"نخاف السيء .. ويأتينا الأسوأ"
مر الوقت سريعًا وها هو السيد ناوكي جالس معنا في غرفة المعيشة يستمع بهدوء ليوكي الذي يروي له ما حدث، بعكس السيد براون وابنه، فهو رجل لطيف للغاية وصاحب ملامح مسالمة تألفها النفس، ذو بشرة بيضاء مائلة للصفرة وشعر بني متوسط الطول قد جمعه بربطة للخلف، كان يرتدي بطالا باللون الأبيض وكنزة صوفية ذات لون نيلي
كنا ثلاثتنا جالسين في صالة الدور الثاني نناقش امر ذلك الرجل السمين، وفور ان فرغ يوكي من حديثه سأله السيد ناوكي يوكي باستغراب:
- غريب، ما الذي يريده من الطفل بالضبط؟
- هاه؟
- لو كنت مكانه وعلمت ان هناك من سيعتني به لتخليت عنه فحسب، الا توافقني؟
- بلى، ليست لدي أدني فكرة
- أتعلم ما هي الجملة المفضلة عند والداك؟
- همم؟
- "لا دخان بلا نار"
كلام السيد ناوكي به شيء من الصحة، ولكن لا يمكننا التحقق من شيء دون مقابلة ذلك الرجل، قام السيد ناوكي من عندنا وذهب لإعداد الشاي بالرغم من تذمر يوكي، ولكن قبل ذلك اخبرنا أن نرتدي ملابس العزاء قبل وصول ذلك الرجل وقد استجبت لطلبه بينما أقسم يوكي ألا يفعل.
لحسن الحظ وجدت آتسو نائمًا في غرفتي برفقة دارك فارتديت بنطالًا اسود وكنزة سوداء ثم اتجهت نحو المطبخ لأجد السيد ناوكي قد أرتدى بدلة رسمية سوداء ويكاد ينهي تحضير الشاي، سألته عما إن كان يزيد المساعدة لينتبه لي ويقول معلقًا على مظهري" ليس لباسًا رسميًا ولكنه مناسب"
ناولني بعدها أكواب الشاي وطلب مني مساعدته في إنزالها للدور السفلي، لم أجد يوكي هناك وقتها ولكني لم آبه للأمر كثيرًا، بعد ثوانٍ معدودة نزل السيد ناوي حاملًا الشاي معه وسألني عن يوكي لأجيبه بأني لا أعلم.
لم يطل الأمر كثيرًا حتى سمعنا صوت جرس الباب، قام السيد ناوكي بدوره وفتحه ليرحب بذلك السمين الذي ارتدى ملابس العزاء الرسمية ، وفور أن أتيا نحوي قمت بإلقاء التحية عليه مع انحناءة بسيطة، لأصدقكم القول كانت الأجواء متوترة للغاية، ولكن السيد ناوكي لم يظهر أي ذرة قلق تجاه الأمر، كما لو أنه يخوض محادثة عابرة مع شخص غريب، بدءا حديثهما بنبرة حزينة وهادئة مترحمين على تلك المتوفية ومن ثم بدأ الحديث يتدرج نحو الموضوع الأساسي للقائنا والذي كان محوره آتسو بالطبع.
مضت ساعة تقريبًا وحتى تلك اللحظة لم يظهر السيد يوكي بعد! تبادلنا أنا والسيد ناوكي بعض النظرات ثم استأذنت من المجلس بضع دقائق، اتجهت للدور العلوي وأخذت أتصل على هاتف يوكي الذي لم ألقَ منه استجابة، عندها أخذت نفسًا عميقًا وبدأت أبحث عن يوكي في كل الغرف بدءًا بغرفته الضخمة وانتهاءً بوقوفي مصدومًا أمام باب احدى غرف النوم المتشابه تلك:
"ما هذا؟!"
لقد كنت مذهولًا بحق من المنظر الذي أراه أمامي، على عكس كل الغرف، فتلك هي الغرفة الوحيدة التي أنشأت أرضيتها من الرخام البني عوضًا عن السجاد، وقد كان رفيقي يوكي -نصف عارٍ- نائمًا ومستلقيًا على تلك الأرضية الرخامية المتجمدة وموجهًا جهاز التكييف نحوه!!
كان ذلك هو أكثر منظر مجنون أراه في حياتي، بعد تردد استمر بضع ثوانٍ توجهت إلى يوكي وأخذت أهز كتفه برفق وأنادي عليه:
- يوكي!! يوكي!!
