"أمل وألم"
وبالفعل، خرجنا ثلاثتنا من غرفة يوكي الواقعة في طابق رجال الأعمال واتجهنا نحو المبنى المقابل ونحن في منتصف الليل، مررنا في طريقنا ببعض أفراد جهاز أمن المستشفى وبعض الأطباء المناوبين الذين ما يلبثوا إلى وأن ينزلوا رؤوسهم احترامًا لابن مالك ومدير المشفى يوكي.
فور وصولنا أخذنا ذلك المصعد ذو الجدران الزجاجية والمؤدي للطابق الرابع، بمجرد أن فتح الباب أدليت إعجابي بتلك الجدران المزخرفة والأرضية الرخامية وقلت بصوت طغى عليه الذهول:
- وآآآآآآآآآآه .. أهذا فندق أم قسم الإدارة؟!!
- لا هذا ولا ذاك، إنه قسم الاجتماعات ومكتب أبي
- هكذا إذن
كانت المصابيح تضيء في البقعة التي ندوس عليها وتنطفئ فور أن نبتعد عنها، بسخرية علقت رينا:
- آمل ألا تكون أضعت مكتب السيد براون في هذا المكان الشاسع!
- مكتب السكرتير أمامنا، فور أن نتخطاه يأتي مكتب والدي
- سكرتير أيضًا؟
- بالطبع! لكن، لا أظنه يعمل الآن .. نحن في منتصف الليل بعد كل شيء
دخلنا مكتب السكرتير الذي لم يكن أقل فخامة من ذلك الطابق، وتخطيناه لنصل إلى باب خشبي طرز باللون الذهبي، أنا ورينا في المقدمة وخلفنا يوكي الذي طغت عليه علامات التوتر، عمَّ الصمت علينا فجأة ولم نحرك ساكنا حتى همست رينا:
- ماذا؟ ألن ندخل؟!
- بلى .. ما رأيكِ أن تطرقي الباب؟!
- أنا؟! أنت من يريد ذلك يا يوكي!
- أرجوكِ!! أنتِ من أقنعني بالمجيء إلى هنا
- وماذا أقول له بالضبط؟
- اطرقي الباب وادخلي ... ونحن سندخل بعدكِ
- كلا! هذا محرج!!
- إذن ادخل أنت يا شيجيرو!
- وما دخلي أنا ..؟!
- أنت أيضًا تريد سؤاله عن صحة ما سمعته عن نفسك، لا تنكر!
- بلى ولكن ...
- هيا استجمع شجاعتك وادخل!
- اسمعوا من يتكلم!
في وسط جدالنا السخيف، فُتح ذلك الباب ليظهر السيد ناوكي الذي ابتسم فور أن رآنا ثم علق: "أوه! السيد شيجيرو والآنسة رينا .. و .. يوكي أيضًا!"
فور أن نطق اسم يوكي التفت أنا ورينا لنرى ذلك الفتى قد توقف فور أن شارف على الخروج من غرفة السكرتير، توجه السيد ناوكي له بخطوات شبه سريعة ثم وضع يده على كتفيه وهمس له بشيء جعل كتفيه يرتخيان بارتياح، قاد السيد ناوكي يوكي إلى الغرفة ثم أشار لنا بالدخول.
دخلنا أنا ورينا تلك الغرفة العملاقة بعد يوكي والسيد ناوكي على الفور، ولن أخبركم عن الفرحة التي غمرت السيد براون لدى رؤية ابنه يوكي قد أتى بنفسه .. بسرعة قام من كرسيه واتجه نحونا أو بالأصح اتجه ليوكي ثم وضع يده على كتف يوكي الأيمن وقال بهدوء "ادخل يا عزيزي!"
دون أن تتلاقى أعينهما .. سمح يوكي لأبيه أن يقوده نحو مجموعة من الكنب ذو الجلد الأسود ويُجلسه عليه ثم سأله: "هل أكلت أو شربت شيئًا منذ استيقاظك ..؟"
لم يجب يوكي بشيء ولكن السيد براون أشار للسيد ناوكي بعينيه ليفهم هذا الآخر ما كان يقصده ويغادر المكتب .. وهكذا بقينا ثلاثتنا برفقة السيد براون الذي لاحظ تلك الأجواء الثقيلة فسأل بلا تردد: "أهناك أمر ما؟"
لم يتجرأ أحد على البدء بالحديث، يوكي أخذ يحدق بالأرض طوال الوقت أما رينا فقد أخذت تنظر إلى زاوية الغرفة حيث يتواجد طفل نائم بسلام تمت تدفئته بمعطف أحدهم، تنهدت بعمق عندما أدركت أن لا أحدث سيتحدث ونظرت إلى السيد براون ثم قلت بهدوء:
- الحقيقة أن لدينا أنا ويوكي ما نسألك عنه ..
