السلام عليكم و رحمة الله و بركاته كيف أحوالكم؟ إن شاء الله تمام ~ إنه الفصل المنتظر، أو بالأحرى الشخصيات المنتظرة مجددا أنبهكم أنه من الأفضل القراءة قبل رؤية فقرة الشخصيات جزيل الشكر لـ آكا-تشين على التدقيق و المراجعة أترككم مع الفصل لينا.موريت، آني، بالإضافة لرجلين و امرأتين لم تتعرف لينا عليهما، لكن فهمت أنهم بقية الـ فان. وقف خمسة منهم في طرف الغرفة، ظهورهم للجدار الأبيض المُزين بخامات ذهبية أنيقة، بينهم و بين الأريكة التي ارتاحت لينا عليها وُجدت طاولة رخامية مستطيلة، بقدر سخافة الأمر فقد منحها ذلك إحساسا طفيفا بالأمان، معرفتها أن هنالك ما يحول بينها و بين أقوى مخلوقات الأرض. واحد منهم، رجل بشعر فضي يكاد يصل لكتفيه، بعض منه مربوط خلف رأسه، جلس في أبعد زاوية من الغرفة عن لينا، يمسك كتابا مغلقا، واضعا إبهامه ليحفظ الصفحة. كان يحدق فيها من وراء نظاراته الطبية بعينيه الحمراوتين الهادئتين، هادئتين لدرجة أن لينا تيقنت من أن الأحمر هو لونهما الطبيعي. -"استيقظتِ أخيرا." تحدث ذلك الصوت الأنثوي الحريري الذي سمعته لينا عند استيقاظها. تقدمت من بين الخمسة الواقفين امرأة طويلة، أطول منهم جميعا. كان شعرها الذي يصل لركبتيها بنفس لون عينيها اللتان لمعتا في أحمر دموي، كذلك الرداء الذي خلفها، و قد عرفت لينا من تكون مباشرة. -"أنتِ... أنتِ هي يايث؟" تجرأت لينا و سألت. ابتسمت المرأة، و كانت كما وصفها رايلي تماما: جميلة و مخيفة... لكنه قلل من شأنها، و لا يمكن لـ لينا أن تلومه، فالهالة التي حول هذه المخلوقة ليست بالشيء الذي يمكن تلخصيه في كلمات مجردة، شعرت لينا بركبتيها تضعفان تحت تأثير تلك الابتسامة، و لو أنها لم تكن جالسة بالفعل لسقطت من شدة رهبتها. -"أنا هي يايث، أجل." أمالت برأسها لتنسدل خصلاتها الملتهبة من على كتفيها، "هل هذا يعني أن راي يتذكرني؟" راي. وجدت القطع مكانها الصحيح في عقل لينا، و فهمت الخطأ الذي ارتكبته ذلك اليوم، الخطأ الذي جعل رايلي يفقد صوابه تماما... كانت لينا قد ذكرت يايث سابقا، ثم نادته بـ راي لأول مرة، و بذلك فتحت باب ذكرياته عنوة حتى تدفقت في عقله بشكل مفاجئ، بشكل دفع التعويذة التي أُلقيت عليه للجنون. أبقت لينا عينيها على يايث عندما أجابت: -"ليس تماما. على حد علمي هو يتذكر وجهكِ و اسمك فقط لا غير." التفتت يايث نحو الرجل الذي على يمينها، بدا كشاب في منتصف العشرينيات، شعره أبيض ناصع يبرز بشرته الداكنة. لم تحتج يايث لأن تقول أي شيء، فسرعان ما نطق رفيقها مبقيا عينيه على مقبض أريكة لينا: -"لا بد أن مشاعري القوية قد أثرت على جودة العملية..." صوته كان ناعما كعينيه الداكنتين، "لا يمكنكِ أن تلوميني على ذلك." طوت يايث ذراعيها و قالت رافعة حاجبا: -"صدقت يا تورسييل، لا يمكنني أن ألومك... طالما تتحمل المسؤولية." لم يبدُ المدعو تورسييل راضيا عن إجابتها، لكنه اكتفى بإطباق شفتيه و هز رأسه بالموافقة هزة واحدة، جاعلا الأقراص الأنيقة على أذنيه تتراقص. سألت لينا قبل أن تحاول منع نفسها: -"أين هو رايلي؟" نظرت يايث نحوها، تعابيرها معتدلة و ذقنها مرفوع، و أجابت: -"راي متواجد في هذه الدار." -"أية دار؟ أين أنا؟" -"أنتِ في منزل حليفنا." كانت لينا على وشك التفوه بسؤال آخر قبل أن تقاطعها يايث قائلة: -"هذا يكفي. أخبريني بما حصل معكِ و مع راي، ثم سنمسح ذاكرتكِ و نطلق سراحك." -"و كأن ذلك سيحدث !" ردت لينا، صوتها عالٍ و يوحي بثقة أكبر مما تمتلكها. -"هــاه؟" زمجرة يايث ذكرت لينا بالحضور الخطير التي حولها، فاستدركت الأخيرة نفسها و تكلمت هذه المرة بنبرة معتدلة: -"سأخبركم ما حصل، لكنني أريد الاحتفاظ بذكرياتي." وقفت، أخذت نفسا عميقا ثم واصلت بجدية أكبر: -"أنا لست في جانب الحكومة الملكيّة، فقد تسببوا في قتل صديق لي..." تحولت تعابير كل واحد منهم. الغضب على وجوه يايث، موريت و تورسييل، و الحزن على تعابير آني و البقية. سمحت لهم بلحظة قبل أن تكمل: -"من يعلم كم من بريء آخر قد قتل أثناء عمليات الحكومة المبررة... لا أعلم و لن أعلم، لأن الحكومة لا تهتم بالإقرار بهم حتى... هذا النوع من الحكم لا يجب أن يستمر." شدت قبضتيها و هي واثقة أن عينيها استحالتا صفراوتين الآن، ثم صرحت بحدة: -"لم آتِ إلى العاصمة لأعيد رايلي إليكم أو للوقوف ضدكم، بل أتيت بدافع الانتقام." انقلبت تعابيرهم من جديد، المفاجأة الخفيفة ظهرت على آني و تورسييل و الفتاة التي بجانب هذا الأخير، مثله ذات شعر أبيض و بشرة داكنة، لا تبدو أنها تتجاوز العشرين. الرجل الذي في الزاوية بدا مكتئبا، عيناه مغلقتان و حاجباه مقطبان، أما موريت فقد صفّر مطولا ثم قال بابتسامة: -"مثير للاهتمام ~ " يايث ابتسمت هي الأخرى، ابتسامة ماكرة واثقة جعلت أنفاس لينا تنقطع. -"دافعك الانتقام يا فتاة؟" قالت في هيبة، "يا للصدفة، و نحن كذلك !" أخبرتهم لينا عن لقائها مع رايلي، عن الجنود الذين بحثوا عنه و الجنرال الذي قادهم. تكلمت عن موت غيلاد بشكل مختصر و دون تفاصيل، و لم تذكر بياتريس و جاك على الإطلاق. موريت الوغد قد اقترح أن يغزو تورسييل ذكرياتها و يأخذ ما يحتاجه من معلومات، ما جعل لينا تستشيط غضبا. لحسن الحظ بقيتهم لم يكونوا على نفس المستوى من الفظاعة، فقد اعترض تورسييل بنفسه، كذلك الفتاة التي بجانبه، و بينما اكتفت آني بنظرة ساخطة نحو موريت، قامت يايث بسؤال رأي لينا في الأمر، و عندما رفضته الأخيرة، لم يذكر أي أحد الموضوع مجددا. بعد ذلك أخبرتها يايث أن موريت و آني قد أحضراها و رايلي إلى جزيرة مختلفة من الأرخبيل، بعيدا عن تلك التي تتمركز فيها قلعة الملك، و أنهم الآن داخل قصر أحد النبلاء الذين يدعمون الـ فان. على ما يبدو أن صاحب البيت ليس هنا، ليس و كأن ذلك مهم بالنسبة لـ يايث، فقد قررت أن لينا ستأخذ إحدى غرف الضيوف خلال هذه الفترة، أيا كان ما تعنيه يايث بـ هذه الفترة. رفض