تفضّلوا الفصل السادس من مسودتي العزيزة>حزينة على تناقص الفصول كل سبت هههه آمل أن تستمعوا بالقراءة <3 في انتظار تعليقاتكم ونقدكم. الفصل السادس: أريد أبًا!-1- [نور] استيقظت على صوت طرق على الباب، فتحت عيني بإنهاك وجلستُ ببطء، كان الطارق هو أمي، ظلت تقول بصوت عالٍ قلق: نور! افتح الباب.. لماذا تغلقه على نفسك بهذا الشكل؟ أأنت بخير؟ ألقيت نظرة على الساعة فوجدتها الرابعة عصرًا، آه هكذا إذن.. لابد أن أمي عادت من عملها وكذلك إيلين. قلتُ بصوت متعب: آسف يا أمي.. لقد كنت متعبًا وأريد النوم بدون أي إزعاج. قمت بإعياء وفتحتُ الباب، لأجدها على الباب غاضبة، بمجرد رؤيتي عقدت حاجبيها وهي تقول بحدة: إيّاك أن تغلق الباب على نفسك مرة أخرى! ألم أقل لك أن إيليت ستعتني بك؟ ابتلعت ريقي وأنا أقول محاولًا الدفاع عن نفسي: إيليت تزعجني يا أمي، كما أنني لا أحتاج أحدًا للعناية بي. وضعت يدها على جبهتي قائلة بانفعال: حتى ولو! ماذا إن فقدت وعيك بالداخل أو حصل لك شيء لا قدر الله! كيف ننقذك وقتها؟ ابتسمت ابتسامة مهوّنة قائلا: بسيطة! تستطيعون عندئذ كسر الباب! ازداد انعقاد حاجبيها وهي تحاول كتم غضبها وتقول بصوت حازم: على أية حال، لا تفعلها مرة ثانية! من الجيد أن حرارتك انخفضت عمّا كانت عليه في الصباح. والآن تعال لتأكل معنا الغداء. ثم أمسكت يدي وسحبتني وراءها إلى الحمّام، ساعدتني على غسل وجهي ثم سارت معي حتى المائدة التي كان يجلس عليها زوج أمي يقرأ إحدى الجرائد بتركيز.. رفع رأسه بمجرد أن أحس بي وقال بابتسامة هادئة: كيف حالك يا نور؟ سمعت أنك مريض! قلتُ بإحراج: أنا بخير.. ثم جلست بهدوء وأنا أسمع أمي تقول: سوف أحضر لك حساء الدجاج، الأفضل ألا تأكل من هذه البطاطس المقلية وكُل سلطة وحساء فقط. تنهدتُ بخفوت: حاضر. انشغلت أمي في المطبخ أما أنا فنظرتُ إلى زوج أمي الذي يقرأ الجريدة مُخفيًا وجهه خلفها، بعد عدة دقائق وضعها على جانب الطاولة وهو يتنهد معلّقا: العالم كالعادة يضج بالمآسي! لم أعلّق وأنا أنظر إلى الطعام الموجود على المائدة، طبق معكرونة بالصلصة إضافة إلى بطاطس مقلية وشرائح لحم مليئة بالدهون.. بدأ زوج أمي الأكل وأنا أشاهده بهدوء. زوج أمي (بوارو) هو شخص هادئ، لكنه عصبي في كثير من الأحيان مع أمي. بيد أن أمي تحبه وتحترمه جدا. أكثر ما يعجبني فيه أنه لا يتدخل في علاقتي مع أمي بتاتًا. ولا يحاول فرض نفسه عليّ! أقصى ما يحدث بيننا هو السؤال عن الأحوال وتبادل الحديث عن أشياء روتينية. لكنني لم أشعر قبل ذلك قط أنه في مكان أبي، شعوره الأبويّ لا يوجهه إلا لإيلين وحسب. هذا لا يحزنني بالطبع، لكنني في بعض الأحيان.. أشعر كأي طفل في العالم. أنني أريد أبًا! -2- [قمر] استلقيت على سريري بهدوء وأنا أغمض عيني في تعب وهلاك، كان الزكام حادا وآلام حلقي تشتد إذا ما تكلمت، أو إذا أكلت، تذكرت أنني يجب أن أذهب إلى عمي الآن! ولكن أنا متعبة، أحتاج أن أنام، اليوم أعصابي مشدودة جدًا، وجسمي متهالك ومتراخٍ، ربما لأنه ما زال في مرحلة النقاهة من الحمى وحين فاجأته بكل تلك المفاجآت تهالكت قواه وتراخت عضلاته.. اليوم أكثر من حدث حصل، أولا عرفت أن عبيدة يعرف عني الكثير أو على الأقل يحاول أن يعرف، وثانيا مئات الأسئلة تدور في عقلي بما حدث اليوم لوسن، لماذا أصيبت في يدها هذا الجرح؟ لماذا هربت مني؟ ولماذا.. أسئلة كثيرة! وثالثا: آلاف الأسئلة بل ملايينها تحتج في رأسي المسكين لما حدث اليوم مع سيد هيثم وسامي! آه رأسي يدور كلما فكرت فيما حصل لي هناك! استرجعتُ ما حدث عندما بدأ يذكر السيد هيثم لي ما يريده مني! قال لي في هدوء: قمر أريدكِ أن تعرفي أن ثقتك هذه هي أهم شيء، يجب أن تثقي بي لكي تصدقي كلامي، فكلامي بالتأكيد حقيقة ولكن بقي ثقتك ونظرتك لي! قلتُ في نفسي حينها: كيف أثق بك ولم ألقك إلا قبل نصف ساعة فقط؟ وهو أكمل قائلا: سأحكي لكِ قصة، قصة حقيقية، وستستنتجين منها كل ما تريدين من معلومات! قبل 9 سنوات تقريبا، أسس أحد رجال الأعمال منظمة تطوعية خيرية لرعاية الأيتام، وكان اسم هذه المنظمة هي (جيمس).. كان هذا الاختصار تنويها بارعا، فاسمها: Je.ms باللغة الانجليزية، الذي يقرأ اسمها يعرف بشكل بديهي لم تم تسميتها كذلك، هذا لأن صاحبتها هي: جيهان مسرور، سيدة أعمال من أسست دار الأيتام تلك. لكن الأمر كان أكبر بكثير. فاسم: جيمس، اختصار لكلمتين هما: جيش المسلمين. وجيهان مسرور شخصية فقط اسمٌ على ورق، إنها تعيش على الأرض بالفعل، لكن لا علاقة لها بالمنظمة السرية التي نشأت تحت ستائر هذه الدار. هذه المنظمة بدأت قوية جدًا، كانت ترعى عشرات الأيتام، تعلمهم تعليمًا خاصًّا، وتدرب أجسادهم، وتطور عقولهم، وتصقل مهاراتهم، كان هدفها هو إخراج جيل من القواد الشجعان الذين ينهضون بهذه الأمة! وفي الحقيقة لقد نجحت أو كادت أن تنجح، لولا أن إحدى المنظمات الجاسوسية الغربية علمت بأمر منظمة جيمس هذه، بطريقة خبيثة لا أحد يعلمها، وقامت على تخريبها، سرقت أحد مراكزهم ليلا، مما سبب خسارة مالية لرجل الأعمال هذا! وسرقت مركزا آخر، وكانت سرقتهم تشمل الأحصنة والأثاث والطعام وكل ما في مركز الرعاية من غرف وصالات، مما جعل الصبيان الصغار في حالة فوضى وفقر مرة أخرى! ولم يعد المركز قادرا على رعايتهم وتربيتهم.. وفي الوقت نفسه عانى رجل الأعمال هذا خسارة هائلة في صفقاته التجارية، وبرغم هذا تمسّك بهؤلاء الأيتام تمسكا غريبا، ولم يتركهم، حتى جاء اليوم الذي فيه نهايته! همستُ في دهشة: قتلوه! أومأ السيد هيثم برأسه قائلا في أسف: نعم، قتلوه! وحينئذ تشتتت تلك المنظمة، وضاع الأيتام الذين فيها، معظمهم قُتل، ومنهم من أخذته المنظمة الجاسوسية تلك لتدريبهم وضمّهم إليها في سرية تامة، ومنهم من هرب منها وراح يعمل في أعمال متعددة. أنزلتُ رأسي في قهر وأنا أغمغم: كم