"وأخيرًا .. تحرر القلب من بعض قيوده"
- رينا؟
- أجل .. أخبرتها أن تحضر آتسو إلى هنا ..
- هـا – هاه؟!
- ما بك؟
- ولمَ قد تحضر آتسو إلى هنا؟ ألم تقل لها للتو أنك –
- أريدها أن تشعر بكرمي وعظيم رحمتي إذ أني لم ألقِ بذلك الصعلوك في أي مكان أو أشرده كما فعلت بنا!
- يا فتى! هي على فراش الموت وأنت تتصرف هكذا!
- آخخ منك، دعني أستمتع!
عن أي متعة يتحدث يوكي بالضبط، لم أكن أرى أي سبب يدفعه لفعل ما يفعله ولكني رافقته إلى البوابة حيث التقينا بكازامي وآتسو الذي أفلت يد تلك الفتاة فور أن رآني وتوجه نحوي بخطوات شبه سريعة لأحمله بين يدي وأعانقه بخفة، بمجرد أن تذكرت ما سيراه اليوم ضيقت العناق أكثر قليلًا ثم أردفت "اشتقت إليك"
تنهدت كازامي بعمق محاولة إخفاء الحزن الذي في عينيها لأعرف أن يوكي قد أطلعها على الأمر بالفعل، أنزلت آتسو على الأرض وأمسكت بيده ثم دخلنا جميعًا إلى المشفى متجهين نحو قسم العناية مجدداً، كانت تلك أول مرة أسمع بالكاد كنت أستطيع من صوت خفقان قلبي من الخروج للعلن، آنذاك كنتُ أتعرق بشدة وقد شعر بذلك الفتى الذي يمسك بيدي إذ أنه رفع بصره ليتحقق من أمري!
بمجرد أن وصلنا إلى القسم التقينا بالطبيب المشرف للمرة الثانية وقد ألقى نظرة حازمة نحو كازامي وآتسو ثم سأل:
- من حضرتهما؟!
- الصغير هو ابن المريضة.. وقد طلبت منا رؤيته ..
- وتلك الآنسة ..؟
- ...............
- أرجوا أن تنتظري هنا إذن.
- حاضر!
هذا الطبيب كان مشرفًا على الطوارئ عندما دخلنا أنا ويوكي المشفى ذلك اليوم، وقد تعرف علينا فور أن وصلنا اليوم، ربما من الجيد أنه لم يسمح لكازامي بالدخول فقد لا تحتمل رؤية المناظر، ولأصدقكم القول تمنيت لو أنه لم يسمح لآتسو أيضًا! دخلنا ثلاثتنا وتبعتنا كازامي على نحو مفاجئ ثم تشبثت بمعطف يوكي من الخلف وقالت "ساعدني في الدخول! يجب أن أكون معه!" فما كان منه إلا وأن رد "ابقي خلفي إذن!"
وصلنا نحو الحجرة أخيرًا، دخلت أولًا لأجد ممرضتان أخذتا يتفقدن العلامات الحيوية لها كإجراء روتيني وفور أن رأتانا توجها نحونا لأسأل بدوري "أية تطورات؟"
هزت إحداهما رأسها نافية وقالت "لا شيء جديد، تفضلوا بالدخول" أخذت عندها نفسا عميقًا ودخلت مع آتسو وكازامي التي توقفت فور أن رأت جسد تلك المرأة وهمت بالتعليق:
- هذا – هذا ..
- من .. هنا؟!
بمجرد أن نطقت تلك المرأة لذلك السؤال شعرت بيد آتسو قد تحررت بطريقة ما من قبضتي ولم أعٍ إلا وهو بجوارها تمامًا لحق بذلك صوته المكتوم "ما- ماما ..؟"
لم أدري ماذا أفعل حينها لذا وقفت متصنما أتابع مشهدًا دراميًا من الدرجة الأولى.. مشهدًا كنت أعرف نهايته دون أن أعرف تفاصيله ولن أحكي لكم عن الفرحة التي اعتلت وجه أمه فور أن سمعت صوته، بالكاد قامت بمد يدها اليمنى لتمسك بكلتا يدي صغيرها وتقبض عليهما مؤكدة لنفسها أن هذا حقيقة لا خيال!
- ما – ما الذي تفعله هنـا؟ هل أنت بخير؟ أتعيش جيدًا؟ أهناك من يعتني بك؟ لا يبدو أنك تشكو من الجوع او الخوف، صحيح؟! .. عجبًا! ملابسك أنيقة! لست هزيلًا كما عهدتك! ولست شاحبًا كما اقتضت عادتك!
- أ- أنا مع أخي يوكي
- يوكي؟!
لوهلة اتجهت أنظارها نحو يوكي المتكئ على الباب ثم وجهت حديثها نحوه .. حديثًا مسترسلًا مزج بكل قوتها المتبقية مع بعض الأسف والامتنان:
"يو – يوكي ...
