثر العائن ، والماء الذي يطفأ به
الحديد يدخل في أدوية عدة طبيعية ذكرها الأطباء ، فهذا الذي طفئ به
نارية العائن ، لا
يستنكر أن يدخل في دواء يناسب هذا الداء . وبالجملة : فطب الطبائعية وعلاجهم
بالنسبة إلى العلاج النبوي ، كطب الطرقية بالنسبة إلى طبهم ، بل أقل ، فإن التفاوت
الذي بينهم وبين الأنبياء أعظم ، وأعظم من التفاوت الذي بينهم وبين الطرقية بما لا
يدرك الإنسان مقدراه ، فقد ظهر لك عقد الإخاء الذي بين الحكمة والشرع ، وعدم
مناقضة أحدهما للآخر ، والله يهدي من يشاء إلى الصواب ، ويفتح لمن أدام قرع باب
التوفيق منه كل باب ، وله النعمة السابغة ، والحجة البالغة .
فصل
ومن علاج ذلك أيضاً
والإحتراز منه ستر محاسن من يخاف عليه العين بما يردها عنه ، كما ذكر البغوي في
كتاب شرح السنة : أن عثمان رضي الله عنه رأى صبياً مليحاً ،
فقال : دسموا نونته ، لئلا تصيبه العين ، ثم قال في تفسيره : ومعنى : دسموا
نونته : أي : سودوا
نونته ، والنونة : النقرة التي تكون في ذقن الصبي الصغير
.
وقال الخطابي
في غريب الحديث له عن عثمان : إنه رأى صبياً تأخذه العين ،
فقال : دسموا نونته . فقال أبو عمرو : سألت أحمد بن يحيى عنه ، فقال : أراد
بالنونة : النقرة التي في ذقنه . والتدسيم : التسويد . أراد
: سودوا ذلك الموضع من ذقنه ، ليرد العين . قال : ومن
هذا حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم ، وعلى رأسه عمامة
دسماء . أي : سوداء . أراد الإستشهاد على
اللفظة ، ومن هذا أخذ الشاعر قوله
:
ما كان أحوج ذا
الكمال إلى
عيـــب يـوقيــه مـن العين
فصل
ومن الرقى التي ترد
العين ما ذكر عن أبي عبد الله الساجي ، أنه كان في بعض أسفاره للحج أو الغزو على
ناقة فارهة ، وكان في الرفقة رجل عائن ، قلما نظر إلى شئ إلا أتلفه ، فقيل لأبي عبد
الله : إحفظ ناقتك من العائن ، فقال : ليس له إلى ناقتي سبيل ، فأخبر العائن بقوله
، فتحين غيبة أبي عبد الله ، فجاء إلى رحله ، فنظر إلى الناقة ، فاضطربت وسقطت ،
فجاء أبو عبد الله ، فأخبر أن العائن قد عانها ، وهي كما ترى ، فقال : دلوني عليه
، فدل ، فوقف عليه ، وقال : بسم الله ، حبس حابس ، وحجر يابس ، وشهاب قابس ، رددت
عين العائن عليه ، وعلى أحب الناس إليه ، " فارجع البصر هل ترى من فطور * ثم
ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير " [ الملك : 3 ، 4 ] فخرجت
حدقتا العائن ، وقامت الناقة لا بأس بها
.
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في العلاج
العام لكل شكوى بالرقية الإلهية
روى أبو داود
في سننه
من حديث أبي الدرداء ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
" من اشتكى منكم شيئاً ، أو اشتكاه أخ له فليقل : ربنا الله الذي في السماء ،
تقدس اسمك ، أمرك في السماء والأرض كما رحمتك في السماء ، فاجعل رحمتك في الأرض ،
واغفر لنا حوبنا وخطايانا أنت رب الطيبين ، أنزل رحمة من رحمتك ، وشفاء من شفائك
على هذا الوجع ، فيبرأ بإذن الله
" .