تمنيت لو كنت حينئذ موجودة لأدافع عن رجل الأعمال هذا! قال سيد هيثم في برود غريب: لقد كنتِ موجودة بالفعل! رفعتُ رأسي إليه في دهشة واستغراب، فأكمل مبتسما بهدوء: لقد كنتِ موجودة لأن رجل الأعمال هذا كان والدك السيد آسر نوّار! شهقتُ متفاجئة في دهشة عظيمة، وأنا أردد بصدمة: أبي! كان هذا الرجل أبي! أومأ سيد هيثم برأسه قائلا: نعم، هو أبوك، لا أحد غيره! فهمستُ في خوف ومفاجأة: ومن قتله.. كان.. كان من هذه المنظمة الجاسوسية!؟ أومأ برأسه في صمت، وتركني في حيرتي وخوفي وصدمتي وتفاجئي في الوقت نفسه.. عمي هو من قتل أبي، إذن عمي من هذه المنظمة الجاسوسية؟ يا ويلي، لماذا؟ لماذا يا عمي غدرت بأخيك وتوأمك وأحب الناس إليك؟ غدرت به وقتلته؟ لماذا كل هذا؟ أمن أجل منظمة جاسوسية حقيرة حرضتك على ذلك؟ وكيف كان أبي رجلا عظيما هكذا وأنا لم أعرف؟ كيف أسس منظمة كاملة لتربية الأيتام وأنا لم أعرف؟ كيف قُتل وأنا سبب موته لم أعرفه؟ لماذا؟ لماذا لا أعرف شيئا عن والدي؟ لماذا كل شيء يكون غامضا بالنسبة إليه؟ لماذا لا أذكر حياتي مع أبي؟ لا أتذكر سوى بعض ابتساماته في وجهي.. وبعض المواقف النادرة وهذه الجريمة البشعة الذي قُتل فيها! آه يا عمي، لمَ حرمتني من أبي؟ لماذا؟ أعلم أنك تشعر بتأنيب الضمير الآن، وتحاول إصلاح خطأك بحنانك عليّ واهتمامك بي، وأنا شاكرة لذلك، ولكنني يا عمي، كلّ يوم.. أفتقد حنان أبي الذي لن تستطيع تعويضه لي أبدًا حتى ولو كنتَ أخاه وتوأمه العزيز! وقاطع سيد هيثم أفكاري قائلا: قمر.. سأكُمل لك القصة! رفعتُ رأسي إليه وأنا أهز له رأسي باستسلام وأحاول إخفاء مشاعري المضطربة، وما لبثتُ حتى اندمجتُ معه في قصته التي كان يقول فيها: المهم أنه أوصى إليّ بوصيته التي كان يقول فيها: قاومهم يا هيثم، إذا لم تقاومهم، سيصبح المسلمون عاجزون دائما عن تكوين أي جيش قوي حقيقي، كل فرد فيه معجزة بمفرده، وكل جندي فيه مدّرب منذ نعومة أظافره، ولهذا حاول أن تكوّن منظمة لتقاومهم وتهزمهم في عقر دارهم، ليتسنى لك بعدها أن تؤسس المنظمات الأخرى لتربية الأيتام وتدريبيهم ليصبحوا أقوى جيش في التاريخ، كان والدك رحمه الله مصرًّا على تحقيق هدفه حتى وهو على وشك الموت، فعزمتُ على تحقيق وصيته وهدفه، ومنذ خمس سنوات، بدأت بتأسيس هذه المنظمة الصغيرة، التي تقاوم المنظمة الجاسوسية تلك، بكل قوتها التي تملكها و انضم إليها عشرات متفرقة من الأفراد الذين أختارهم أنا! أو يعجب بهم سامي. قاطعته هذه المرة قائلة في فضول: من هو سامي يا أستاذ هيثم؟ ومعذرة على مقاطعتك. ابتسم لي بهدوء قائلا: من حقك أن تعرفي من هو الذي سيعمل معك في الأيام القادمة، حسنا، إنه شاب في التاسعة عشر من عمره، لديه قدرات عجيبة وفريدة في الوقت نفسه، فهو قادر على ضبط مشاعره وانفعالاته وإخفائها بوجه جامد هادئ، فهو هكذا منذ فقد والديه في حريق كبير وهو في العاشرة من عمره، ضمّه بعدها والدك في منظمته، فتعلم فيها حتى أصبح في الرابعة عشر من عمره.. وبعد أن دُمرّت المنظمة، هرب من أفراد المنظمة الجاسوسية المتوحشين الذين كانوا يعيثون في مقرنا فسادا، يقتلون من يريدون من الأطفال، ويحتفظون بمن يُعجبوا به، كانت مذبحة حقيقية للأطفال، مذبحة مأساوية بكل ما تعنيه الكلمة، وبالطبع كان كل همّ أفراد تلك المنظمة هو التخلص من أي شخص يحتفظ بعداوة قوية للإسرائيليين مع قوة رهيبة وتخطيط جيد وكان هذا ما يتوافر في الأطفال هؤلاء، مدربين على بغض إسرائيل أشد البغض، وكل من يؤيدها بقوة مثل أمريكا، يدربون كل يوم على القتال الجسدي والقتال النفسي والتعامل مع اليهود، ودراسة كل شيء عنهم! كان هدف أبيك مجنونا لكنه يعجبني. ولأن مقرات منظمة جيمس بعيدة عن المدن بعض الشيء، فلم تكتشف الشرطة أي دليل عندما وجدت المكان مليئا بجثث الأطفال، الفاعلون هويتهم مجهولة ولا يوجد أي دليل على من فعلها! ولكن الشرطة لم تنشر هذه الحادثة ولا يعرفها أحد، ولم يسأل أحد عن أي طفل فُقد لأن أولئك الأطفال مقطوعون من شجرة، لا أحد يعرفهم، ولا هم يعرفون أحدا! لذلك بقيت هذه القصة مجهولة لا أحد يعرفها إلا القليل جدا من الناس... وكانت حادثة قتل الأطفال تلك بعد قتل أبيكِ مباشرة. وسامي شهد هذه المذبحة، وهرب منها، وجدتُه في الطريق مُصابا بجروح بليغة، أخذته واعتنيت به حتى أصبحت أثق به ثقة عمياء، وها هو الآن أمامك! شاب رائع أليس كذلك؟ ابتسمت في إعجاب وأنا أقول: إذن هذا الشاب تعامل مع أبي ونشأ في منظمته؟ إنه لطيف وتبدو على وجهه علامات الذكاء والفطنة.. بادلني الابتسامة قائلا: نعم.. سيتعامل معك كثيرا في الفترة المقبلة، والآن يا آنسة قمر، هل أنت مستعدة للعمل معنا؟ لتحقيق هدف والدك؟ الذي لم يحققه؟ ابتسمت بحماس وظللت بعض الوقت أُطرق برأسي حتى رفعته وأنا أقول: نعم! ولكن ماذا سأفعل بالضبط؟ قال هيثم وهو يقدم لي ورقة مطوية: هذه بها رقم سامي، هو الذي سيُحضرك إلى هنا من الآن فصاعدًا، أعرف أن لديكِ هاتفا.. قلتُ: لكنني لا أستخدمه، كما أن عمي يجب ألا يعرف أليس كذلك؟ قال بجدّية: طبعا يا قمر، احرصي على إخفاء هذا الأمر عن عمك تماما، فهناك احتمالية كبيرة أنه لا يزال يعمل مع المنظمة الجاسوسية التي حرضته على قتلك والدك، كما أن عليك استخدام هاتفك للتواصل مع سامي، إذا كان معطلا فبإمكاني أن أصلحه لك.. أريد الحديث معك في وقت قريب. قلت متنهدة: غير معطل، وإنما أنا من أتركه، فليس لدي أحد لاتصل به، أنا أيضا أريد الحديث معك، ولكن تأخرت كثيرا على المنزل! أجابني وهو يقوم واقفا ليصافحني بعينين جادتين: حسنا يا قمر، أثق بك، أعلم أنني لم أُعط لك الضمان الكافي ولن ألومك إذا لم تصدقيني.. لكني أحترم والدك كثيرا، ولدي صورة له وهو معي.. إذا أردت رؤيتها. أومأت برأسي في حماس شديد، فأخرج الصورة من أحد أدراج مكتبه وأراني إياها، لقد كان صادقا، أبي