- همم، كلي آذان صاغية
سحب السيد براون أحد الكرسيين المتقابلين أمام المكتب ووضعه أمامنا ثم جلس عليه وأردف: "يمكنكما سؤالي عن أي شيء .. لا تترددا"
لم أعرف كيف أبدأ بالشرح، أأسأله عن ماضيه مع العصابة؟ أم أسأله عمّا حدث لي؟ أم عن سبب تبنيه ليوكي؟! بعد تفكير استغرق بضع ثوانٍ قررت البدء بأسهل موضوع عليه .. وأصعبه علي .. موضوعي أنا مع العصابة
- حسنًا .. في الواقع .. ذلك الشخص الذي كان معنا في الغرفة عندما دخلت علينا .. قال أشياء كثيرة متعلقة بي وبيوكي وحتى بك أنت .. ولكي أًصدقك القول، لم نستطع إخراج صوته من رؤوسنا حتى هذه اللحظة
- هممف .. وماذا قال لكما ذلك الوغد ..؟!
- قال شيئًا .. عن كوني رأيت عملية استئصال أعضاء بأم عيني .. ولكني .. لا أتذكر شيئًا من ذلك عدا بعض الصور المشوشة ..
- فهمت .. ألم تسأل أحدًا عن الأمر؟
- سألت أمي .. ولكنها لم تجب .. قالت أني أنا من تسببت بالنسيان لنفسي ..
- أتريد معرفة ما حدث حقًا؟!
- ليس الأمر وكأني أريد ذلك .. ولكني نوعًا ما .. أشعر بوجود شيء أشبه بالفراغ في ذكرياتي
- فهمت
صمت السيد براون لفترة ثم قال:
- اسمع يا بني، لعل ما سأقوله لك الآن سيجلب لك آلامًا كنت في غنى عنها، ولكن ثق أنه قرارك، وثق أيضًا أن الأيام بحلوها ومرها هي ما تصنع الإنسان، وأن المصائب تصنع الرجال
- م – معك حق
- لن أطيل في التفاصيل فلست في حاجتها.. الحقيقة أنه على عكس كل الأطفال الذين تم اختطافهم فقد لقد ذهبت إلى وكر العصابة بنفسك .. لا أعلم كيف وصلت إلى هناك .. ولكن عائلتك قالت أنك ضعت في رحلة مدرسية إلى إحدى المزارع أو ما شابه .. على مبعدة من تلك المزارع، كان يتواجد هناك كوخ قديم والذي استعملته إحدى فروع العصابة لبعض الوقت .. لسوء الحظ فبمجرد أن دخلت الكوخ قبضوا عليك وجعلوك تشهد عملية نقل أعضاء بأم عينيك .. وعندما اقترب دورك تمكنت الشرطة من القبض عليهم!
كالمطر تمامًا نزلت في رأسي كثير من الذكريات المفجعة والتي حاولت على إثرها إخفاء تغير ملامحي أمام الجميع:
- وماذا حدث بعدها؟! لقد قال ذلك الرجل أن أبي تسبب في دمار العصابة؟
- بالضبط، لم يكن السيد شيجيرو راضيًا عمّا حدث حتى بعد نجاتك، لذا بحث عن منظمة تناهض تلك العصابة وهناك التقيته، لقد كان والدك المرحوم خير عون لنا تلك الفترة، لأصدقك القول فأنا لم أرى في حياتي أدهى منه، فبمجرد الاطلاع على بعض البيانات القديمة قام بإنشاء خريطة بكل الأماكن التي قد تحوي وكرًا يتبع تلك العصابة .. وبفضله تمكنا من تدميرها تلك الفترة، وإنقاذ يوكي وجين!
- و- ولكن ذلك الرجل .. قال أنك كنت شريكًا له .. وقد طعنته في ظهره!
