السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أنا هنا للحديث معكم حول موضوعنا اليوم والذي يقصد شخصية من رواد الأدب العربي وأساتذة الشعر الحر المبني علي الفلسفة وتحدث المعني لا الألفاظ .... فربما مر تاريخ التاسع من أغسطس مرور الكرام علي معظمنا ولكنه مر كالميتم علي محبي الأدب والشعر فهو ذكري وفاة شاعرنا فكما قالوا يوم وفاته هوي قمر الشعر بوفاة درويش محمود درويش ليس ولم يكن مجرد شاعر عادي بل هو من الرواد الذي اخضعوا الشعر لحريتهم وجعلوه سلاح في وجه أعدائهم واستخدموه للدفاع عن قضاياهم لذا ورغبة منا في تقديم شئ لهذا الشاعر المتمكن حاولنا أن نتحدث عنه كما ينبغي في موضوعنا هذا ونسأل الله أن نكون وفقنا في هذا ونتمني أن ينال الموضوع علي اعجابكم ولد محمود درويش في 13/3/1941 في قرية البروة الفلسطينية التي تقع في الجليل شرق ساحل عكا، طرد من البروة مع أسرته في السادسة من عمره تحت دوي القنابل عام 1947، ووجد نفسه أخيراً مع عشرات آلاف اللاجئين الفلسطينيين في جنوب لبنان، بعد أن تعرض الشعب الفلسطيني للاقتلاع وتدمير مدنه وقراه. "أول قرية لبنانية أتذكرها حينذاك هي رميش. ثم سكنا في "جزين" إلى أن هبط الثلج في الشتاء. وفي جزين شاهدت للمرة الأولى في حياتي شلالاً عظيماً.. ثم انتقلنا إلى الناعمة قرب الدامور. وأتذكر الدامور في تلك الفترة جيداً: البحر وحقول الموز.. كنت في السادسة من عمري، لكن ذاكرتي قوية، وعيناي ما زالتا تسترجعان تلك المشاهد.. كنا ننتظر انتهاء الحرب لنعود إلى قرانا. لكن جدي وأبي عرفا أن المسألة انتهت، فعدنا متسللين مع دليل فلسطيني يعرف الطرق السرية إلى شمال الجليل. وقد بقينا لدى أصدقاء إلى أن اكتشفنا أن قريتنا البروة لم تعد موجودة. -وجدت عائلة درويش قريتها مهدومة وقد أقيمت على أراضيها موشاف (قرية زراعية إسرائيلية) "أحيهود"، وكيبوتس يسعور-. فالعودة إلى مكان الولادة لم تتحقق. عشنا لاجئين في قرية أخرى اسمها دير الأسد في الشمال. كنا نسمى لاجئين ووجدنا صعوبة بالغة في الحصول على بطاقات إقامة، لأننا دخلنا بطريقة "غير شرعية"، فعندما أجري تسجيل السكان كنا غائبين. وكانت صفتنا في القانون الإسرائيلي: "الحاضرون- الغائبون"، أي أننا حاضرون جسدياً ولكن بلا أوراق. صودرت أراضينا وعشنا لاجئين". عاش محمود في حيفا بعدما انتقلت العائلة إلى قرية أخرى اسمها الجديدة وامتلكت فيها بيتاً. "وفي حيفا عشت عشر سنين وأنهيت فيها دراستي الثانوية، ثم عملت محرراً في جريدة "الاتحاد" وكنت ممنوعاً من مغادرة حيفا مدة عشر سنوات. كانت إقامتي في حيفا إقامة جبرية. ثم استرجعنا هويتنا، هوية حمراء في البداية ثم زرقاء لاحقاً وكانت أشبه ببطاقة إقامة. كان ممنوعاً عليّ طوال السنوات العشر أن أغادر مدينة حيفا. ومن العام 1967 لغاية العام 1970 كنت ممنوعاً من مغادرة منزلي، وكان من حق الشرطة أن تأتي ليلاً لتتحقق من وجودي. وكنت أعتقل في كل سنة وأدخل السجن من دون