يقف بجانبه متبسما بهدوء.. "قمر" انتبهتُ على صوت رهام التي أطلّت من وراء الباب فوجدتني نائمة على سريري شاردة الذهن، ابتسمت قائلة: السيد ياسر ينتظرك! تنهدت وأنا أمسك برأسي الذي يؤلمني، وأومأت برأسي موافقة دون أن أتكلم، ونزلت إليه في هدوء رغم تعبي الشديد.. -3- طرقت الباب فسمح لي بالدخول، وكعادته وجدته مشغولا في مراجعة بعض الأوراق، وأمامه جهازه المحمول وكأس شاي شُرب حتى نصفه! رفع رأسه لي ببرود ثم أغلق الجهاز وأشار لي بالجلوس، جلست في بطء وأنا مستعدة لجرعة العتاب المستفز التي سيقولها لي، سألني على الفور في حدة جامدة: لمَ تأخرتِ؟ نظرتُ له وتكلمت بصوت شديد البحّة: كنت أحل واجباتي ولم أعرف أنهم ينتظرونني، وعندما خرجت ولم أجدهم لهوت قليلا مع إحدى صديقاتي.. نظر لي بعمق ثم غمغم: ومن هي تلك الصديقة؟ شعرت بتأنيب الضمير وأنا أبعد عيناي: لن تعرفها، فأنا لا أجلس معها إلا قليلا. قطب جبينه بانزعاج: من هي؟! قلتُ في استسلام وبصوت شديد الانخفاض من أثر تعبي وإجهادي: اسمها سامية! أنا قلت الحقيقة! إنه سامي ولكنني أضفت التاء المربوطة فقط! قال لي: هل لديكِ رقم هاتفها؟ سأتصل بها لأتأكد! تهربت: لا.. فهي لا تملك هاتفا! قال بعينين ضيقتين: إذن عنوانها؟ تأتأتُ: آهي ستسافر اليوم للأسف! قال: لا بأس سأنتظر عودتها! قلتُ: يبدو أنها ستسافر نهائيا ولن تعود! نظر لي بدهشة ممزوجة بالتضايق فأنا أعلم يقينا أنه يعلم أنني أكذب! فقال: وأنتِ؟ ما دمت صديقتها فلابد أن هناك وسيلة للتواصل؟! قلت بإنهاك: إنها ليست صديقتي كثيرا ولم أرد أن أتواصل معها أصلا! تنهد عندما علم أنني غلبته بكذبي، لقد كان يريد أن يوقعني، أما أنا فقد أغمضت عيني لأريح عقلي المجهد قليلا، ولكنني وجدته يقول مبتسما بسخرية: بالطبع، كاذبة مثل أبيك! بمجرد ذكره لأبي شعرت بمشاعر هائجة تنفجر في قلبي، يجب ألا يذكر اسم أبي على لسانه القذر! تذكرت المقابلة التي تمت مع السيد هيثم وما أخبرني من معلومات! ونظرتُ إلى عمي بابتسامته الساخرة الهادئة، وتذكرت أنه من منظمة جاسوسيّة حقيرة، وأنه الذي قتل والدي وأنه.. آآآآآه عقلي سينفجر من الصداع، رأسي يؤلمني جدا! جئت لأقوم من مكاني فإذا الدنيا تدور في عيني، أتعلمون؟ الساعة الآن هي الخامسة عصرا وأنا لم آكل أي شيء منذ الإفطار إلا الزنجبيل بالليمون، أي أنه بقي لي 12 ساعة لم أكل. إضافة إلى صدماتي اليوم التي أرهقت أعصابي، وإلى مرض الزكام الذي أخذ يشتد علي حتى التهب حلقي وبدأت أشعر بالعذاب كلما تكلمت أو ابتلعت ريقي.. جلستُ مرة أخرى، واختلست نظرة إلى عمي الذي فتح جهازه المحمول مرة أخرى، وهو ينظر لي في برود: لماذا تكذبين؟ كان وجهي يتعرق وتنفسي صار أبطأ، وحلقي أيضا، ملتهب بشدة! وبرغم كل ذلك، رفعت نظري إليه بتحدَ ثم قلتُ بقوة: أنا لا أكذب! تنهد في ملل وهو يكتب بضع كلمات على جهازه ثم يغلقه مرة أخرى، ويرتب بعض الأوراق في ملف خاص بها ثم قال دون أن ينظر لي: ألا تملّين من الكذب؟ ألا تخجلين من نفسك؟ لم أرد وإن كان ذلك قد ألهب أحشائي، وما جعل رأسي تنفجر هو قوله باستفزاز وهو يقوم واقفا: أم أن شيخ المسجد الذي تذهبين له لم يُخبركم أن الكاذب في النار؟ أغمضت عيني بإجهاد وأنا أشعر بأن الدوار يزداد، يا إلهي، لمَ لا يُشفق على عمي قليلا، ألا يرى ما أنا فيه؟ وعندما فتحتهما بصعوبة شعرتُ بضوء الغرفة يؤلمني كثيرا، فرفعت ذراعي وأحطتُ بها وجهي وأنا أحاول رؤية مكان عمي فقد رأيت كرسيه فارغا! التفت بضعف لأجده جالسا أمامي مباشرة وهو ينظر لي نظرة ثاقبة! قال لي مستنكرا بنبرة ثابتة: لا تحاولي أن تمثلي المرض لأجعلك تعودين إلى غرفتك! لن تعودي لها إلا وقد عرفتُ إلى أين تذهبين وتختفين بهذه الطريقة؟ وخصوصا اليوم، أين اختفيت منذ الظهيرة وحتى العصر؟ لا تفكري بأن تجعليني أشفق عليك وأتركك هذا اليوم! هذه المرة، لم ينفجر رأسي من الصداع ولا حلقي من الالتهاب ولا أحشائي من الغثيان بل انفجرت عروقي من أثر الغضب! من يظن نفسه ليعاملني بتلك الطريقة؟ حسنا، مادام قد تحداني! فأنا سأخرج من هذه الغرفة التعيسة رغما عن أنفه! وقمت واقفة وهرولت بسرعة نحو الباب! -3- [ياسر] وجدتها تقوم معلنة التحدي، فأمسكت يدها بعنف وسحبتها إلى وأنا أقول محاولا السيطرة على مشاعري: لا تظنّي أنك ستذهبين قبل أن تقولي الحقيقة! ولكن لدهشتي فقد وجدتها تهوي على بانهيار دون أن تقاوم، سقطت على الأرض فجلستُ بجانبها وبعض من القلق يتسلل إلي، أتراها مريضة حقا؟ أتراها لا تدّعي المرض؟ كانت يدها دافئة قليلا، ولكن هذا ليس دليلا على مرضها، وجدتها تحاول رفع رأسها لكنها تأوهت بضعف وهي تسند رأسها إلى ركبتي دون شعور منها، وتئن بانخفاض وهي تُمسك رأسها بيديها.. شعرت بشعور غريب في جسدي، ارتجف قلبي قلقا عليها، ما بها؟ ماذا يجري لها؟ أكل هذا بسببي؟ لأنني خائف وأريد الاطمئنان عليها بمعرفة ما تفعله عند الظهيرة؟ آه كم أتمنى لو نلتُ ثقتها! لو جعلتها تنسى ما فعلتُه في الماضي وتنظر لي نظرة تقدير واحترام على أنني عمّها! عمّها الذي من دم أبيها! أبوها الذي كان أخي التوأم وشقيقي الحبيب، رغم ذلك لا أدري ما تلك الحالة الجنونية التي أصابتني حينئذ وقتلته بيدي هاتين! جعلته يترك البنت الوحيدة التي ليس لها أحد في الدنيا غيره، جعلتُها بنتا يتيمة بغبائي وتهوري، لقد أقسمتُ لك يأرب أنني نادم على ما فعلتُ وسأحاول استدراك خطأي، أقسمتُ لك يا الله! كما قتلتُه بيدي هاتين، سأربّي ابنته بيدي هاتين.. لن أجعلها تضيع في هذه الدنيا.. سوف أجعلها تتأكد أن لها والدا حنونا يخاف عليها مازال يعيش ليحميها ويرعاها.. ولكنها هي من تفهم تصرفاتي خطأ، أو لستُ أدري...! قمر تلك تبدو إنسانة غامضة جدا لم أفهمها يوما واحدا، فتارة أجد في عينيها مشاعر التقدير والاحترام، وتارة أرى فيها مشاعر العدوانية والانتقام