السلام عليكم ورحمة الله أقدّم لكم الفصل التاسع.. وضعته بعد الفجر مباشرة حتى أضمن ألا يحدث أي تأخير آخر فصل في رمضان، الفصلان القادمان إن شاء الله سأجمعهمها لأضعهما في يوم واحد وهو يوم العيد لتكون عيدية مميزة لا تقلقوا لم أجعل فصل اليوم مشوقا حتى تستطيعوا تحمّل أسبوعين بسهولة >أحاول أن أثبت أني لست شريرة ههههه أظن أن فصل اليوم سيعجب رين كثيرًا فياسر موجود في كل فقراته XD رواية عيون لا ترحم [9] اعتذار! -1- [باسل] كنا نجلس أنا وبراءة في صالة المعيشة على أريكة واحدة، أضعها في حجري وأمامنا مجلة كبيرة تحتوي قصة أطفال، كنتُ أقرأها لها بهدوء وحنان وبصوت عالٍ حيوي متأثر بأحداث القصة، وهي تقاطعني بين الحين والآخر بواحدة من أسئلتها العجيبة التي تجعلني أضحك وأتوقف قليلًا أبحث عن إجابة مناسبة لسنّها ثم أكمل القصّة. نزلتْ دانة من غرفتها ووقفت على السلّم تتطلع إلينا في صمت فلوّحت لها براءة هاتفة: دانة.. تعاليْ اسمعي قصة باسل! ثم قالت بانفعال: الثعلب شرير جدا يا دانة. شرير..! ضحكت مجددا على حماسها الطفوليّ، لكن دانة لم تردّ على براءة وإنما رمقتني بنظرة باردة تعبّر عن استيائها الشديد منّي. زفرتُ بحرارة وأنا أراقبها تكمل نزولها وتأتي لتجلس بجانبنا على الأريكة ثم تأخذ مجلّة أخرى مصوّرة من مكتبة صغيرة أنيقة مُعلّقة في صالة المعيشة، إنها تجتنبني منذ ذلك الوقت. أتذكرون؟ عندما تسممتُ بسبب الكعك الذي رشّت عليه المبيد الحشري قاصدة قمر! وتذكرتُ حينها ما حدث بعد عودتنا من المستشفى، ففي اليوم التالي طلب مني أبي النزول إلى مكتبه، نعم، فليست قمر وحدها التي يطلب أبي قدومها إلى مكتبه ليتحدث معها عندما تصنع مشكلة! ففي الواقع أبي يحب جدا طريقة الحوار الهادئ مع كل شخص فينا يُثير أي مشكلة في المنزل، وبعد الحوار يقرر هو العقاب المناسب.. وإن كانت المشكلة تتجاوز طرفين فيجب أولَّا أن يتكلم مع الطرفين حتى يستطيع الحكم عليهما. أظن أن أبي له طريقة مميزة في معالجة الأمور وهذا بسبب كونه رجل أعمال.. وبصراحة هذه الطريقة تروق لي في كثير من الأحيان. إذ يمكنني إخبار أبي بكثير من الحقائق التي لا أرغب لدانة وأمي أن يعرفوا عنها شيئًا. جلستُ أمام أبي في مكتبه وهو يبتسم لي قائلًا: والآن يا باسل.. أخبرني ما حدث حقا! هل تناولت مبيدًا حشريًّا بالفعل؟ لا أظنّ أنك بهذه الحماقة لتجرّب شيئًا كهذا.. صحيح؟ أطرقتُ برأسي بهدوء وأنا أفكّر بعمق، هل أخبر أبي كل شيء؟ أبي يعلم جيدا مقدار كره دانة لقمر، ويعلم أنها دومًا ما تحاول صنع المقالب التي تحتوي على كثير من الأحيان أذىً لقمر! وكم حدثت مشاكل في السابق بسبب هذا الأمر، لكن قمر من النوع التي لا تحب أبدًا أن تشتكي من دانة لأبي، وتأخذ حقها بنفسها أو.. لا تأخذه أبدًا وكأن الأمر لا يعنيها! هذه المرّة لم يطلها الأذى لحسن حظّها، ولسوء حظّي. لكن دانة هذه المرة تجاوزت حدّها فعلًا. تذكرتُ ما كان يمكن أن يحدث لو أنني لم أكن معها، بلا شك كانت قمر ستأكل المقلب من أوله لآخره وتخوض كل هذا الألم! شعرت بغيظ في داخلي عند بلوغي هذه النقطة خاصة عندما تذكرت قول دانة لي في المستشفى: تبًا لك يا باسل لقد أفسدت مقلبي! كنت أريد رؤية قمر وهي تتلوّى من الألم بدلًا منك! "ما الأمر.. أنت تفكّر فيما إن كان من المناسب أن تقول لي كل شيء أم لا صحيح؟" نظرتُ إلى أبي بدهشة وفي داخلي انبهار، ثم ابتسمت بإحراج مغمغمًا: في الحقيقة نعم. نظر إلي أبي بهدوء وقال بلهجة مطمئنة: لا تقلق يا باسل. فمهما كان ما حدث، سنحاول معًا لمعالجة المشكلة بشكل سليم. هيّا.. أخبرني. ونظر إلي بحنان مترقبًا، فتنهدتُ وبدأت أحكي لأبي كل شيء! وعندما انتهيت، احمرّ وجه أبي جدًّا من الغضب والانفعال مما أثار خوفي وقلقي أن يفرض على دانة عقوبة كبيرة أو.. فقلتُ برجاء: لكن يا أبي.. أرجوك لا تخبر دانة. تمالك نفسه وأخذ نفسًا عميقًا ثم قال لي بضيق: طبعًا يا باسل، لن أخبرها. ثم قال بلهجة مصدومة: لم أتوقع أن تفعل دانة كل هذا بسبب غيرتها من قمر. ثم هدأ قليلًا ونظر إليّ بامتنان: وأنت يا باسل.. أشكرك كثيرًا لقيامك بهذا الأمر النبيل وحماية قمر بالرغم من أنك تدرك أنك ستكون الضحيّة! احمّر وجهي بخجل أمام مدح أبي، وانتهى الأمر بأنه قال لي وأنا خارج من غرفة مكتبه: سوف أتولّى أنا التحدث مع دانة حتى لا تشعر بأنك فتنت عليها. وفي نهاية اليوم.. فوجئت بدانة تبكي بعنف وهي خارجة من مكتب أبي، ومباشرة اتجهت إليَ صارخة: أنت أخبرته يا باسل! أيها الحقير.. لن أثق بك أبدًا! سوف أخاصمك إلى الأبد..! رغم شعوري بصدمة كبيرة من ردّة فعلها وصراخها عليّ إلا أن هذا هو المتوقع، فلم يكن هناك شخصٌ آخر يعرف بشأن ذلك الأمر غيري! ولا غريب في أن تدرك مباشرة بأنني من أخبرته.. ويبدو أن عقوبة أبي كانت قاسية في نظرها، فقد حرمها أبي من الخروج مع صديقاتها للتنزه أو زيارتهم لمدة أسبوع كامل!.. وكان هذا بالنسبة لدانة مثل السجن، فلا فتاة في سنّها سوى قمر، وأنا أكبر منها بسنتين.. صحيح أننا نحب اللعب معًا في مرات كثيرة، لكن هذا لا يعني أن تستغني عن صديقاتها. وهي تعطيهم وقتًا كبيرًا في حياتها دومًا. فلا شك أن عقاب أبي عليها شديد هذه المرة. وأظنّ أن كره دانة لقمر تضاعف بعد عقوبة أبي، فبرغم أن أبي عاقبها لأنني تسممتُ بسببها، ولم يذكر شيئًا عن قمر، إلا أنها ظنّت الموضوع بشكل شخصي في النهاية بينها وبين قمر. ولم تستطع فعل شيء لأنها كانت تحت المراقبة هذه المرة خاصة بعد وصول الخبر لأمّي والتي بدورها عاتبت دانة، لكن دانة لم تكن تريد أي عقاب آخر لذلك التزمت بعقوبة أبي وقضت معظم ذلك الأسبوع في غرفتها وخفت حيويتها في البيت قليلًا، كانت تجتنب قمر في البداية الآن تجتنبنا نحن الاثنين! وحتى بعد انتهاء فترة العقوبة ظلّت تخاصمني، وازداد تعلّقها بصديقاتها أكثر! وشعرت ببعدها عنّا.. وهذا ما أشعرني بحزن كبير وبعض من الندم على ما فعلت، أيكون ما فعلتُ خاطئًا؟ حقا لا أدري لكنني أشعر بضيق من هذا الوضع! اليوم هو الأحد، كانت قمر في دار التحفيظ التي تُداوم عليها يومي الأحد والأربعاء بشكل مدهش أثار إعجابي! فلم يحدث مرة أن غابت عنها، بل إن حياة قمر بأكملها تدهشني كثيرًا. وخاصة مؤخرا، حيث ازداد نشاطها وحيويتها وزادت جديّتها في الدراسة والحفظ، بل وقلّت مشاكلها بشكل غريب.. قمر التي كانت دائمًا تعود من المدرسة بمصيبة جديدة لتجد أبي يطلب منها المجيء إلى مكتبه، أصبحت فتاة مثابرة وجادة في دراستها ومؤدبة في مدرستها..! كنا نستمتع بشرب الشاي معًا عندما فوجئ أبي بهاتفه يرّن قبيل المغرب، مع صوت سيدة غاضبة من الواضح أن أبي لا يعرفها، كان صوتها عاليًا ومزعجًا رغم أن أبي لم يفتح مكبرّ صوت الهاتف! وسكتنا جميعًا نحاول استنتاج معنى تلك المحادثة التي غيّرت لون وجه أبي.. وظهرت ملامح الإحراج الواضحة على وجهه وهو يكرر اعتذاره، يبدو أن قمر فعلت مصيبة جديدة.. تبدو أشبه بأنها أبرحت أحد الأولاد ضربًا حتى دخل المستشفى! انتهت المكالمة وظهر على وجه أبي الانزعاج الشديد وإن حاول كتمه وهو يكمل شرب الشاي بهدوء، وإن كان من الواضح في قسمات وجهه أنه غاضب جدا مما فعلتْ قمر هذه المرّة، وران على الصالة صمت رهيب بيننا جميعًا، أمّي حتى لم تحاول أن تسأله أمامنا عمّا فعلت قمر، وقطع الصمت دخول قمر بهيئة هادئة، ثم ظهر على وجهها الدهشة والتوتر من نظراتنا لها وسكوتنا! وبمجرد دخولها إلى مكتب عمي، حتى انطلقت دانة تضحك بشماتة وهي تنظر لي قائلة: آمل أن يُحسن أبي تربيتها! آه حقا يا دانة.. أنت لا تتعلمين أبدًا! -2- [ياسر] كنت أنظر نظرات ثاقبة إلى قمر الجالسة أمامي بتوتر ظاهر على يديها، ورغم ذلك رفعتْ رأسها بتحدًّ لتردّ على سؤالي ببجاحة: لقد ضايقني.. فأدّبتُه! رفعتُ إحدى حاجبيّ ببلاهة، ثم ابتسمتُ بتهكم: هكذا؟.. هل تؤدبين الأولاد بتكسير أطرافهم أم ماذا؟! سكتت وهي مستمرة في نظراتها المتحدّية، التي أشعرتني بغضب يتنامي في داخلي من وقاحة هذه المخلوقة، لكنني كتمتُ غيظي وقلتُ ببرود: هل مدرسة الفنون القتالية حوّلتك إلى وحش؟.. أتظنين أنك ستؤذين الأبرياء بدون عقاب؟ فرحتُ قليلًا عندما تحطّمت نظراتها المتكبرة وظهر على وجهها الضيق وهي تقول معترضة: أتقول لي أن أتركه يضايقني ويستفزني بدون أن أدافع عن نفسي؟! لقد أخبرتُك أنه هو من بدأ. قلتُ بصرامة: إن ضايقكِ تردّين عليه بطريقة تضايقه، ولا تعتدي عليه بأكثر من ذلك. بدأت قمر بعقد حاجبيها الرقيقين بغضب وهي ترد: لقد كان يُمسك يدي ويأبى أن يتركني، وقد حذرته من أنني سأكسر يده، وهو من استفزني لفعل ذلك! شعرتُ برغبة في الضحك ولا أدري لمَ، ربما من غضبها الطفولي وتبريرها المستمر لأخطائها بتلك العيون الجميلة الغاضبة، لكنني سألتُها بهدوء: ولماذا كان يُمسك يدك؟ ما الذي يريده منكِ؟ ارتبكت قليلًا وهي تسكت لثوان ثم قالت: لـ..لقد كان يريدني أن أعرّفه على صديقتي الجديدة! سألتُها بحذر: ومن هي تلك الصديقة الجديدة؟ ابتلعت ريقها ثم قالت: نسرين..! وأبعدت نظراتها عنّي، شعرتُ بكذبها الواضح فقلتُ ساخرًا: أهي صديقة جديدة فعلًا أم من اختراعك؟! قالت بانفعال: بل هي صديقتي في الفصل بالفعل، إن أردت التأكد فتعال بنفسك للمدرسة واسألها! قلتُ بدهشة: أووه.. يبدو أنك تقولين الصدق إذن! قالت غاضبة: ومنذ متى وأنا أكذب عليك؟! ابتسمتُ بهدوء ولم أردّ عليها، ثم سألتُها: إذن أنتِ متأكدة من أنك لم تذهبي لمكان آخر غير المسجد صحيح؟ أومأت برأسها بقوة: نعم! سكتتُ لعدة ثوان ثم قلتُ لها بتهكم: إذن.. لماذا سمير يقول أنه وجدك تدخلين إحدى العمارات لوحدك وحينما حاول سؤالك عنها ادّعيتِ أنكِ كنتِ تزورين صديقتك؟ اتسعت عيناها بذهول وهي تنظر إليّ بتفاجأ وتقول بلهجة متقطعة: ســ..سمير قال ذلك؟ قلتُ لها مؤكدَّا بسخرية: نعم! ما قولكِ هذه المرة؟! قالت تدافع عن نفسها بانفعال: إنه كذاب!.. فأنا أركض من المدرسة يوميًا إلى المسجد وأتخذ كل يوم طريقًا مختلفًا، وهو لحقني هذا اليوم وعندما جلست أستريح عند إحدى العمارات اتهمني بذلك! لقد قلتُ لك يا عمّي أنا لم أذهب لأي مكان! لماذا لا تريد أن تصدقّني؟ تنهدتُ وقد بدأتُ أشفق عليها فسألتُ بتردد: إذن.. لماذا سمير يقول ذلك؟ قالت بعصبية: طبعًا لكي ينتقم مني، فأنا من كسرتُ يده.. وهو يحاول الافتراء عليّ. ثم قالت بإحباط: هل تصدقني أم تصدق ذلك الوغد؟ بدأتُ أقتنع قليلًا بمنطقها، لكنني لم أردّ على سؤالها وأنا أقوم واقفًا بعد تنهيدة حارة، ثم قلتُ وأنا أعطيها ظهري: لقد اتصلت بي اليوم أم سميّر، وهي تشتكي لي أنكِ كسرت يد ابنها بوحشيّة وتركتيه في الطريق مُغمًى عليه بدون أي مساعدة. همّت قمر بالتكلم لكنني قاطعتُها وأنا ألتفت إليها ببرود: وقد طلبت منّا اعتذارًا شفهيًا مباشرًا لها ولسمير.. وعلى وجه التحديد، اعتذارًا منكِ شخصيًّا! ضيُقتُ عيني وأنا أقول الجملة الأخيرة وأراقب ملامح وجهها المتوترة بعد أن غمغمت: هو من بدأ.. انحنيتُ على ركبتي ونظرتُ بهدوء إلى عينيها قائلًا: أنت لا تدرين من هي أم سمير، هي السيدة سلوى زكريّا.. لها مكانة مرموقة جدا في وزارة التربية والتعليم، وأنت تدرين ما يمكن أن تفعله سيدة مثلها إذا رفضتِ الاعتذار! بكلمة واحدة منها تستطيع تدمير مستقبلك الدراسيّ.. أو تصل إلى وضعك في سجن الأحداث! ظهر الهمّ على وجهها وهي تقول باكتئاب: لكنني لستُ مُذنـ... قاطعتُها بلهجة تهديد: لا يهمنّي.. المهم أنك ستأتين معي وتعتذرين لها ولسمير، هل فهمتِ؟ رضخت للأمر الواقع وهي تنزل رأسها باكتئاب وألم، شعرتُ بالشفقة عليها من هذا الأسلوب، لكنني أفعل هذا لمصلحتها، فأنا أعلم جيدًّا أن العناد مع تلك الشخصيات المهمّة في الحكومة سيورث المرء ندمًا لا نهاية له! ولن أسمح لقمر بممارسة هوايتها المفضّلة في تحدّي الأوامر هذه المرة، فالأمر فعلًا ربما يدمّر مستقبلها تمامًا على يد هذه السيدة.. خاصة وأن لهجتها وهي تكلمني كانت أقرب إلى التهديد! صحيح أنني بعلاقاتي المتعددة أستطيع مساعدتها نوعًا ما في وضع كهذا.. لكن سمعتها السيئة ستكون هي عنوانها فيما بعد وهذا ما سيجعل معاناتها شبه أبدية في حياتها الدراسية. -3- [قمر] كمية إحباط وحزن لا متناهية تحتّلنّي الآن! سوف أضطر مرغمة إلى الاعتذار لذلك الوغد وأمّه التي لا شك ستكون أكثر استفزازًا منه، وليست هذه المشكلة وحسب.. بل إنني سأضطر للاعتذار وأنا ذليلة رغمًا عنّي أمام عمّي..! كم آمل الآن أن تنشق الأرض وتبتلعني، أو يحصل أي شيء مجنون يمكننّي من الهروب من هذا الموقف السخيف! لم أكن أعلم وأنا أكسر يد سمير أن الأحداث ستصل إلى هذا الحدّ، ولو كنتُ أعلم لتجاهلته تمامًا حتى وإن اضطرني الأمر للهرب منه. كان عمّي يقود السيارة في الطريق إلى المستشفى الذي يجلس فيه سمير وأمه بعد إسعافه، وأنا أنظر من النافذة في شرود، توقفت السيارة أمام مبنى المستشفى الضخم، وسمعتُ صوت عمي يقول: لقد وصلنا.. ترجّلتُ بهدوء من السيارة تحت أنظار عمّي الذي سبقني وانتظرني أمام البوابة وبيده باقة ورد، ثم دخلنا معًا، يبدو أن السيدة سلوى قد أخبرته رقم الغرفة التي تجلس فيها فها هو ذا يسير في أروقة المستشفى المتشابهه بسرعة وكأنه يحفظ الطريق. كنتُ أتبعه ببرود حتى توقف أمام غرفة ما، طرق بابها حتى سمع صوتًا يسمح له بالدخول، ثم التفت لي وابستم: هل أنت مستعدة؟ عقدتُ حاجبي بانزعاج ولم أردّ، فتنهد تنهيدة حارة وهو يجلس ليصبح وجهه في وجهي ويقول بهدوء: قمر.. أرجوكِ. مهما حاولت تلك السيدة أو سمير محاولة استفزازك.. عديني أنك ستصبرين وتردين عليها بأدب وتعتذرين حتى ننتهي من هذه المشكلة! ابتلعت الغصة التي ملأت حلقي ولم أستطع النطق، وظللتُ أنظر إلى الأرض دون أن أردّ، فوضع يده على كتفي برفق ثم قال بلطف: لا تقلقي.. أنا معك! ثم قام وهو يمسك بيدي رغم أنني في البداية حاولت التملصّ منه ونزعها من بين يده بقوة لكنه كان يُمسكها بإحكام أشعرني بالعجز، واستسلمت للواقع عندما دلف بي إلى داخل الغرفة وأغلق الباب. السيدة سلوى، شعرها أشقر ناعم ووجها عريض ذو بشرة قمحية وتدل ملامحها على بلوغها سن الأربعين أو أكثر، جسدها السمين عليه ثياب أنيقة باهظة الثمن، شعرتُ بنفور من مكياجها الثقيل وعدساتها الملوّنة الاصطناعية ومن أظافرها الملوّنة الطويلة، كانت تجلس واضعة ساقًا فوق الأخرى ونظرت لنا بغرور متسائلة: من أنتم؟ انطلقت همهمة خافتة من سمير الذي كان يستند إلى وسادة وُضعت خلف ظهره على السرير ويده المكسورة مُجبّرة بجبيرة عريضة ونظر إلى بكراهية لا تخلو من الخوف. رفع عمّي قامته يقول بلطف واحترام: مرحبًا سيدة سلوى. أنا عمّ قمر. وأنا أبدي لك بالغ أسفي عمًا أصاب ابنك المحترم سمير، والذي كُسرت يده في شجار مع ابنتي قمر.. وأنت كما تعلمين، إنه شجار أطفال سخيف ودورنا نحن الكبار أن نصلح العلاقات بينهم بحكمة و.. قاطعته السيدة سلوى في غلظة: ليس شجارًا يا سيد ياسر! فابني شخص مسالم للغاية ولا يُقدم على فعل شيء كهذا! بل هو اعتداء فردي من طرف واحد، اعتداء وحشي من تلك الطفلة الشرسة..! ونظرتْ إليّ في حدّة وكراهيّة ثم سألتْني بحنق: ما الذي دفعك إلى كسر يد ابني أيتها المتوحشة؟! شعرتُ بغضب هائل من تلك الطريقة التي تفتقر إلى الأدب والاحترام، ولم أتعوّد أنا هذه الطريقة الوقحة حتى من عمّي شخصيًّا! كان عميّ ينظر لي نظرات راجية وإن كان في عينيه التوتر والقلق من ردة فعلي وجوابي القادم، لم أستجب لنظرات عمي وأنا ألتفت إليها وأنظر إليها ببرود أكتم غيظي: ابنك قليل الأدب يا سيدة سلوى! احمرّ وجهها بشدة من الغضب وهي تفتح فمها لتسبّني على ما أعتقد، مما أعطاني شعورًا بالتشفّي منها وابتسمتُ بسخرية، شعرتُ بيد عمّي تضغط على كتفي بقوة وهو يهمس: قمر.. بالله عليك راقبي ألفاظك! لم ألق بالًا لجملة عمي وتجاهلته، وبينما أنا أنظر إليها بتحدً ساخر بعد جملتي تلك، إذا بها تقوم وقد هدأ احمرار وجهها وظهرت ملامح صرامة غريبة عليه ثم تمشي بضع خطوات حتى وقفت أمامي بجسدها الكبير.. بطريقة أشعرتني بالخطر نوعًا ما وهممتُ بالتراجع.. ساد الصمت قليلًا في الغرفة وإن كان يلمؤها جو مشحون بالتوتر والعدوانيّة ونحن الاثنان ننظر إلى بعضنا البعض في حدّة، كان سمير وعميّ يشعران بتوتر بالغ من معركة العيون الدائرة بيننا هذه لكنني لم أكن أنوي الهزيمة فيها فقد جاءت السيدة سلوى في ملعبي، اختفى الخوف من قلبي وازداد التحدّي في نظراتي وأضفتُ إلى وجهي ابتسامة سخرية مما جعل السيدة سلوى تتميز غيظًا! ثم.. قطع سكون الغرفة صوت مُدوًّ لصفعة قويّة هبطت على وجهي!.. شعرتُ بالغرفة تميد من حولي وكدت أسقط على ظهري من أثر المُفاجأة لولا أن عمّي أمسكني من كتفي، وضعتُ يدي على أثر الصفعة ونظرتُ إلى تلك الحقيرة بذهول وصدمة فما كان منها إلا أن صرخت بغضب: أنتِ قليلة أدب فعلًا، وناقصة تربية.. فيبدو أن أحدًا لم يعلّمك كيفية مخاطبة الكبير! تحوّل