(12) بعد الفجر: كان بكر يضع الأكياس على طاولة المطبخ وهو يخاطب عبد الله وراءه: هل تحب الطعمية؟ ابتسم عبد الله في إحراج وهو يساعده في وضع الأكياس أيضا: أشعر بالخجل أنني سأثقل عليك في الإفطار اليوم! قال الدكتور وهو يغسل الطماطم في الحوض باستنكار: لا تقل هذا! ثم إن لي خطّة شريرة من وراء ذلك! ضحك عبد الله مغمغما: وماهي؟ قال الدكتور بعينين لامعتين: لأن عبير متعبة من السهر، لقد ظلّت تعتني ببلال البارحة حتى ساعة متأخرة من الليل، وتريد أن تنام ساعتين قبل الذهاب إلى المدرسة! ثم ابتسم ابتسامة واسعة وهو يشمّر عن أكمامه بنشاط: ولذلك سوف أصنع الإفطار هذا اليوم بمساعدة منك، إفطارا شهيا بالطبع! عقد عبد الله حاجبيه في ضيق وهو يقول: ولمَ تعتني عبير به وتسهر من أجل ذلك؟ لقد كان يبدو عليه الصحة والعافية بالأمس. غمغم بكر بأسف: لقد تعب بعدها وارتفعت حرارته. سكت عبد الله وهو يتأمل بكر منتظرا أي تكملة منه، لكنه فوجئ به يقول: هل بإمكانك يا عبد الله أن تذهب لتنظر أهو نائم أم لا؟ قال عبد الله بضيق: أنا؟ لماذا؟ إنه يكرهني.. فابتسم بكر: أنت لن تذهب لتجادله، سوف تلقي نظرة عليه فقط... هيّا! رضخ عبد الله للأمر، وحاول أن يفتح باب غرفة بلال بهدوء شديد حتى إذا كان نائما لا يستيقظ، وشاهد بلال جالسا على سريره يتمخط بمنديل على أنفه، وحين لمحه التفت إليه بعدوانية هاتفا بصوت مبحوح: لم لا تطرق الباب؟ عقد عبد الله حاجبيه في ضيق وإحراج مغمغما: خفت أن تكون نائمًا! وتأمل أنف بلال المحمّر مع عينيه الحمراويتين الدامعتين، والكمادات موضوعة بإهمال على سريره، لا شك أنه من أزالها.. فسأله محاولا أن يقولها بلطف: هل أنت بخير؟ أشاح بلال بوجهه إلى الناحية الأخرى وقال غاضبًا: لا شأن لك! ثم استلقى على سريره وغطّى وجهه بالبطانية قائلا: اخرج من هنا! ابتلع عبد الله ريقه في صعوبة وهو يشعر بالإهانة ولكنه تذكر كلام بكر فحاول التنفس بعمق ونسيان ما فعله قبل قليل، أغلق الباب واتجه إلى بكر الذي سأله دون أن ينظر إليه: ما الأخبار؟ فقال عبد الله وهو يُكمل عمله في المطبخ: ليس نائما، يبدو وكأنه يعاني من زكام ورشح فوجهه كان محمّرا بشدة وكذلك لقد رمى الكمادات على سريره! عقد بكر حاجبيه في انزعاج، وابتسم قائلا: إنه متعب حقا في العلاج! غمغم عبد الله عابسا: لست مضطرا، بإمكانك أن تذهب به إلى المستشفى وهم يعتنون به هناك ثم يعيدونه إذا شُفي. قال بكر بضيق حاول إخفاءه: ما الذي تقوله يا عبد الله بالله عليك.. ثم تنهد قائلا: سأذهب لتفقده. _ دخل بكر، كان بلال يغطي رأسه كلها، لمح يده من تحت الغطاء يتمسك بالسرير وكأنه يتألم، هزّه برفق قائلا: بلال.. ما بك؟ رفع بلال الغطاء من فوق وجهه ليقول بصوت مختنق: ما الذي تريده أنت أيضا؟ ثم نظر إليه في عدوانيّة، شعر بكر بعينيه الحمراويتين وهالاته السوداء، سأله بهدوء: لماذا لم تنم؟ حاول بلال ألا يكترث وهو يتساءل بشحوب: كيف عرفت ذلك؟ ابتسم بكر وهو يهزّ كتفيه ببساطة: وجهك يفضحك دائما. ثم انحنى ليجلب الكمادات وهو يقول: ولماذا أوقعتها؟ عقد بلال حاجبيه في غضب وهو يقول: هل جئت لتحقق معي؟ حاول أن يخفف بكر عليه بابتسامة ولكن بلال أشاح بوجهه مغمغا في استياء: أتمنى لو تحضر لي أي مسكن، الآن رجاء. وبدا أنه يعاني من صداع شديد بالفعل، وهو يضغط على أسنانه لكيلا يطلق أي صوت يفضحه أمام أحد. قال بكر في داخله بأسف: إنني لا ألومه، لا شك أنه ظل يفكر في أحداث حياته السابقة، لقد نمت الليلة ساعتين بصعوبة شديدة، فكيف ينام هذا الفتى الذي عاش الأحداث المُفجعة بنفسه؟ ذهب إلى المطبخ فاتحًا الثلاجة أمام انتباه عبد الله الذي توقف عن عمله وقال: ما الأمر؟ غمغم بكر بحسرة: المشكلة أن نفسيته المدمّرة هي من تجلب له الأمراض، علينا أن نعالجها أولا.. أخذ علبة صغيرة وزجاجة ماء، وعبد الله أكمل عمله في حيرة! _ تحمّل يا بلال.. تحمل قليلا.. كنت أحاول تصبير نفسي.. الألم هائل في رأسي، منذ تركني الدكتور بكر البارحة وأنا تفكيري لا يتوقف.. الأحداث تتكرر أمام عيني كلما أغمضت عيني لأحاول النوم.. عدنان... رقية... زهرة وبسمة.. صورهم تتوالى على ذاكرتي.. وتدور.. تدور.. حتى دارت رأسي منها. إضافة إلى الزكام الذي زارني في الليلة الماضية والحرارة، لماذا تتوالى على رأسي المصائب وكأنها تقول لي تحمّل الحياة الصعبة جزاء لتراجعك عن الانتحار؟ تنهدت للمرة الألف وتساءلت: أليس من الأفضل لو أنني مت؟ أليس من الأفضل لو قتلت نفسي، وليذهب ذاك الدين الذي أدانه علي الدكتور بكر إلى الجحيم! وحينئذ لن أكون خائنا لإخوتي، الذين ذاقوا العذاب ألوانا في حياتهم البائسة وأنا أتمتع بسرير دافئ واهتمام صحي فائق! هل هناك ميزة في الحياة لكي أتحمّل هذا الألم وأُكمل العيش؟ ماذا لو.. أمسكت رأسي لكيلا ينفجر من الاحتمالات والافتراضات. في الحقيقة إنني أحتاج أن أغيب عن وعيي قليلا.. فتحت عيني بضجر. أين المسكن؟ لمحت وجه الدكتور بكر وهو يقول باهتمام ممزوج بقلق: لقد أحضرت لك المسكن.. لمَ تبكي الآن؟ قلت له بسخرية وأنا أقوم جالسا بصعوبة: أنا.. بالطبع لا.. إنه الزكام! _ "بلال.. هل تريد مشاهدة التلفاز معي؟" ابتسمت عبير في وجهي وهي تفتح باب غرفتي بسرعة ومرح، رفعتُ بصري إليها وتساءلت ببرود: ماذا سنشاهد؟ نظرت إلى السقف وراحت تعدد على أصابع يدها: مسلسل كرتوني مشوق للغاية، برنامج حيوانات، وربما إذا أردت نشاهد مسابقات الأشبال.. لم أكن أعرف أيًّا منها على أية حال! قلت: إذن دعينا نشاهد المسلسل الكرتوني أفضل. كم هذا مضحك أن أختار شيئا لا أعرفه.. ولكنني لا أضحك البتة! ركضت بفرحة وهي تشغل التلفاز في الصالة وأنا قمت لأتبعها، البارحة كان يوما مزعجا. لقد نمت بعمق حتى الظهر، كانوا قد ذهبوا إلى المدرسة وعادوا أيضا.. بل وحضروا الغداء ثم قرروا إيقاظي.. كانت الحرارة قد انخفضت والصداع زال، بسبب الأدوية الكثيرة التي أعطانيها الدكتور بكر.. وأمضيت بقية اليوم بين المناديل والمسكنات أو أكواب عصير الليمون، الرشح والزكام مزعجان جدا. في صباح اليوم التالي، تناولت الإفطار بهدوء لوحدي وأنا أفكر كيف كانت آلام الأمس المهولة مجتمعة علي في لحظة واحدة.. وعندئذ اقتنعت أنني لا أريد خوض هذه التجربة مجددا.. إنني أكره الألم! أريد الموت دون ألم.. ولكن إذا كان للموت سكراتٌ كما يقولون، سكرات شديدة