محاكمة. ثم اضطررت إلى الخروج. انتسب إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي وعمل في صحافة الحزب مثل الاتحاد، والجديد التي أصبح فيما بعد رئيس تحريرها. اتهم بالقيام بنشاط معاد لدولة إسرائيل؛ فطورد واعتقل خمس مرات 1961م، و1965، و1966، و1967، و1969، وفرضت عليه الإقامات الجبرية حتى العام 1970. لمحمود درويش رأي غير تقليدي في سيرته الذاتية حين قال: "أولاً ما يعني القارئ في سيرتي مكتوب في القصائد. وهناك قول مفاده أن كل قصيدة غنائية هي قصيدة أوتو- بيوغرافية أو سير- ذاتية، علماً بأن هناك نظرية تقول إن القارئ لا يحتاج إلى معرفة سيرة الشاعر كي يفهم شعره ويتواصل معه. ثانياً يجب أن أشعر بأن في سيرتي الذاتية ما يفيد، أو ما يقدم فائدة. ولا أخفيك أن سيرتي الذاتية عادية جداً. ولم أفكر حتى الآن في كتابة سيرتي. ولا أحب الإفراط في الشكوى من الحياة الشخصية ومشكلاتها. ولا أريد بالتالي أن أتبجّح بنفسي، فالسيرة الذاتية تدفع أحياناً إلى التبجح بالنفس، فيصوّر الكاتب نفسه وكأنه شخص مختلف. وقد كتبت ملامح من سيرتي في كتب نثرية مثل "يوميات الحزن العادي" أو "ذاكرة للنسيان" ولا سيما الطفولة والنكبة." في موسكو "أول رحلة لي خارج فلسطين كانت إلى موسكو. وكنت طالباً في معهد العلوم الاجتماعية، ولكن لم يكن لي هناك بيت بالمعنى الحقيقي. كان غرفة في مبنى جامعي. أقمت في موسكو سنة. وكانت موسكو أول لقاء لي بالعالم الخارجي. حاولت السفر قبلاً إلى باريس لكن السلطات الفرنسية رفضت دخولي إلى أرضها في العام 1968. كانت لدي وثيقة إسرائيلية لكنّ الجنسية غير محددة فيها. الأمن الفرنسي لم يكن مطلوباً منه أن يفهم تعقيدات القضية الفلسطينية. كيف أحمل وثيقة إسرائيلية وجنسيتي غير محددة فيها وأقول له بإصرار إنني فلسطيني. أبقوني ساعات في المطار ثم سفّروني إلى الوطن المحتل. كانت موسكو أول مدينة أوروبية وأول مدينة كبيرة أعيش فيها. طبعاً اكتشفت معالمها الضخمة ونهرها ومتاحفها ومسارحها.. تصور ما يكون رد فعل طالب فتيّ ينتقل من إقامة محاصرة إلى عاصمة ضخمة! تعلمت الروسية قليلاً لأتدبر أموري الشخصية. لكن اصطدامي بمشكلات الروس يومياً جعل فكرة "فردوس" الفقراء التي هي موسكو، تتبخر من ذهني وتتضاءل. لم أجدها أبداً جنة الفقراء، كما كانوا يعلّموننا. فقدت الفكرة المثالية عن الشيوعية لكنني لم أفقد ثقتي بالماركسية. كان هناك تناقض كبير بين تصوّرنا أو ما يقوله الإعلام السوفييتي عن موسكو والواقع الذي يعيشه الناس، وهو مملوء بالحرمان والفقر والخوف. وأكثر ما هزّني لدى الناس هو الخوف. عندما كنت أتكلم معهم أشعر أنهم يتكلمون بسرية تامة. وإضافة إلى هذا الخوف كنت أشعر أن الدولة موجودة في كل مكان بكثافة. وهذا ما حوّل مدينة موسكو من مثال إلى مدينة عادية." في القاهره "الدخول إلى القاهرة كان من أهم الأحداث في حياتي الشخصية. في القاهرة ترسخ قرار خروجي من فلسطين وعدم عودتي إليها. ولم يكن