وفي صحيح مسلم
عن أبي سعيد الخدري ، " أن جبريل - عليه السلام - أتى النبي صلى الله
عليه وسلم فقال : يا محمد ! أشتكيت ؟ فقال :
نعم ، فقال جبريل - عليه السلام -
: باسم الله أرقيك من كل شئ يؤذيك من شر
كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك باسم الله أرقيك
" .
فإن قيل : فما
تقولون في الحديث الذي رواه أبو داود : " لا رقية إلا من عين ، أو حمة ، . .
" والحمة : ذوات السموم كلها
.
فالجواب أنه صلى
الله عليه وسلم لم يرد به نفي جواز الرقية في غيرها ، بل المراد به : لا رقية أولى
وأنفع منها في العين والحمة ، ويدل عليه سياق الحديث ، فإن سهل بن حنيف قال له لما
أصابته العين : أوفي الرقى خير ؟ فقال : " لا رقية إلا في نقس أو حمة " ويدل
عليه سائر أحاديث الرقى العامة والخاصة ، وقد روى أبو داود من حديث أنس قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا رقية إلا من عين أو حمة أو دم يرقأ " .
وفي صحيح مسلم
عنه أيضاً : رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرقية من العين والحمة
والنملة .
فصل
في هديه صلى الله
عليه وسلم في رقية اللديغ بالفاتحة
أخرجا في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري ، قال : انطلق نفر من
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في سفرة سافروها حتى نزلوا على حي من أحياء العرب
، فاستضافوهم ، فأبوا أن يضيفوهم ، فلدغ سيد ذلك الحي ، فسعوا له بكل شئ لا ينفعه
شئ ، فقال بعضهم : لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا لعلهم أن يكون عند بعضهم شئ ،
فأتوهم ، فقالوا : يا أيها الرهط ! إن
سيدنا لدغ ، وسعينا له بكل شئ لا ينفعه ، فهل عند أحد منكم من شئ ؟ فقال بعضهم : نعم
والله إني لأرقي ، ولكن استضفناكم ، فلم تضيفونا ، فما أنا براق حتى تجعلوا لنا
جعلاً ، فصالحوهم على قطيع من الغنم ، فانطلق يتفل عليه ، ويقرأ : الحمد لله رب
العالمين ، فكأنما أنشط من عقال ، فانطلق يمشي وما به قلبة ، قال : فأوفوهم جعلهم
الذي صالحوهم عليه ، فقال بعضهم : اقتسموا ، فقال الذي رقى : لا تفعلوا حتى نأتي
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنذكر له الذي كان ، فننظر ما يأمرنا ، فقدموا على
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكروا له ذلك ، فقال : " وما يدريك أنها
رقية ؟ ، ثم قال : قد أصبتم ، اقسموا واضربوا لي معكم سهماً " .
وقد روى ابن ماجه
في سننه
من حديث علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خير الدواء
القرآن " .