الألم.. فلا أريد الموت.. حقا. لا أريد الموت.. "هل قلت شيئا يا بلال؟" كانت عبير تنظر لي من بعيد وهي في الصالة، انتبهت أنني قلت الجملة الأخيرة بصوت عال قليلا، فهززتُ رأسي نفيا وأنا أقول بصوت أعلى: لا. جلست على الأريكة مقابل التلفاز وقد بدأ المسلسل الكرتوني، وبدا على عبير الحماس الشديد بشأنه، أما أنا فمددتُ جذعي لأتمكن من التقاط المنديل من منضدة أمامي مباشرة، مازالت آثار الزكام عندي، لكنها لا تستحق القلق. حسنا، لا تظنوا أنني أهوى مشاهدة التلفاز ولكنه وسيلة لتمضية الوقت، لقد جلست وقتا طويلا لوحدي في غرفتي أحاول أن أشغل نفسي، لكن لا شيء! شعرت برغبة ملحّة في داخلي بأنني أريد تعلم القراءة لأقرأ تلك الكتب الكثيرة في مكتبة الدكتور بكر...! لكن كيف لي ذلك؟ مجرد التفكير بأنني أمّي جاهل يجعلني غارقا في الخجل! حاولت التركيز في المسلسل الكرتوني لكيلا أفكر.. أفكاري بدأت تتُعبني مؤخرا. ابتسمتُ عند موقف مضحك بينما عبير انفجرت ضاحكة بقوة وهي في قمة سعادتها. كانت تأكل من طبق فشار أمامها، في الحقيقة كنت أريد الأكل.. ولكنني تذكرتُ في آخر لحظة أن لكل شيء ثمنه، فتراجعتُ، نظرت عبير لي باستغراب قائلة: بلال؟ لم لا تأكل الفشار؟ قلت ببرود: لا أريد. أعادت حبيبات الفشار التي أخذتها لتوّها وقالت بحزم: إذن لن آكل أنا أيضا! قلت بدهشة وأنا ألتفت لها: لماذا؟ قالت برضا: لأنني لن آكل أمامك وأنت لا تأكل! عقدتُ حاجبيّ بانزعاج ولم أردّ.. انتهى المسلسل الكرتوني، ثم أخذت عبير تقلّب في القنوات وهي تغمغم بتفكير: ماذا هناك أيضا؟ حتى وقفت عند قناة ما.. تبدو قناة إخبارية. لمحتُ شيئا زلزل كياني.. وقالت عبير عابسة: هذه قناة إخبارية.. وهمّت لتضغط القناة التالية، فصرختُ فيها بانفعال: توقفي! ولكنها كانت قد ضغطت بالفعل، التفت لي بدهشة وخوف وهي تقول: ماذا هناك؟ صرخت فيها بعصبية: أعيدي القناة التي كانت للتو.. أسرعي. أعادتها بوجل وهي تراقب انفعالي القوي.. وأنا أحدّق بالتلفاز مصدوما، ثم سكتت وهي تحاول رؤية ما أثار انفعالي على هذا النحو. كان رجلا في الأربعينيات، يبدو فقيرًا ومُعدما، يجلس على كرسي مقابل امرأة مذيعة، وينظر في الأرض باتجاه ملابسه الرثّة، ويقول بوجه شاحب: لا أعلم ماذا أفعل.. كيف أنقذها؟! ثم دمعت عيناه وهو يهتف بأسى: لقد توفي أولادي الأربعة، فقدتهم في حوادث مأساوية، الأول كان يعمل في أحد المصانع وقُطعت يده وتوفي بسبب الحمى.. لم أكن أملك المال الكافي لمعالجته. والآخر مات من الجوع وسوء التغذية! وابنتاي التوأم ماتا في حادثة سيارة هرب منها الفاعل! والآن.. ابنتي الوسطى ترقد في البيت دون أن أملك لها أي شيء.. حقا أتقطع من داخلي وأنا أرى الناس الأثرياء يشترون بأموالهم وجبات المطاعم الفخمة، وأنا.. لا أجد جنيها واحدا لإطعام ابنتي فضلا عن معالجتها! ثم انهمك في بكاء قوي.. يقطع القلوب! ويُدمع العيون! يدمع عينيْ عبير التي بجانبي بالطبع.. أما أنا فقطع قلبي من الغضب والحقد! وقبضت بيدي على منديل في يدي فتته، قلت من بين أسناني ثائرا: كاذب... والله إنك لكاذب.. أيها الوغد الحقير! هذا لأن الذي كان في الشاشة.. أبي. |