هذا القرار سهلاً. كنت أصحو من النوم وكأنني غير متأكد من مكان وجودي. أفتح الشباك وعندما أرى النيل أتأكد من أنني في القاهرة. خامرتني هواجس ووساوس كثيرة، لكنني فتنت بكوني في مدينة عربية، أسماء شوارعها عربية والناس فيها يتكلمون بالعربية. وأكثر من ذلك، وجدت نفسي أسكن النصوص الأدبية التي كنت أقرأها وأعجب بها. فأنا أحد أبناء الثقافة المصرية تقريباً والأدب المصري. التقيت بهؤلاء الكتّاب الذين كنت من قرائهم وكنت أعدّهم من آبائي الروحيين. التقيت محمد عبد الوهاب، وعبد الحليم حافظ وسواهما، والتقيت كبار الكتاب مثل نجيب محفوظ ويوسف إدريس وتوفيق الحكيم. ولم ألتق بأم كلثوم وطه حسين، وكنت أحب اللقاء بهما". يضيف: "عيّنني محمد حسنين هيكل مشكوراً في نادي كتّاب "الأهرام"، وكان مكتبي في الطابق السادس، وهناك كان مكتب توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وبنت الشاطئ. وكان توفيق الحكيم في مكتب فردي ونحن البقية في مكتب واحد. وعقدت صداقة عميقة مع محفوظ وإدريس، الشخصيتين المتناقضتين: محفوظ شخص دقيق في مواعيده، ومنضبط، يأتي في ساعة محددة ويذهب في ساعة محددة. وكنت عندما أسأله: هل تريد فنجان قهوة أستاذ نجيب؟ كان ينظر إلى ساعته قبل أن يجيب، ليعرف إن كان حان وقت القهوة أم لا. أما يوسف إدريس، فكان يعيش حياة فوضوية، وكان رجلاً مشرقاً. وفي القاهرة صادقت أيضاً الشعراء الذين كنت أحبهم: صلاح عبد الصبور وأحمد حجازي وأمل دنقل. كان هؤلاء من الأصدقاء القريبين جداً. وكذلك الأبنودي. كل الشعراء والكتاب الذين أحببتهم توطدت علاقتي بهم. والقاهرة كانت من أهم المحطات في حياتي. في القاهرة تمّت ملامح تحوّل في تجربتي الشعرية وكأن منعطفاً جديداً يبدأ. كان يُنظر إليّ عندما كنت في الأرض المحتلة كوني شاعر المقاومة. وبعد هزيمة 1967 كان العالم العربي يصفق لكل الشعر أو الأدب الذي يخرج من فلسطين، سواء كان رديئاً أم جيداً. اكتشف العرب أنّ في فلسطين المحتلة عرباً صامدين ويدافعون عن حقهم وعن هويتهم. اكتسبت إذاً النظرة إلى هؤلاء طابع التقديس، وخلت من أي ذائقة أدبية عامة. هكذا أُسقطت المعايير الأدبية عن نظرة العرب إلى هذه الأصوات المقاومة بالشعر والأدب في الداخل. ومن القصائد المهمة التي كتبتها في القاهرة قصيدة "سرحان يشرب القهوة في الكفاتيريا" ونشرت في صحيفة "الأهرام" وصدرت في كتاب "أحبك أو لا أحبك". في بيروت "بعد القاهرة انتقلت إلى بيروت مباشرة.. عشت فيها من العام 1973 إلى العام 1982. حنيني إلى بيروت ما زلت أحمله حتى الآن. وعندي مرض جميل اسمه الحنين الدائم إلى بيروت. ولا أعرف ما هي أسبابه. وأعرف أن اللبنانيين لا يحبون مديح مدينتهم في هذا الشكل. ولكن لبيروت في قلبي مكانة خاصة جداً. ولسوء حظي، أنني بعد سنوات قليلة من سكني في بيروت، وهي كانت ورشة أفكار ومختبراً لتيارات أدبية وفكرية وسياسية، متصارعة ومتعايشة في وقت واحد، لسوء حظي، أن الحرب اندلعت. وأعتقد أن