الجميع رفضا تاما إجابة أسئلتها المتعلقة بـ رايلي. -"ليس الآن." هذا ما قالته لها يايث، و تساءلت لينا بسخط ما الذي ينتظرونه بحق الخالق. لقد قالتها: لم تأتِ هنا لإعادة رايلي. لم تأتِ هنا لأجله مطلقا، و قد اعتبرته أحجية عليها حلها في طريقها نحو الانتقام... على الأقل هكذا كانت الأمور قبل الرحلة. الحقيقة هي أنه و في اللحظة التي وضع فيها رايلي يده على كتفها عندما شعرت بالإحباط المدمر بعد مواجهة الجنرال، كان قد كسب صداقتها للأبد. لم يعد مجرد لغز أو رفيق سفر، و ليس حتى أحد الـ فان، بل إنه أصبح صديق لينا، و ذلك يعني أنه و رغم انتهاء اتفاقية الرحلة بينهما، إلا أنها ستفعل ما بوسعها لإنقاذه من أي كان ما ينتظره. علمت لينا لاحقا أن الفتاة ذات البشرة الداكنة و الشعر الأبيض الطويل التي وقفت بجانب تورسييل سابقا تُدعى آيفيرا، و بذلك عرفت أسماء كل الـ فان تقريبا، جميعهم إلا ذلك الرجل ذو النظارات الذي لم يتكلم و لم يتحرك من زاويته. فكرت بسؤال يايث عن خطبه، لكنها اختارت في النهاية أن تسأله هو مباشرة. عندما عادت إلى الغرفة لتجد الرجل في زاويته يقرأ كتابه، تقدمت نحوه و تلعثمت في ذهنها قبل أن تنطق أخيرا: -"أمم، معذرة؟ هل لي باسمك؟" رفع الرجل بصره من كتابه إليها، في عينيه المرتخيتين حزن و استياء لم تستطع فهمه، ثم ثبّتهما على كتابه من جديد دون التفوه بكلمة. قطبت لينا حاجبيها، لكنها لم تضف شيئا، و قررت الخروج و تركه لحاله. كان الرواق خاليا من أشكال الحياة، مما منح لينا الفرصة لتقدير جمال المنزل الذي وجدت نفسها فيه. الأرضية الرخامية، اللوحات الخلابة، السلالم المطلية بالذهب... تطلب منها الأمر مجهودا كبيرا حتى لا تشعر بالحقد تجاه مضيفها فاحش الثراء حين جعلها تتذكر الفقراء و اليتامى في قريتها. عندما أوشكت لينا على نزول السلالم، مرت على غرفة بابها مفتوح، و لمحت آيفيرا واقفة في شرفتها. -"آنسة-- آيفيرا؟" نادت لينا بينما تطرق الباب. التفتت آيفيرا نحوها و أشارت لها بأن تدخل. لينا فعلت، و شعرت بنوع من الإحراج بينما عبرت الغرفة وصولا إلى الشرفة، محاولة لسبب ما أن لا تنظر لما حولها. عندما وقفت بجانب آيفيرا أخيرا قالت: -"هنالك ما أود سؤالكِ عنه." -"تفضلي و اسألي." وضعت آيفيرا مرفقيها على حافة الشرفة منتظرة سؤال لينا. الأخيرة سألت: -"ما خطب ذلك الشخص الجالس في زاوية الغرفة؟" أغلقت الآنسة فان عينيها لفترة، إما لتشعر بالنسيم يداعب وجنتيها، أو لتقرر إجابة لينا من عدمها، لكنها في النهاية ردت: -"إنه يُدعى دوريان، دوريان رورك." -"رورك؟" -" ليس واحدا منا، بل هو أسيرنا." ليس منهم... رايلي، يايث، موريت، آيفيرا، تورسييل، آني... ستة. هنالك فان آخر بعد. قطبت لينا حاجبيها نحو آيفيرا التي استطردت: -"لديه لسان خطير، لذا قطعتُه." -"قطعتِه؟ !" كادت لينا أن تعوي. توسعت عينا آيفيرا الزمرديتين ناحية المياه التي تطل عليها، و أضافت بحاجبين مرفوعين و ابتسامة خفيفة: -"ليس حرفيا بالطبع ! كل ما في الأمر أنني سلبت قدرته على الكلام مؤقتا." إذن يمكنها فعل ذلك. كل قدرة فان تكتشفها لينا مخيفة أكثر من التي قبلها. أصرت لينا في فضول: -"لكنني لم أشتم منه شيئا عندما اقتربت..." -"يمكنني فعل ذلك أيضا." اعترفت آيفيرا و الابتسامة لم تفارقها. -"تعالي لأدلّك على غرفتك ~ " قفزت لينا و أبرزت مخالبها على الحضور المفاجئ خلفها، سمعت ضحكة قبل أن تستدير لتجد موريت بابتسامة ماكرة على وجهه. استقامت آيفيرا لتوبخه قائلة: -"إياك و التلاعب بضيفتنا يا موريت !" رفع يديه في استسلام رغم أن ابتسامته لم تختفِ، و رد ببراءة مصطنعة: -"بالتأكيد ! كوني مطمئنة ~ " قلبت لينا عينيها على تلك الكذبة الواضحة. أغلق موريت باب غرفة آيفيرا عند خروجه منها، و أخذ لينا إلى آخر غرفة في الرواق، كانت بعيدة قليلا عن البقية، لكنها لم تتميز في شيء عدا كون الأفرشة جميعها بسواد الليل، فقد كانت خالية من الإضافات و الإكسسوارات غير الضرورية، و مثل غرفة آيفيرا فقد تضمنت شرفة مقابلة الباب من بعيد، عمودية على السرير الكبير الذي التصق في منتصف الجدار. سرعان ما طردت موريت من الغرفة، الذي رحل بعد أن همس بمكر: -"أبقِ بابك مغلقا." أغلقت لينا نافذة الشرفة التي أطلت من بعيد على جسر يصل بين جزيرتين، خلعت حذائها و ارتمت على السرير، مريح أكثر بكثير مما اختبرته في الأيام السابقة، أو في حياتها بأكملها. لم يكن الـ فان كما توقعتهم، رغم هالاتهم القوية و أشكالهم الغريبة نوعا ما، فإن تصرفاتهم لم تختلف كثيرا عن تصرفات بقية المخلوقات... ربما ذلك نتيجة للقرون التي قضوها معنا، فنحن مخلوقات معدية. رغم اقتراب الغروب، و معرفة لينا أنها ليست فكرة سديدة، إلا أنها سمحت لنفسها بأن تغط في النوم. لم تستطع مقاومة نعومة الفراش و هي على ذلك القدر من التعب. لينا كانت تحلم قبل أن يوقظها صوت صرير. عندما اعتدلت جالسة على السرير و قامت بحك عينيها الناعستين أدركت أخيرا أن نافذة الشرفة قد فُتحت. مررت يديها على شعرها لترتبه ثم تنهض من فراشها. كان الوقت متأخرا، لا أثر لأشعة الشمس أو ألوان الغروب، علمت لينا أن السماء لا بد و أنها سوداء الآن و مرصعة بالنجوم. نهضت لتعيد إغلاق النوافذ، حينها حجبت الستائر الحريرية البيضاء رؤيتها عندما تراقصت مع شعرها الداكن المنسدل في نسيم الليل، فأبعدتها بذراعها كاشفة ما ورائها. توسعت عيناها و انقطعت أنفاسها، تجمدت مكانها و قد تسارعت دقات قلبها بشكل مؤلم... فوق حافة الشرفة وقفت هالة لم يجدر أن تكون مألوفة لـ لينا، لكنها كانت كذلك. مألوفة بشكل لم تستطع و لم ترغب في التفكير بتفسيره. فجأة لم تعد في الحادية و العشرين، عادت لتكون مراهقة في الثالثة عشرة من عمرها، شعرها الأسود القصير المبلل يتمايل خلفها بينما تركض و كأن حياتها على المحك، ذلك لأن حياتها كانت بالفعل على المحك. قدماها تؤلمان بشدة، تشعر و كأن