والكره. ومرة أرى عينيها حزينة حزنا لا نهاية له، ومرة أخرى أجدها بعينين متسعتين فرحتين لا مباليتين بهموم هذه الحياة الدنيا. ولكنني عندما أسألها وأحاول الاطمئنان عليها، تكذب علي وتراوغني، في الحقيقة إن هذا يؤلمني كثيرا فهذا أكبر دليل على أنها لا تثق بي لهذا لا تقول الحقيقة.. حاولت استخدام الشدة واللين، لكن لا يجدي.. يبدو أنها لن تغير اقتناعها عني أني قاتل دموي عنيف كما رأتني في تلك الليلة. أفقت من أفكاري على بلل في بنطالي، عند ركبتي تحديدا! لقد كان موطن رأس قمر، أمسكت يديها الاثنتين وقلتُ: قمر.. ما بك؟ رفعتُ رأسها إلى لأجدها تبكي بدموع حارّة، وعينين غارقتين في الألم، شعرت بأن هذا المنظر مزّقني كثيرا وجعلني أتمنى لو علمت ما سبب كل هذا لأخفف عنها. على فكرة، قمر لا تبكي إلا نادرا، ومن شيء عظيم جدا، لهذا ترون القلق العظيم يتفجر في داخلي الآن. هذا الشيء زادني إصرارا على أن ما حدث اليوم له علاقة قوية بما أراه أمامي، لهذا نظرتُ بجدية إلى عنينها وقلتُ: ألن تُخبريني ما حدث اليوم؟ وجدتها تُغمض عينها وتسد أذنيها وهي تهتف بانهيار: يكفي هذا ابتعد عني ماذا تريد مني؟ فوجئت بها وهي تبعد عني في عنف وهي تزحف على قدميها دون أن تقف حتى استندت إلى جدار مكتبي ودموعها تنهمر على خدّيها المحمّرين، اقتربت منها وأنا مندهش من تصرفها ذاك ومددت يدي لأمسح على شعرها لكنها صرخت: لا.. لا تلمسني، لا تقتلني. لا.. تراجعت إلى الوراء فورا من صدمتي، ماذا تهذي به تلك الفتاة؟ ألم أقل لكم؟ إن قناعتها لن تتغير بأنني قاتل دموي بشع! تنهدت في حيرة وأنا أراها تدفن وجهها بين ركبتيها وتئن باكية لا أدري لماذا! حتى وجدتها تقول: آه رأسي.. يؤلمني.. كثيرا! علمتُ أنها متعبة والصداع يؤلمها، قلتُ لها في عطف وإشفاق: لا تقلقي لن أسألك مرة أخرى عن شيء، قومي ارتاحي في غرفتك.. لم تستجب لي بل ظلّت عدة دقائق على حالها ثم رفعت رأسها بتعب، ابتسمت لها واقتربت: ألا تستطيعين الوقوف؟ إذن سأحملك.. وبالفعل حملتها ببساطة وكأنها نائمة، أسندتُ وجهها إلى كتفي ولدهشتي فلم تعترض على شيء بعد أن كانت منذ قليل تصرخ في وجهي بألا ألمسها. قمر تُثير حيرتي كثيرا وتجعلني أدور حول نفسي في جنون من تصرفاتها الغريبة معي! وأنا صاعد على السلم وجدت دانة تهبط، وعلى الفور ظهر على وجهها الاستياء الشديد وأمسكت خصرها بيديها قائلة في اعتراض: أبي، لماذا تحملها؟ إنها كبيرة كفاية لتمشي على قدميها.. ابتسمت بسخرية لنفسي وحاولت أن أقول بلطف: إنها متعبة قليلا ولا تستطيع المشي.. همت بالاعتراض ثانية إلا أنني سبقتها ودخلت غرفة قمر ومددتها على سريرها في رفق، وجدتها تئن في ألم، يبدو أن صداعها شديد، جلبت لها كأسا من الماء وقرصا مسكنا ثم ساعدتها على تناوله، لا أدري إذا ما كانت واعية أم لا. لكن الشيء الذي أدركته أنها كانت متعبة جدا، مم؟! هذا هو ما يُحيرني.. |