- آآآه .. شيجيرو! دعني أنام خمس دقائق
- استيقظ فقد أتى طليق خالتك
- هاه!
جلس يوكي مباشرة بعد سماعه لهذا الاسم ثم أخذ ينظر حوله باستغراب لذا سألت:
- ما خطبك تنام على الأرضية هكذا؟!
- آخخ، كنت أشعر بالحر فقط
- حر! كل هذا؟!! قد يتوقف قلبك من البرد!
- ما بيدي حيله
- أيَا يكن، جهز نفسك وتعال للطابق الأرضي
بعد بضع دقائق نزل ذلك الفتى الكسول من الطابق العلوي مرتديًا بنطال جينز أزرق وقميصًا أحمر تاركًا شعره الفوضوي على حاله، ألقى علينا تحية جافة لا يتخللها أي احترام أو يرافقها أية انحناءات ثم جلس بجوار السيد ناوكي مقابل ذلك الرجل الذي ابتسم بتصنع وسأله:
- كيف حالك يا سيد براون؟ آمل أن تكون بخير بعد ما حدث اليوم
- كنت لأكون بخير لولا مجيئك، أخبرني ماذا تريد بالضبط وخلصنا
- الحقيقة أني أردت التحدث مع والدك شخصيًا لذا أشعر بالحيرة الآن
- لا يوجد عند والدي وقت يضيعه مع أمثالك، لقد حدث وأنك تمكنت من لقائه "صدفة" في ذلك اليوم، بالعادة يتطلب الحصول على موعد معه شهر أو أكثر، صحيح ناوكي؟!
- ما قلته عين الصواب .. لا أظن السيد براون سيضيع وقته على أمور كهذه .. جيد أنك اتصلت بي لآتي عوضًا عنه.
بطريقة ما بدأ أولئك الاثنان باستفزازه، ولكن ذلك الرجل أصر على أسنانه وتحدث بهدوء غير متوقع:
- عدم تمكني من لقاء السيد براون مؤسف للغاية، ولكني متأكد يا سيد ناوكي أنك ستحل المسألة
- مسألة؟
- أجل .. كما تعلم فإن زوجتي قد توفيت صباح هذا اليوم، وكما تعلمون فقد أوصت بابنها لي ..
كلمة "ابنها" تلك هي ما كنت أريد سماعه، بالرغم من كل تلك الأحداث فلم نصادف ما يثبت أن آتسو أخ يوكي من أبيه إلا الآن، استرقت النظر إلى يوكي الذي قد رفع حاجبًا باستغراب ثم سأله:
- أوصت به؟
- أجل، لدي وصية مكتوبة هنا
- وما الذي يثبت تلك الوصية؟
- إنها مصدقة من المحكمة
- المحكمة؟!! ألم تخبر والدي بعدم وجود أية أوراق ثبوتية لتلك المرأة أو ابنها؟!
- حسنًا، بعد ذلك اليوم الذي التقيت به فيكم نصحني أحدهم أن أرفع "طلب تالف" في الأحوال المدنية .. لقد أصبحت هناك نسخ إلكترونية لسجلات الأسر وما شابه ..
- ألا توجد نسخ إلكترونية من عقود الزواج أو الطلاق؟
- كلا مع الأسف.
- وتلك الوصية، أهي موقعة بيدها؟
- أجل، تفضل ..
أخرج ذلك الرجل ورقة من محفظته ومدها ليوكي الذي أخذها منه وأخذ يقرأ ما فيها بتركيز شديد، وعندما انتهى أعادها له ثم نظر للسيد ناوكي الذي أومأ له بتفهم وبدأ بالتحدث:
- الحقيقة يا سيدي أن تلك الورقة لا تقدم أو تؤخر شيئَا، فالسيد يوكي هو الوصي على ذلك الفتى بشكل رسمي
- ما - ما الذي تقوله؟ ألم تملأ تلك الورقة عينيك؟!
- أبدأ، وإن أردت سماع الحقيقة، فإجراءات تبني ذلك الفتى آتسو تجري حاليًا على قدم وساق، ولعل ما يؤخرها هو عدم وجود أوراق رسمية له فحسب، بمعنى آخر نحن أولى بالوصاية منك، ونصيحة مني لك، اعتبر الورقة التي بيدك غير موجودة من الأساس لأنها "ستصبح غير موجودة قريبًا"
- ماذا؟! كيف تكونون أولى بالوصاية وأنا أقرب قريب له؟!
