تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :
رواية عيون لا ترحم [1] عمي قاتل-1- [قمر في عمر العاشرة] كنت أركض مسرعة وأنا ألهث.. عسى أن أصل إلى المنزل قبل أن يصل إليه عمّي! يا ويلي، نسيت أن عمي يعود إلى المنزل اليوم في الساعة الخامسة عصرًا. وها قد وصلت الساعة الآن إلى السابعة بعد المغرب، والدنيا أظلمت تماما. رأيت السمـاء تلمع، بضوء أبيض مبهر.. إنه البرق. مع صوت الرعد المخيف. بعد ثوانٍ.. أمطرت السماء.. وكان المطر شديدا.. جدا.. هكذا سأتبلل.. لا بأس.. أنا أحب المطر! لم أكن أنظر إلى موضع قدمي.. بل أُرسل نظري إلى تلك البنايات المرتفعة التي تقترب من منزل عـمي، كنت أصطدم بالكثير من المارّة وأنا أركض لكن لم يهمني ذلك أبدا! كل همّي الآن أن أصل بسرعة! ولكن زلّت قدمي فجأة وهويت على وجهي وقد اصطدم أنفي بالأرض بقوة. شعرت بألم كبير في أنفي، إضافة إلى كدمة خالد اليوم في فكي وخدّي، آه لقد عانى وجهي الكثير هذا اليوم. تابعت السير بإصرار حتى وصلتُ.. كان المنزل الذي وقفت عنده يتميز ببوابته الحديدية الصلبة.. اقتربت من البوابة بحذر خوفا من أن يلاحظني البوّاب، ولكن اطمئن قلبي حينما تأكدت من عدم وجوده.. رحت أتسلق الباب بسرعة وأنا أشعر بالتعب الشديد، وعبرت الحديقة الخلفية للمنزل، ثم وقفت تحت شرفة كبيرة.. كان هناك سلّم يوصل من الحديقة إلى الشرفة في الطابق الثاني، صعدته ثم وصلت إلى الشرفة، ومن الشرفة إلى غرفة مظلمة حالما وصلتها فتحت أنوارها فورا، وألقيت نظرة متضايقة على الكدمة. إنه خالد الغبي، دائما أتشاجر معه بعد حصص الفنون القتالية! للتأكد من منا فهم الدرس جيدًا! لكنه يأخذ الأمر على محمل الجد ويجعلها معركة موت أو حياة! يا له من بائس! سمعت أحدا ما يطرق الباب، قلت بصوت عال: من؟ ادخل. دخلت ريهام وهي تقول: آنستي السيد ياسر يطلبك في الأسفل. رددت خلفها ببرود أُخفي قلقي: عمي؟ مـاذا يريد؟ قالت ريهام وهي تهز رأسها: لا أدري آنستي، لقد طلب مني ذلك قبل دقائق. قلتُ لها: حـاضر سأنزل الآن. وضعت ضمادة لأخفي الكدمة التي تحوّل لونها إلى أزرق مخضّر ثم نزلت إلى الطابق الأرضي وتوجّهت إلى مكتب عمّي، طرقت الباب، سُمح لي فدخلت. كانت الغرفة مظلمة، باب النافذة مفتوح، وضوء القمر يتيح لي رؤية بعض الأشياء البسيطة في الغرفة.. نظرت إلى أنحاءها لكنني لم أستطع رؤية شيء إلا أريكة كانت تركن تحت النافذة المضيئة.. زجاج النافذة كان مغلقا؛ لذلك لم تدخل قطرة مطر واحدة إلى الداخل.. ولم أكن أرى من خلال النافذة إلا قطرات المطر التي بللت زجاج النافذة من الخارج. فجأة لمع ضوء البرق، رأيتُ شبحا، فانتفضتُ رعبا، حدّقْتُ إلى مكان الشبح بعد أن انتهى البرق.. اكتشفت أنه عمي، كان صامتا كما التماثيل.. قلت لـعمّي متسائلة: لمَ تجلس هكذا في الظلام؟ لم يُجب بل قـام من مكانه، ثم ضغط شيئا في الجدار بعدها فُتحت الأنوار.. وظهر عمي.. كان شديد الشبه بـ أبي، ولا عجب فهو توأمه! قـال وهو يبتسم: لقد ظهر النور الآن.. أتراكِ ارتحتِ؟ أومأت برأسي بصمت، ثم قلتُ: ماذا كنتَ تريد مني؟ ابتسم ثم قال ببساطة: رأيتكِ وأنتِ تتسلّـقينَ البوَّابة وتهربِين إلى غرفتك من خلال سلم العم صابر البستانيّ.. لم أركَ اليوم فقطْ.. بل كنتُ كثيراً ما أراكِ تفعلين ذلك دبَّ إلى قلبي بعضُ الخوف، ولكن استعدت قوَّتي ثم أجبته ببساطة مماثلة: حسنا.. وماذا بعْدُ؟ قال وهو يتظاهر بالدهشة: عجباً.. كنتُ أظنّك ستعتذرين بسبب تصرفاتك السخيفة مؤخراً. -لا لن أعتذر.. أنا لم أفعل شيئا خاطئا. -بل فعلتِ. -وما هو؟ -لا تظنّي أنكِ لا تحاسبين هنا على أعمالك.. أنا عمّك وفي مقامِ والدكِ.. يجب أن تعودي فورَ انتهاء دوامِ مدرستك! وإن كانت لديك حصص فنون قتال أو حصص تحفيظ القرآن تعودين بعدها فورًا! لكنك تتسكّعِين هنا وهناك ثم ترجعين إلى المنزل مسرورة.. -من المستحيل أن تكون في مقام والدي.. أو حتّى أعتبركُ أنا والدي. فجأة رأيت نظرةً مرعبة ارتسمت في عينيه، بل على وجهه كله، نعم.. ذلك الوجه الذي ما زلت ُ أذكرهُ حتى الآن.. حين مقتل أبي.. نظر إليّ نظرة حركت كل مشاعر الخوف في داخلي، فأنا الآن _ رغم تظاهري الشديد بالقوة _ أجد نفسي غير قادرة على رفع عيني لمواجه عينه السوداء الفاحمة.. قال هوَ بلهجة صارمة: الأمر ليس كما تظنين.. سمحت لك بالعودة متأخرة بضع أيامٍ فقط، ولكن لمّا رأيتك تزيدين عن حدّك قررت منعك من مغادرة المنزل إلا للمدرسة.. لقد أخبرتني جوهرة أنك صرتِ تعودين في بعض الأوقات الساعة العاشرة ليلا.. لقد عرفت أنكِ لا تستحقين الحرية! ثم أضاف بسخرية: إذا أكرمت الكريم ملكته.. وإذا أكرمت اللئيم تمردا.. قلتُ بتحدٍ وأنا أرفع رأسي بحزم: إذن أنا لئيمة.. ولكنك.. قاطعني بهدوء: أنا ماذا؟ ابتسمت من زاوية واحدة وقلت ساخرة: أنت أكثر لؤمًا مني. لكنني ندمتُ فورًا على قولي عندما رأيت ملامحه الجامدة تتحول إلى ملامح مُرعبة، بدأ يقترب مني فتراجعت وأنا أبتلع ريقي، وجدته يقف وينظر إليّ ببرود: على كل حال، إذا علمت أنك تأخرتِ عن الموعد المحدد للعودة ستُمنعين من الخروج من المنزل في اليوم التالي، أهذا مفهوم؟ _ انتهى يومي الدراسي بسرعة، سرتُ أول الطريق مع عائشة وتبادلنا الحديث ثم ودعتها عندما وصلت إلى بيتها وأكملت طريقي، أعترف إن الطريق طويل وأنا أسيره كل يوم، وأرفض مناقشة عمّي في أن يوصّلني العم سعد بسيارة عمي ... لا ريب أنني غبية لأنني أُتعب نفسي كل هذا التعب! آه لكنه تعبٌ مسلِّي، فأنا أشاهد الطرق كلها، تقريبا حفظت شوارع المدينة.. أخيراً.. اقتربت من منزلي، بل.. منزل عمّي! مقتل أبي كان قبل خمس سنين، باع عمي قصر والدي، ووضع ثمنه في حسابي. إضافة إلى المال الذي تركه لي أبي، والمجوهرات، والعقارات، وحتى المشاريع الضخمة الناجحة، كلها تنتج أموالا هائلة، توضع في البنك في حسابي.. لا أعلم ماذا سأفعل بذلك المال كله، كنت أحلم بأن أذهب وأحرر فلسطين، وأساعد الشيشان، وكل الدول المحتلة، نعم سوف أخذ مجموعة كبيرة من الشباب وأدرّبهم حتى يصبحوا جيشاً جبّارا، يحرر المسلمين من هذا الظلم والعدوان.. ابتسمت بسخرية وأنا أحدث نفسي: وهل أستطيع هذا فعلا؟! ربما يضحك عليّ عمّي.. ويسلبني أموالي.. إنه قاتل!! وهناك احتمالية كبيرة بأن يكون سارق، وغد، محتال! ربما يقتلني أيضًا ولن أحقق أي شيء! كلا يا قمر يجب عليكِ ألا تتخلي عن أحلامك وأهدافك.. ولمَ لا أستطيع تحرير القدس وبلاد المسلمين؟ ولمَ لا أستطيع رفع رأس الإسلام؟ ولمَ لا أستطيع جعل كل الفقراء أغنياء.. نعم.. ربما يكون هذا مستحيلا، لكنني من أعماق قلبي لا أعتقد أن هذا مستحيل.. آه.. لماذا حينما أفكر في ذلك أشعر بقلبي يكاد يقف! لا بأس.. ها قد وصلتُ إلى البوّابة. -2- [نور في عمر العاشرة] وقفتُ أتأمل غروب الشمس بصمتْ على سطح منزلنا وأشاهد أختي إيلين وهي تلعب في ساحة المنزل الخارجية بمرح. كانت تلعب مع زميلها أرو، إنه صبّي مرح في سنّ أختي الوحيدة.. وقعتْ عيناها عليّ، فلّوّحت بيدها فرحةً.. ابتسمت لها، ورفعتُ وجهي مرة أخرى لأعيدَ النظر إلى الشمس، كان منظراً مؤثرا، وكأني أشاهده لأول مرة.. لكنني في الواقع شاهدته كثيرا جدا، وكل مرة أستمتع أكثر.. لقد بدأ الوقت يمرّ بسرعة، وستأتي اللحظة الحاسمة التي تختفي عندها الشمس تماما من سماء روما. وسيظلم الليل، وأذهب لدرس الجغرافيا الممل.. لا تذكرتُ، اليوم عطْلة.. إذاً، سأخرجُ للعب، أو تزورنا الخالة ياسمين إنها صديقة أمي ولكنها غير محببة إلي.. "نـور.. تعالَ لتأكل، لا تنسَ مناداة إيلين معكْ" تنَهّدتُ وناديت أختي التي انزعجت منّي وتضايقت، وفضّلت اللعب على الأكل.. قلتُ لها: إذا لم تأتِ سآكل الطعام وحدي ولن تجدي ما تأكلينه. قالت بغضب وهي تكمل لعبها مع أرو: لا بأس؛ افعل ما يحلو لك يا نور! تجاهلتها وذهبت منفردا، رغم أن أمّي وبّختني على عدم حرصي على أختي، فهي تلعب كثيرا وقلّما تأكل، شعرت بالغيظ من إيلين، دائما ما تسبب لي المشاكل ذهبت أمي بنفسها ونادتْ أختي، وسَأَلَتْها عمّا إذْ كُنْتُ قد ناديتُهَا، فأجابتْ أخْتي بالنَّفْيِ.. تضاعف توبيخها لي، قلتُ في احتجاج: أمي.. لقد ناديتُ إيلين عندما أمَرْتِنِي، ألا تثقين في قولي؟ كان ردّها ببساطة: كلمّا كبر الإنسان ازدادت نسبة الكذب فيه، وأختكَ ما زالت صغيرة ولا أظنها ستكذب، لذلك من الأجدر عليّ أن أصدقها _ وتكذِّبِيني أنا؟ من أجلِ أنها صغيرة؟ _نعم، هل تريديني أن أصدقكما أنتما الاثنين، وأقوالكما مختلفة؟ _هذا يكفي يا أمي، لقد كبّرتِ الموضوع! ونظرتُ إلى أختي بغضب، فابتسمت هيَ.. وكأنها تغيظيني بكذبها!! -3- [قمر] الآن هيَ الساعة السابعة ليلاً، آه كم أود لو أذهب لأرى ما يفعله عمي، خرجتُ من غرفتي بهدوء. ذهبت إلى المكتب، وطرقت الباب ثم دخلت وأشعلت الضوء، كان مكتبه فارغاً.. جلتُ ببصري في أنحاء غرفة المكتب، وثبت نظري على خزانة أمواله.. لم تكن مفتوحة ولكن كان عليها صندوق غال الثمن. صندوق أحـمر ومطرز بالفضّة، نعم.. يا ترى ماذا بداخله؟ أشتعل شوقا لأنظر، اقتربت من الصندوق، أكثر فأكثر.. ثم أمسكته، تحسسته بيدي، ملمسه ناعم، صندوق خفيف. ضغطت على زرٍ ما في واجهته الأمامية، فانفتح الصندوق، وحانت اللحظة الحاسمة للمعرفة، ولكن فجأة لم أُبصر ما أمامي فقد انطفأ الضوء، وانتفضت برعب حينما أحسست بيدِ عمّي القويّـة وهي تُوضع على كتفي مرة أخرى.. ارتجفت ولم أستطع النطق، قال بصوته المُرعب: لِـمَ دخلتِ إلى هُنا؟ أغمضتُ عيني بقوة وابتلعت ريقي بصعوبة، ثم قلتُ: لم أدخل. ضحك عمّي، ثم قال: جيد أنك اعترفت بدخولك، هيّا يا حبيبتي اتركي هذا الصندوق من بين يديك، واخرجي من مكتبي. استرددت بعض شجاعتي ونطقت: أريد أن أعرف ما بداخله! أمسك هو الصندوق من بين يدي وأعاده لمكانه فوق خزانة الأموال، ولم أستطع رؤية وجهه لأن ذرة من الضوء لم تكن موجودة. وقال وقد لاحظت ابتسامته ولا أعرف كيف لاحظتها: بعض من المعرفة قد تضرّك. قلتُ له وقد غضبتُ إلى حد ما: آها، لذلك أطفأت الضوء! كنت ترجو عدم رؤيتي لأي شيء. حينها عاد الضوء فرأيت وجهه بوضوح وهو يغمز لي قائلا: نـعم تماما، كنتُ أصرُّ على عدم رؤيتك لشيء ما. ثم جلس عمي على الكرسي الذي خلف المكتب وقال لي: ثم لماذا دخلتِ هنا؟ ألم يعلمك أبوك آداب الاستئذان؟ شعرت بغصة في حلقي، إنه يستهزأ بي وبأبي! ألا يكفي أنه قتله؟! أنزلتُ رأسي أرضا، جسدي غير قادر على الحراك ولساني لا يستطيع النطق بكلمة، شممت رائحة دخان سجائره فعرفت أنه سيبدأ بالتدخين، فاستدرتُ وقفلتُ راجعة إلى غرفتي وأنا أشعر بقهر مرير في صدري، فكل يوم تحصل مثل هذه المواقف كثيرا ولا أحد يستطيع أن يدافع عنّي أو عن أبي! حتى أنا! |