عملي الشعري تعثر حينذاك. أعتقد أن أجمل ما كتبت ديوان "تلك صورتها وهذا انتحار العاشق". ولكن بعد اندلاع الحرب صار الدم والقصف والموت والكراهية والقتل.. كل هذه صارت تهيمن على أفق بيروت وتعكره. وبعض أصدقائي هناك ماتوا وكان عليّ أن أرثيهم. وأول من فقدت هناك غسان كنفاني. وأعتقد أن الحرب الأهلية في لبنان عطلت الكثير من المشاريع الثقافية والفكرية التي كانت تجتاح بيروت. وانتقل الناس إلى جبهات مختلفة ومتناقضة ومتحاربة. منذ بداية الحرب، كنت أعبّر لأصدقائي ومعارفي عن تشاؤمي من نتائج هذه الحرب. وكنت أطرح السؤال الآتي: هل كان في وسعنا ألا نُستدرج كفلسطينيين إلى هذه الحرب؟ كانت هناك أجوبة رسمية تقول إن دور الفلسطينيين في الحرب هو الدفاع عن النفس ومواجهة محاولة إقصائنا. ولكننا أخطأنا في بيروت عندما أنشأنا ما يشبه الدولة داخل الدولة. كنت أخجل من اللبنانيين إزاء الحواجز التي كان يقيمها الفلسطينيون في الأرض اللبنانية ويسألون اللبناني عن هويته. طبعاً لكل هذه الأمور تفسيرات وتبريرات. ولكن كنت أشعر دوماً بالخجل. وكنت أطرح على نفسي أسئلة عدة حول هذه الأمور، حتى أمام أصدقائي المتحمسين للقضية الفلسطينية والحركة الوطنية. ومن هذه الأسئلة: ماذا يعني أن ننتصر في لبنان؟ هذا سؤال كان يلح عليّ دوماً. ولنفترض أننا أنهينا الحرب وانتصرنا، فماذا يعني الانتصار هنا؟ أن نحتل لبنان ونتسلّم الحكم في لبنان؟ كنت متشائماً جداً. ولم أكتب عن الحرب اللبنانية إلا كتابة شبه نقدية. بعد أن وضعت الحروب أوزارها، الحروب الفلسطينية- اللبنانية أو الحروب الأهلية... تستطيع من خلال رؤية محايدة أن تنظر إلى الآثار الايجابية للتفاعل الفلسطيني مع الحياة الثقافية اللبنانية أو التفاعل اللبناني مع القضية الفلسطينية. هناك جوانب إيجابية فعلاً. هناك مركز الأبحاث الفلسطينية، مجلة "شؤون فلسطينية" ومجلة "الكرمل"، وسواها.. كنت أشعر أن وجودي في بيروت سيطول، ولم أكن أشعر بالحرج وكأنني مقيم في شكل شرعي. ولكن أن أكون مقيماً في شكل إجباري ومضاد لرغبة اللبنانيين عبر تعايشهم القسري معنا، فهذا كان يزعجني. وعندما خرجت القيادة الفلسطينية والمقاتلون الفلسطينيون من بيروت لم أخرج. بقيت في بيروت أشهراً عدة. لم أتوقع أن الإسرائيليين سيحتلون بيروت. ولم أجد معنى لخروجي في السفن مع المقاتلين. ولكن في صباح ذات يوم وكنت أسكن في منطقة الحمراء، خرجت لأشتري خبزاً وإذا بي أشاهد دبابة إسرائيلية ضخمة. دخلت إسرائيل قبل الإعلان عن الدخول. حينذاك وجدت نفسي وحيداً أتجوّل في الشوارع ولا أرى سوى الدبابات والجنود الإسرائيليين ورجالاً ملثمين. قضيت فعلاً أياماً صعبة جداً، ولم أكن أعرف أين أنام. كنت أنام خارج البيت في مطعم، وأتصل بجيراني لأسألهم إن كان الإسرائيليون سألوا عني. إذا قالوا: نعم جاؤوا، فكنت أدرك أنهم لن يأتوا مرة أخرى، فأذهب إلى بيتي، أتحمّم وأرتاح ثم أعود إلى المطعم. إلى أن حصلت الكارثة الكبرى وهي