التحدّي في داخلي إلى حنق واستياء شديدين، والسيدة سلوى تُكمل في ثورة: وأنا التي ظننتُك ستأتين لتعتذرين.. فإذا بكِ تأتين لتتكلمي أمامي بتلك الطريقة الوقحة! سارع عمّي يقول معتذرًا: سيدة سلوى تمالكي أعصابك.. فلا تنسيْ أنها طفلة تُخطئ وت.. قاطعته السيدة سلوى بحدّة: عندما يُخطئ الأطفال فعليهم أن يعتذروا.. هل نسيت الآداب العامّة يا سيد ياسر أم ماذا؟ ابتلع عمي ريقه بتوتر وقال يحاول تهدئتها: آه فعلا معك حق، ولا تقلقي فقمر تنوي الاعتذار حقا ولكن لسانها يخونها بعض الأحيان و.. قالت السيدة سلوى بغضب ساخر: لسانها يخونها دائمًا وليس بعض الأحيان! ثم قالت بتهديد: هذه آخر فرصة لها يا سيد ياسر للاعتذار.. لي ولسمير! أومأ عمّي برأسه في استسلام ثم سحبني من يدي إلى ركن في الحجرة وهمس لي بعتاب: قمر.. على ماذا اتفقنا؟ هيا تفضلي بالاعتذار لها ولسمير.. شعرتُ بضيق بالغ. وأنا التي كنت أظنه سيغضب لأنها صفعتني! حسنًا في النهاية لن أتوقع من قاتل أبي الدفاع عنّي! سوف أقوم الاعتذار لسبب واحد، ليس لأجل عمي وإنما لأجلي أنا. فلم أعد أطيق البقاء في هذه الغرفة الكئيبة أكثر من ذلك! شعر عمي بضيقي فقال بتفهم وحاول أن يقول بلهجة حنونة: أنا أفهم حقًا أنها أساءت معاملتك عندما صفعتك ولكن تذكري أنك أنت المخطئة منذ البداية وقد حذّرتك من استفزازها! شعرتُ بالسخرية في داخلي، هكذا إذن يا عميّ، تعتبرني أنا المذنبة الأولى! لا بأس.. لننهِ هذه المسألة قبل أن تصبح أسخف من ذلك. فتحتُ فمي وغمغمت ببرود: فهمتُ. سوف أعتذر. لاحت على عمّي ملامح الاطمئنان قليلًا ووقف وهو يراقبني أتقدم وأقف بهدوء أمام السيدة سلوى ثم أقول بجمود: أنا آسفة! رفعت السيدة سلوى إحدى حاجبيها دلالة على عدم الرضا، وظلّت تطالعني بنظرات استحقار من أول رأسي حتى أسفلي، ثم قالت بتكبر: حسنًا، سأقبلها منك رغم أنها ليست من قلبك، ولكن بشرط أن تعتذري من سمير أيضًا. أومأت برأسي موافقة ثم مشيتُ خطوات حتى أصبحتُ أمام سمير بالضبط الذي تحوّلت ملامحه إلى قليل من الشماتة فيّ وإن لم يستطع إظهارها أمامي، قلتُ بهدوء: أنا آسفة يا سمير! ارتبك سمير وهو يرى اعتذراي وعلت في عينيه الدهشة ثم قال بتوتر: لا.. لا بأس.. أتقبل اعتذارك! ثم نظرتُ إلى السيدة سلوى لأجدها قد اطمأنت إلي وأعطتني ظهرها لتتحدث مع عمّي ببضع جمل، فقربّت وجهي أكثر إلى سمير الذي ابتعد بتلقائية عندما رأى وجهي وعينيّ الغاضبتين وأنا أهمس في أذنه من بين أسناني: سوف تندم يا سمير على ما فعلت! وأحذّرك، إن حكيتَ لشخص آخر ما حدث.. سأكسر يدك الثانية، أتفهم؟! ارتسمت ملامح الذعر الهائلة على وجه سمير ولم يستطع التكلم في حين عادت ملامحي إلى جمودها وأنا أتجه إلى باب الغرفة وأخرج بدون مقدمّات بخطوات سريعة من الغرفة! |