هكذا دخل يوكي المحادثة دون أن يرفع رأسه .. كان صوته مغمورًا بالحزن كما لو أنه على وشك البكاء! تنهد السيد براون بهدوء ثم سأل ابنه:
- أخبرني .. ما الذي قاله بالضبط ..؟!
- قال أنك كنت أحد المساهمين في العصابة .. وأن كل ثروتك لم تكن إلا من تجا-
- هذا كذب!! لا أكترث بما قاله ولكن .. أتظني أني سأستطيع النوم في منزل بني على كل تلك الدماء؟!! يوكي!! إياك أن تصدق أيًا مما يقوله!! لقد بدأت ثروتي بإرث من أبي، ولولاه لكنت أعيش في شقة صغيرة وأكدح لساعات طويلة ولما تمكنت من دراسة الطب حتى!!
- ....................
- بني!! لا تصمت هكذا! أقسم بأنها الحقيقة!! وإن أرت الاطلاع على أوراق الإرث وما شابه أريتك إياها! لا تسمح للشك أن يتسلل إلى قلبك!
- ما قصتك مع العصابة إذن؟! لمَ قال أنه سيجعلني أموت فقط لينتقم منك؟ لمَ أخذ يكرر أنك طعنته في ظهره وأنك لم تقم بتبني إلا للتكفير عن ذنبك؟! كل ما أسمعه هو اقاويل منك ومنه!! من أصدق بالضبط؟! أخبرني!!
علا صوت يوكي على نحو مفاجئ، كان من السهل رؤية كل تلك الدموع التي سقطت على الأرض دون أن نرى وجه صاحبها، بحركة سريعة قام السيد براون واتجه نحو ابنه، وضع كفيه على وجنتيه ثم رفع وجهه لتلتقي عيني يوكي اليائسة بعيني أبيه الحازمة، قام بمسح دموع يوكي بإبهاميه ثم قال بحزم:
- أي هراء هذا الذي تتفوه به؟! إن كنت سأربيك للتكفير عن ذنبي فلمَ لم آخذ أحد أولئك الذين أنقذتهم من قبلك؟! لمَ أشرفت على علاجك النفسي بنفسي ولم أوكل أحد الخدم بك؟! ألم أجعل منك خليفة للي ووارثًا لكل أموالي، أتظن أنك شخص عابر دخل حياتي وسأدعه يخرج منها بسهولة؟! أتظنني حقًا شخص دنيء أقتات على أحشاء الناس؟! يوكي!! فكر بعقلك وليس بعقل ذلك المتخلف!
- و- ولكن .. ما علاقته بك الضبط؟!
- إنه طبيب مثلي .. أو لنقل .. كان كذلك! وقد تعرفت عليه خلال عملي .. إن شئت حدثتك عن كل شيء، ولكن ارفع رأسك!
بالفعل، مسح يوكي دموعه بكم معطفه ورفع رأسه نحو والده الذي عاد ليجلس على كرسيه، تنهد هذا الآخر بعمق ثم أكمل:
- حسنًا، لا أعرف من أين أبدأ بالضبط .. ولكن أتعرف ما هو تخصصي يا يوكي؟
- أنت .. طبيب شرعي
- بالضبط .. هذا يعني أنني المسؤول عن تفحص الجثث وتحديد سبب وفاتها وما إلى ذلك .. همم .. ما سأقوله لك قصة حدثت قبل 13 عامًا، أذكر أني كنت في السنة الرابعة من عملي كطبيب شرعي.. حسنًا، في تلك السنة تحديدًا دعت الحكومة إلى بناء جمعية خيرية للتبرع بالأعضاء بعد تكاثر ضحايا الزلازل، وأقامت حملات توعوية فيما يخص هذا المجال .. فبالنسبة لكثرة ضحايا الزلازل، كان من الممكن أن يقوم ذويهم بالتبرع بأعضائهم ومساعدة الآخرين، في تلك الفترة كنت أعاين أكثر من 25 جثة في اليوم لذا فور أن طلبت تلك الجمعية التبرعات من الناس، قمت بالتبرع بمبلغ ثلاث مئة مليون ين لها
- ثلاث مئة مليون؟
- بالضبط .. حسنًا .. سنأتي للجزء الأهم .. بعد قيامي بالتبرع بذلك المبلغ حضر لي مبعوث من تلك الجمعية لمقابلتي، ذلك البعوث اسمه إيماغاوا إيساوا .. وهو الشخص ذاته الذي كان معكما في الغرفة.