رئتاها تحترقان، جسدها قد يسقط في أي لحظة وسط ظلام الغابة المحيطة بها، لكنها لم تتوقف عن الركض، ليس باستطاعتها أن تتوقف، التوقف يعني الموت. أمكنها سماع صوت مخالبهم تقطع الأغصان من خلفها، يقتربون بسرعة مهولة... تريد أن تنظر خلفها بشدة إلا أن الرعب لم يسمح لها، إن قامت بحركة واحدة خاطئة ستسقط و ستكون نهايتها. كانت لتفكر في إيجاد مخبأ مناسب، لكن التنفس يصبح أصعب فأصعب، و هي تشعر و كأنها ستختنق بدموعها مع مرور كل لحظة. صرخت داخليا بكل ما تبقى لها من قوة إرادة في محاولة يائسة لتجبر نفسها على التحوّل، لم تكن قد تحولت من قبل، لكن إن لم تفعل اليوم فلا جدوى بعد الآن... كل ما تطلبه الأمر هو فقدان التركيز لحظة واحدة لتجد نفسها قد تعثرت و وقعت أرضا على وجهها، رفعت رأسها لتتحسس وجنتيها و أنفها المخدوش، لكنها لم تستطع النهوض، جسدها لا يسمح لها بعد كل الجهد الذي بذلته. ذرفت مزيدا من الدموع، هذا كل ما في قدرتها الآن. لم تنجح في التحول، الذئاب تقترب منها أكثر فأكثر، و بالكاد استطاعت رفع نفسها لتجثو على ركبتيها. حدقت في يديها الداميتين جاهلة ما تفعله لإخراج نفسها من هذا الموقف، لم تشغل ذهنها سوى فكرة واحدة الآن: موتها المُحتّم. صوت تلك الأطراف الضخمة يقترب و يقترب... قلبها أصبح يدق في صدرها بقوة مؤلمة. أحاط بها قطيع المستذئبين، عيونهم الصفراء تشع قسوة. إنهم هنا. انتهى الأمر... أغلقت عينيها، وضعت يديها على أذنيها في يأس، أطبقت جبهتها على التراب، و صرخت حتى كاد حلقها يُسلخ. ثم توقفت، و كل ما حولها سكت فجأة. لولا صوت الرياح التي تداعب أوراق الشجر لاعتقدت أنها ماتت و انتقلت للعالم الآخر. تجرأت على تحريك رأسها قليلا لتخطف لمحة إلى جانبها، و أحست بكيانها يرتجف رجفة فظيعة... المستذئبون الذين هاجموها أصبحوا الآن جثثا هامدة على الأرض. أي نوع من المخلوقات المرعبة بإمكانه إنجاز أمر كهذا في غضون ثوان معدودة؟ رفعت رأسها غريزيا، عيناها اتسعتا و فمها فُتح في دهشة عند رؤية المخلوق الذي يقف على بعد بضعة أمتار منها، فلم يكن سوى مجرد إنسان. شابّ في مقتبل العمر، شعره المرتب أكثر حلكة من الليل، وسط سواد حُلّته أشرقت بشرته الشاحبة تحت ضوء القمر، و في عينيه الحمراوتين بريق لم تشهد له مثيل. لم تستغرق سوى ثوان لتدرك بأن الواقف أمامها يستحيل أن يكون إنسانا عاديا، و في تلك اللحظة بالضبط زحف شعور القلق و الرعب إليها من جديد. حاولت لم شتات نفسها، لكن خطوة واحدة من الشاب نحوها كانت كفيلة بتحطيمها من جديد و بعثرة أشلاءها، حيث أنها ارتجفت و حاولت الابتعاد للخلف، إلا أنها كانت قد جثت على ركبتيها لفترة جعلتهم يرفضون الحركة المفاجئة الآن و يصعقونها بألم حاد، جعلها ذلك تعض شفتها السفلى حتى سال الدم منها. ضعيفة و مثيرة للشفقة! لستِ سوى عبء! تكررت كلمات إيزابيل بقسوة في ذهنها، يبدو أن زوجة أبيها كانت محقة بعد كل شيء... لم يقل الرجل أية