مجزرة صبرا وشاتيلا. عندذاك تيقنت أن بقائي هناك ضرب من العبث والطيش. رتّبت الأمر مع السفير الليبي في بيروت حينذاك، فهو كان في مقدوره أن يأخذني من منطقة الأشرفية التي كانت "الكتائب" تسيطر عليها، إلى سورية. ولكن كان عليه أن يجد طريقاً ليأخذني من بيتي إلى مدخل الأشرفية. اتفقنا مع ضابط لبناني أوجد لنا شارعاً كان سيمر به الرئيس الراحل شفيق الوزان، وكان هناك اتفاق بين الإسرائيليين والحكومة على ألا يتعرضوا لهذا الشارع. وفعلاً سلكنا هذا الطريق وخرجنا من بيروت. وعندما وصلنا إلى طرابلس، ذهبنا إلى مطعم لنأكل السمك بعدما مللنا أكل المعلبات. وبعدما دخلت الحمام لأغسل يديّ، نظرت إلى المرآة فرأيت أنفاً عليه نظارتان. لم أعرف صاحب هذا الوجه لثوانٍ. كأنني كنت أنظر إلى وجه آخر. وعندما وصلت إلى دمشق أقمت هناك أسبوعاً. وكان حصل حادث طريف جداً على الحدود السورية- اللبنانية. فالضابط اللبناني على الحدود الذي طلب أوراقي، وكنت أحمل جواز سفر تونسياً دبلوماسياً، وجد أن إقامتي قد انتهت وهذه مخالفة قانونية. قلت له: صحيح، ولكن ألا تسمع الأخبار؟ ألا تعرف أنه ما من سفارات أو دوائر تعمل؟". في تونس وباريس "غادرت دمشق إلى تونس ورأيت خلالها الرئيس عرفات والاخوان في مشهد تراجيدي. رأيت الثورة الفلسطينية تقيم في فندق على شاطئ بحر. كان المشهد مؤلماً جداً ويستدعي كتابة رواية عن هذا المصير. لكن عرفات سرعان ما أعاد بناء مؤسسته. وقال لي: واصل إصدار "الكرمل". كان مهتماً حتى بالجانب الثقافي. فقلت له أين أصدرها؟ قال لي: حيث تشاء، في لندن، في باريس، في قبرص.. ذهبت من ثم إلى قبرص كي أرتب شؤون الرخصة. وصدرت "الكرمل" من قبرص فيما كنت أنا أحررها في باريس وأطبعها في نيقوسيا وكان معاوني الكبير هو الشاعر سليم بركات". عاش في باريس نحو عشر سنوات ولكن في شكل متقطع، إذ كان يسافر باستمرار. وبقي قريباً من منظمة التحرير في تونس. يصف درويش إقامته في باريس بالقول: "كانت باريس عبارة عن محطة أكثر منها إقامة أو سكناً. لا أعرف. لكنني أعرف أنه في باريس تمت ولادتي الشعرية الحقيقية. وإذا أردت أن أميّز شعري، فأنا أتمسك كثيراً بشعري الذي كتبته في باريس في مرحلة الثمانينيات وما بعدها. هناك أتيحت لي فرصة التأمل والنظر إلى الوطن والعالم والأشياء من خلال مسافة، هي مسافة ضوء. فأنت عندما ترى من بُعد، ترى أفضل، وترى المشهد في شموليته. علاوة على أن باريس جمالياً تحرّضك على الشعر والإبداع. كل ما فيها جميل. حتى مناخها جميل. في باريس كتب في وصف يوم خريفي: "أفي مثل هذا اليوم يموت أحد؟". ومدينة باريس أيضاً هي مدينة الكتّاب المنفيين الآتين من كل أنحاء العالم. تجد العالم كله ملخصاً في هذه المدينة. وكانت لي صداقات مع كتّاب أجانب كثيرين. وأتاحت باريس لي فرصة التفرّغ أكثر للقراءة والكتابة. ولا أعرف فعلاً إن كانت باريس هي التي أصابتني أم أن مرحلة نضج ما تمت في باريس، أم أنه تطابق العنصرين بعضهما مع بعض؟ في باريس كتبت ديوان "ورد أقل" وديوان "هي أغنية" و"أحد عشر كوكباً" و"أرى ما أريد" وكذلك ديوان "لماذا تركت الحصان وحيداً؟" ونصف قصائد "سرير الغريبة". وكتبت نصوص "ذاكرة للنسيان" وغاية هذا الكتاب النثري التحرر من أثر بيروت، وفيه وصفت يوماً من أيام الحصار. معظم أعمالي الجديدة كتبتها في باريس. كنت هناك متفرّغاً للكتابة على رغم انتخابي عضواً في اللجنة التنفيذية. وفي باريس كتبت نص إعلان الدولة الفلسطينية. مثلما كتبت نصوصاً كثيرة ومقالاً أسبوعيا في مجلة "اليوم السابع". كأنني أردت أن أعوّض عن الصخب الذي كان يلاحقني في مدن أخرى". في عمان ورام الله "بعدما أصبح في إمكاني أن أعود إلى "جزء" من فلسطين وليس إلى "جزء" شخصي بل إلى "جزء" من وطن عام، وقفت طويلاً أمام خيار العودة. وشعرت بأن من واجبي الوطني والأخلاقي ألا أبقى في المنفى. فأنا أولاً لن أكون مرتاحاً، ثم سأتعرض إلى سهام من التجريح لا نهاية لها، ثم سيقال إنني أفضل باريس على رام الله أو على غزة. وبالتالي اتخذت الخطوة الشجاعة الثانية بعد الخروج وهي خطوة العودة. وهاتان الخطوتان من أصعب الأمور التي واجهتها في حياتي: الخروج والعودة. اخترت عمان لأنها قريبة من فلسطين ثم لأنها مدينة هادئة وشعبها طيب. وفيها أستطيع أن أعيش حياتي. وعندما أريد أن أكتب أخرج من رام الله لأستفيد من عزلتي في عمان. التوتر عالٍ جداً في رام الله. ومشاغل الحياة الوطنية واليومية تسرق وقت الكتابة. إنني أمضي نصف وقتي في رام الله والنصف الآخر في عمان وفي بعض الأسفار. " في رام الله أشرف على إصدار مجلة "الكرمل". ويكشف غانم زريقات صديق درويش عن بعض التفاصيل في حياته بالقول: "جاء محمود إلى عمان نهاية العام 1995، لأنها المدينة الأقرب إلى فلسطين أول الأمر، فعندما دخلت القيادة الفلسطينية إلى فلسطين بدأ محمود يفكر جديا في ترك باريس، وكان الخيار أمامه القاهرة أو عمان. بعض الأصدقاء، بينهم الدكتور خالد الكركي، الذي كان وزيرا للإعلام شجعوه ورحبوا به للإقامة في عمان، وقوبلت الفكرة بالترحاب الشديد وعلى أعلى المستويات في الدولة الأردنية، وعندما وصل محمود إلى عمان، بدأ يفكر في استئجار شقة متواضعة، كما كان الحال في تونس، الرجل الطيب المقاول الأردني مروان العبداللات رفض أن يؤجر محمود درويش، وحلف أيمانا كثيرة أن الشقة هدية ورفض أخذ ثمنها. ولكن محمود رفض بشكل قاطع هذا العرض، وأخيرا اشترى المنزل بسعر التكلفة. اختار عمان لأنها برأيه أفضل مدينة يمكن أن يختلي فيها بكل هدوء ويكتب، وهذه المدينة وفرت له حقا هذه الميزة، كما أن أصدقاءه قليلون جدا فيها. راق له هدوؤها وسهولة التنقل فيها، وارتبط بمجموعة علاقات منتقاة مع العديد من العمّانيين، الذين أحاطوه بكم هائل من الحب غير القاسي". لم تختلف حياته في بيروت وباريس والقاهرة عن حياته في عمان وإن كان أبرز ما يميزها أن معظم وقت درويش في عمان كان للعمل الجاد، خير دليل على ذلك أعماله