عم الصمت قليلًا قبل أن يكسره يوكي بصوته البارد والمستهزئ:
- أقرب قريب؟! يا لها من نكته! أنا قريبه الوحيد هنا! وبالتالي أنا الوصي عليه أيضًا!
- هـه! هراء! إن كنت تظن أموال والدك ستقف ضد القانون فأنت مخطئ! لا وجود لأحد له عداي، وسآخذه منك شئت ذلك أم أبيت!
- آخخ أنت لا تفهم .. كيف أشرح لك .. يا ويلي، نسيت طريقة شرح الأمور لأصحاب الطبقة الدنيا بالفعل..
- ما الذي تقوله يا صاحب الملعقة الذهبية؟!
لوهلة تغيرت ملامح وجه يوكي بشكل ملحوظ كما لو أن الغضب بدأ يفرد أجنحته داخل قلبه، ولكن السيد ناوكي أمسك بيده المقبوضة بلطف وابتسم لذلك الرجل:
- إن سمحت لي يا سيد، أود سؤالك شيء
- ما هو؟
- حسنًا، تعلم أن الأطفال عالة على من يربيهم، بدءًا من نفقتهم وتعليمهم وانتهاءً بتربيتهم ومتابعتهم .. ما الذي ترجوه من أن تصبح الوصي عليه؟
- ما – ما الذي تعنيه؟!
- أليس كلامي واضحًا، ما الذي سيدفع شابًا في مقتبل العمر مثلك أن يعتني بطفل امرأته ويبعد كل النساء الأخريات عنه؟!
- هـ - هاه .. أنا أفعل ذلك .. أفعل ذلك إكرامًا لها!
- أوه، اعذرني على فظاظتي يا سيدي، ولكن ألست تبالغ؟! هنالك من يعتني به أفضل اعتناء وسيقوم بتلك المهمة الشاقة عوضًا عنك، لمَ لا تزال مصرًا على أخذه؟! لو كنت مكانك لدفعت كل ما أملك في سبيل شراء راحة بالي ..
- هذا .. هذا ..
سؤال السيد ناوكي ألجمه بالفعل، ولكنه لم يرضِ يوكي المنفعل مطلقًا، فقد رفع رأسه الذي كان قد أنزله ونظر بحدة إلى ذلك الرجل قبل أن يكمل كلامه وقال:
- أوي، أيمكنني سؤالك عن شيء ...
- هاه؟
- أخبرني لمَ يخافك آتسو..؟
- ما الذي تعنيه ..؟
- لا يبدو أنه يحبك ~
- آه .. تعرف الأطفال .. إنهم ينفرون من أي شخص ابتعد عنهم لفترة .. بل ينسونه أحيانًا !
- هممم .. أعطني سببًا واحدًا يدفعني لتسليم ذلك الفتى له
- أنا .. أريد ضمان حياة كريمة له!
- حياة كريمة .. أنت ..؟!
- سألتني فأجبت!
- آخ .. حسنًا سأقولها لك مرة، ولن أكررها .. أنا قريبه الوحيد .. رغمًا عنك .. ورغمًا عن كل القوانين .. سواءً استعملتُ أموال أبي أم لا، تلك حقيقة التي لم ولن تتمكن من تغييرها ..
- أوي! ما الذي تهذي به يا هذا؟!
- أنا أخوه!
- هاه! أخوه؟! ولكن آهـارا لم تقل أبدًا أن لديها ابن آخر!
- لست ابنًا لتلك الشيطانة، أنا ابن زوجها فحسب!!
- ابن .. زوجها .. السابق؟!
- أصبت
- و – ولكنك .. ابن السيد براون!
- لا دخل لك بهذا، خلاصة القول أني سأبقى الوصي على آتسو، وأن عليك مغادرة هذا المنزل معززًا مكرمًا قبل أن تغادره مكرهًا يا هذا!
قال يوكي تلك العبارات قبل أن يقوم من المجلس ويعود للدور العلوي تاركًا ذلك الرجل في حيره من أمره، وفور أن اختفى عن أنظارنا نظرنا للسيد ناوكي الذي ابتسم بهدوء وأكمل "كما سمعت يا سيد تاكيشي، غادر من فضلك!"