أعلم أنه لا يحق لي طلب المغفرة منك .. وحتى إن فعلت فأنا لن أسامح نفسي على ما فعلته بك حتى بعد الممات! ظلمك كان أكبر خطيئة ارتكبتها في حياتي، أعلم أنك لم تكن يومًا خائفًا مني أو حتى من أفعالي، بل كنت خائفًا على هيروتو فقط .. كنت أعلم ذلك وأستغله .. لا أعلم ماذا كان بي آنذاك، الأرجح أني كنت أنزعج من نظراتك المستحقرة والمتحدية.. تمامًا كالتي تنظر لي بها الآن!
لا أخفيك أنه عندما اختفيت من المنزل ذلك اليوم شعرت بنوع من الحرية والارتياح.. ولكن حياتي انقلبت بعدها! لعلك لا تكترث بما أقوله، ولكن والدك لم يدخر جهدًا في البحث عنكما لمدة ثلاث سنوات أو أكثر، لكن دون جدوى! حتى عندما وافته المنية لم يكن إلا يكرر اسميكما حتى ظننت أنه لا وجود لغيركما في حياته!
عزّني خبر موت هيروتو، وعزتنيّ رؤيتك بهذا الحال! شكرًا لأنك تركت في قلبك مساحة لآتسوكو، بالرغم من كرهك لي! أنا حتى لا أعرف ما أقول لك! أنت ندمي، وألمي، وحسرتي!"
لم تتغير حتى نظرات يوكي لها بل قال ببرود "خطاب مؤثر .. أحسنتِ!"
لم ترد خالته عليه كما لو أنها كانت تتوقع إجابة كهذه لذا أعادت أنظارها نحو ابنها آتسو وشدت على يديه أكثر ثم قالت:
"آتسوكو! اسمع ... هناك ما أريد إخبارك به ... استمع لي جيدًا ... أعتذر لأن أمك كانت إحدى أسوأ النساء اللوات قد تراهن في حياتك! أعتذر لأني لم أحبك كما ينبغي أو أرعاك كما يجب! أعتذر لأني خذلتك عندما تزوجت ولم أحميك من بطش ذاك الرجل! أعتذر لأن أمك كانت حمقاء للدرجة أن يعميها حب الذات عن ما هو أهم في حياتها .. لم أكن امرأة صالحة أبدًا، وحتى عندما أدركت حقيقة جهلي بذاتي ووعدتك بتعويضك عن كل شيء بدأت عقوبات أفعالي بالتوالي علي واحدة تلو الأخرى حتى بت غير قادرة على التحمل ... أدركت لحظتها أن الموت هو ما أستحقه! لذا أقدمت على فعل ما فعلته!
أنت لم تكن فتى سيئًا البتة، لم تكن ترد علي عندما يجن جنوني أو حتى تبكي أمامي! لم تكن تشكي أو تتذمر! لم أدرك حتى سوء أفعالي تجاهك حتى سمعت صوت شهقاتك في إحدى الليالي ... حينها لمت نفسي أشد اللوم .. شعرت كما لو أن لدي قلب مقيد بالسلاسل التي لا يمكن تحريرها وأخذت أتساءل .. ما مشكلتي؟!
لا تحزن عليَّ أبدًا، ولا تسامحني أيضًا، سأكون أكثر من سعيدة إن تذكرت أني الشخص الذي أنجب ملاكًا مثلك ليعيش بين سطوة الشياطين! ولعل هذا هو العمل الصالح الوحيد الذي فعلته في هذه الدنيا"
بالنسبة لشخص يلفظ أنفاسه الأخيرة فقد قالت الكثير بالفعل، لاحظت أن صوتها بات يصبح خافتًا أكثر فأكثر حتى غلب عليه صوت صفير جهاز التخطيط معلنًا توقف قلبها، خلال أجزاء من الثانية كان يوكي قد انتزع آتسو من يد والدته وأمسك برينا مخرجًا إياهما خارج الغرفة التي امتلأت بغمضة عين بعدد من الأطباء والممرضين، أصواتهم العالية، حركاتهم السريعة، جهاز الإنعاش الذي بدأ يحاول شحن الجسد الخاوي أمامه بالكهرباء .. كل ذلك انتهى عندما نطق أحدهم بصوت رتيب خالطه جزء يسير من الحزن
"سيتدمر الجسد إن استمرينا بالإنعاش .. لقد فارقت الحياة!"
استعدت وعيي عندها وخرجت لأجد كازامي جالسة على ركبتيها تعانق آتسو بإحكام وتبكي بحرقة بينما ينظر لهما يوكي بوجه لا يحمل أي مشاعر تذكر:
|توفيت تاكيشي آهـارا في الرابع عشر من شهر مارس الساعة 11 صباحًا عن عمرٍ يناهز الـ 38 عامًا|