الشعرية جميعها التي صدرت عن دار رياض الريس في بيروت مثل: الجدارية 2000، حالة حصار 2002، لا تعتذر عما فعلت 2004، كزهر اللوز أو أبعد 2005، في حضرة الغياب 2006، أثر الفراشة 2008، معظم هذه الدواوين كتبت بين عمان ورام الله. البيت عند محمود البيت بالنسبة لمحمود درويش له فلسفة خاصة فكما يقول: "البيت يعني لي الجلوس مع النفس ومع الكتب ومع الموسيقى ومع الورق الأبيض. البيت هو أشبه بغرفة إصغاء إلى الداخل ومحاولة لتوظيف الوقت في شكل أفضل. ففي الستين يشعر المرء بأنه لم يبق لديه وقت طويل. وشخصياً أعترف بأنني أهدرت وقتاً طويلاً فيما لا يجدي، في السفر، في العلاقات وغير ذلك. إنني حريص الآن على أن أوظف وقتي لمصلحة ما أعتقد أنه أفضل وهو الكتابة والقراءة. يشكو كثير من الناس من العزلة، أما أنا، فإنني أدمنت العزلة، ربيتها وعقدت صداقة حميمة معها. العزلة هي أحد الاختبارات الكبرى لقدرة المرء على التماسك. وطرد الضجر هو أيضاً قوة روحية عالية جداً. وأشعر أنني إذا فقدت العزلة فقدت نفسي. أنا حريص على البقاء في هذه العزلة، وهذا لا يعني أنه انقطاع عن الحياة والواقع والناس.. إنني أنظم وقتي في شكل لا يسمح لي بأن أنغمر في علاقات اجتماعية قد لا تكون كلها مفيدة. عندما كنت خارج الوطن، كنت أعتقد أن الطريق سيؤدي إلى البيت، وأن البيت أجمل من الطريق إلى البيت. ولكن عندما عدت إلى ما يُسمى البيت، وهو ليس بيتاً حقيقياً، غيّرت هذا القول وقلت: ما زال الطريق إلى البيت أجمل من البيت لأن الحلم ما زال أكثر جمالاً وصفاء من الواقع الذي أسفر عنه هذا الحلم. الحلم يتيم الآن. لقد عدت إلى القول بأولية الطريق على البيت. علاقتي القوية بالبيت نمت في المنفى أو في الشتات. عندما تكون في بيتك لا تمجد البيت ولا تشعر بأهميته وحميميته، ولكن عندما تحرم من البيت يتحوّل إلى صبابة وإلى مشتهى، وكأنه هو الغاية القصوى من الرحلة كلها. المنفى هو الذي عمّق مفهوم البيت والوطن، كون المنفى نقيضاً لهما. أما الآن فلا أستطيع أن أعرّف المنفى بنقيضه ولا الوطن بنقيضه، الآن اختلف الأمر وأصبح الوطن والمنفى أمرين ملتبسين". ميزت كتابات محمود درويش بالنمط الكلاسيكي العربي ، حيث كتب قصائد monorhymed التى تلتزم بمقاييس الشعر العربي التقليدي وفي السبعينيات بدأ في الإبتعاد عن هذه المبادئ وإعتمد تقنية “القصيدة الحرة” التي لم تلتزم بدقة المعايير الشعرية الكلاسيكية ، وأفسح أسلوبه شبه الرومانسي لأعماله الطريق إلى لغة أكثر شخصية ومرونة . كما أعجب درويش بالشعراء العراقيين مثل عبد الوهاب البياتي وبدر شاكر السياب ، وإستشهد ب ريمبو وجينسبرغ وتأثر به أدبيا ، كما أعجب درويش بالشاعر اليهودي يهودا عميحاي لكنه قال عن شعره : إنه “تحدي لي” لأننا نكتب عن نفس المكان فهو يريد إستخدام المشهد والتاريخ لمصلحته الخاصة بناءً على هويتي المدمرة لذلك لدينا منافسة : من هو مالك لغة هذه الأرض؟ من يحبها أكثر؟ من يكتبها بشكل أفضل؟ . |