كلمة، و لم تظهر تعابيره أية مشاعر، لم يرمش بعينيه الثعلبيتين و لو مرة واحدة، لكنه واصل التقدم نحوها بخطوات معتدلة. حين أصبح أمامها أغلقت عينيها غريزيا و انتظرت قدوم الألم... لكن الألم لم يأتِ، بل إنها شعرت بدفء مفاجئ يغلف كتفيها، فتحت تلكما العينين العسليتين لتدرك ما حصل... كان قد خلع معطفه الطويل ليلفه حولها. لينا كانت فتاة ضئيلة لدرجة أن المعطف احتواها بالكامل. تشبثت بأطراف قطعة الثياب حالكة السوداء تلك و كأنها الحائل الوحيد بينها و بين الموت. تذكرت في تلك اللحظة عيني إيزابيل اللتين لم تنظرا إليها يوما بأي عاطفة سوى الكراهية، تذكرت وجه أبيها كالتمثال لا يتغير مهما كانت الظروف، نبرة صوته المحايدة التي لا تكاد تكون نبرة كائن حي... والدها لم يهتم لأمرها إلا إن دعت الضرورة، لم يكن يظهر أي قلق طالما لا تزال على قيد الحياة، و لم يعاتب إيزابيل على معاملتها لها حتى تجاوزت الحد، مثل كل تلك المرات التي حاولت فيها قتلها. لينا تساءلت لِمَ لم يتركها تموت و حسب، فهو لم يكن يريدها من الأصل، على الأقل ليس منذ موت والدتها و زواجه إيزابيل، لذا لِمَ لا يدع وجودها يندثر من حياته و يخلصها مما تمر به؟ كان ليريح نفسه و قطيعه الذي يراها كعبء، فذلك كان واجبه كقائدهم بعد كل شيء... ذلك لم يعد مهما، فعندما فارق والدها الحياة، أصبح القطيع حرا في مطاردتها و تمزيقها. طوال تلك السنوات لم تشهد أي مبادرة لطف، لا من أفراد القطيع و لا من أبيها، و بالتأكيد ليس من إيزابيل، لذا لم تعرف كيف يجدر بها أن تتصرف الآن و قد أزعج أحدهم نفسه و أنقذها بهذه الطريقة. انزلقت دمعة على وجنتيها، ثم انفجرت بالبكاء حتى فقدت وعيها. لُوِي! مجرد صدى لصوت أنثوي غير مألوف ينادي اسم غريب. استيقظت لينا صباح اليوم الذي يليه لتجد نفسها في ركن غابة لا تعرفها، جسدها الصغير لا يزال ملفوفا في معطف الرجل الغريب، و لا أثر لهذا الأخير. كانت الصدمة عندما وقفت لتجد أن جروحها كلها قد اختفت و كأن شيئا لم يحصل. لسنوات ظلت لينا تشكك في نفسها، حتى أنها في مرحلة ما اعتقدت بأنها مجنونة... و سواء كان ذلك صحيحا أم لا فقد دفعها الأمر للجنون بطريقة أو بأخرى، لكن الآن... لا شك أنه نفس الشخص الذي رأته قبل ثمان سنوات، الرجل الذي وقف الآن على حافة شرفتها في قصر الـ فان، شعره الأسود مرتب بنفس الطريقة تماما، ضوء الهلال في السماء سطع على بشرته الشاحبة و جعل عينيه الحادتين تبرقان في لون أخضر صافٍ، و يغطي جسده معطف طويل حالك السواد، يشبه لحد بعيد ذلك الذي يقبع داخل حقيبتها الآن. -"لويراف فان." عرّف عن نفسه، في نبرة صوته العميق نفحة عتيقة. "ما الذي تفعلينه في غرفتي؟" شخصيات ظهرت في الفصول السابقة : متشووقة لأخوض بكم في هذا الأرك حتى أعرفكم على شخصيات الفان و لا أطيق صبرا لقراءة آرائكم أظن أن العنوان واضح على لسان من فلا تحرموني من مروركم الجميل دمتم بود & في أمان الله |