ومن المعلوم أن بعض
الكلام له خواص ومنافع مجربة ، فما الظن بكلام رب العالمين ، الذي فضله على كل
كلام كفضل الله على خلقه الذي هو الشفاء التام ، والعصمة النافعة ، والنور الهادي
، والرحمة العامة ، الذي لو أنزل على جبل لتصدع من عظمته وجلالته . قال تعالى : " وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة
للمؤمنين " [ الإسراء : 82 ] ، و
من ها هنا لبيان الجنس لا للتبعيض
، هذا أصح القولين ، كقوله تعالى : " وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات
منهم مغفرة وأجرا عظيما " [ الفتح : 129 ] وكلهم من الذين آمنوا وعملوا
الصالحات ، فما الظن بفاتحة الكتاب التي لم ينزل في القرآن ، ولا في التوراة ، ولا
في الإنجيل ، ولا في الزبور مثلها ، المتضمنة لجميع معاني كتب الله ، المشتملة على
ذكر أصول أسماء الرب - تعالى - ومجامعها ، وهي الله ، والرب ، والرحمن ، وإثبات
المعاد ، وذكر التوحيدين : توحيد الربوبية ، وتوحيد الإلهية ، وذكر الإفتقار إلى
الرب سبحانه في طلب الإعانة وطلب الهداية ، وتخصيصه سبحانه بذلك ، وذكر أفضل
الدعاء على الإطلاق وأنفعه وأفرضه ، وما العباد أحوج شئ إليه ، وهو الهداية إلى
صراطه المستقيم ، المتضمن كمال معرفته وتوحيده وعبادته - بفعل ما أمر به ، واجتناب
ما نهى عنه ، والإستقامة عليه إلى الممات ، ويتضمن ذكر أصناف الخلائق وانقسامهم
إلى منعم عليه بمعرفة الحق ، والعمل به ، ومحبته ، وإيثاره ، ومغضوب عليه بعدوله
عن الحق بعد معرفته له ، وضال بعدم معرفته له . وهؤلاء أقسام الخليقة مع تضمنها
لإثبات القدر ، والشرع، والأسماء، والصفات ، والمعاد ، والنبوات ، وتزكية النفوس ،
وإصلاح القلوب ، وذكر عدل الله وإحسانه ، والرد على جميع أهل البدع والباطل ، كما ذكرنا ذلك في كتابنا الكبير مدارج السالكين في شرحها . وحقيق بسورة هذا بعض شأنها ، أن
يستشفى بها من الأدواء ، ويرقى بها اللديغ
.
وبالجملة فما
تضمنته الفاتحة من إخلاص العبودية والثناء على الله ، وتفويض الأمر كله إليه ،
والإستعانة به ، والتوكل عليه ، وسؤاله مجامع النعم كلها ، وهي الهداية التي تجلب
النعم ، وتدفع النقم ، من أعظم الأدوية الشافية الكافية
.
وقد قيل : إن موضع
الرقية منها : " إياك نعبد وإياك نستعين " ، ولا ريب أن هاتين الكلمتين
من أقوى أجزاء هذا الدواء ، فإن فيهما من عموم التفويض والتوكل ، والإلتجاء
والإستعانة ، والإفتقار والطلب ، والجمع بين أعلى الغايات ، وهي عبادة الرب وحده ، وأشرف الوسائل وهي الإستعانة به على
عبادته ما ليس في غيرها ، ولقد مر بي وقت بمكة سقمت فيه ، وفقدت الطبيب والدواء ،
فكنت أتعالج بها ، آخذ شربة من ماء زمزم ، وأقرؤها عليها مراراً ، ثم أشربه ،
فوجدت بذلك البرء التام ، ثم صرت أعتمد ذلك عند كثير من الأوجاع ، فأنتفع بها غاية
الإنتفاع .
فصل
وفي تأثير الرقى
بالفاتحة وغيرها في علاج ذوات السموم سر بديع ، فإن ذوات السموم أثرت بكيفيات
نفوسها الخبيثة ، كما تقدم ، وسلاحها
حماتها التي تلدغ بها ، وهي لا تلدغ حتى تغضب ، فإذا غضبت ، ثار فيها السم ،
فتقذفه بآلتها ، وقد جعل الله سبحانه لكل داء دواء ، ولكل شئ ضداً ، ونفس الراقي
تفعل في نفس المرقي ، فيقع بين نفسيهما فعل وانفعال ، كما يقع بين الداء ، والدواء
، فتقوى نفس الراقي وقوته بالرقية على ذلك الداء ، فيدفعه بإذن الله ، ومدار تأثير
الأدوية والأدواء على الفعل والإنفعال ، وهو كما يقع بين الداء والدواء الطبيعيين
، يقع بين الداء والدواء الروحانيين ، والروحاني ، والطبيعي ، وفي النفث والتفل
استعانة بتلك الرطوبة والهواء ، والنفس المباشر للرقية ، والذكر والدعاء ، فإن
الرقية تخرج من قلب الراقي وفمه ، فإذا صاحبها شئ من أجزاء باطنه من