اقتربنا من النهاية أخيرا ^^ وكل عام وأنتم بخير بمناسبة رمضان إن شاء الله الرواية ستنتهي في الأسبوع القادم وسأفرغ للرد على جميع ردودكم بإذن الله _ (28) ازداد توتر رقية وهي تنظر في الساعة التي تشير إلى الرابعة صباحًا، قامت جالسة من فوق الأريكة التي جلست عليها لتنتظره لكنها نامت من شدّة النعاس الذي حلّ عليها دون علمها. ظلّت تنظر بإحباط وخيبة أمل إلى تلك الكعكة المزُينة، لقد نجحت لأول مرة في صنعها منذ أخذت طريقتها من عبير، ووعدتها بصنعها لبلال مكافأة له على جهوده الكبيرة على فتى في مثل سنّه! وظلّت تفكر في وجوم أين هو؟ لم لم يعد حتى الآن؟ هل بات مرة أخرى مع بقية العمّال مثل تلك المرة الماضية؟ ساورها الشك وهي تقول باضطراب: لوكان بات هناك لأخبرني قبل ذهابه أو على الأقل اتصل بي.. زفرتْ بحرارة وهي تقوم تراقب الباب لعلّ أحدًا يطرق عليه، أخرجت هاتفها المحمول المتواضع جدا وهي تنظر بيأس إلى كل تلك المكالمات (التي لم يُردّ عليها).. قررّت أخيرًا أن تتصل بالدكتور بكر، فهو الرجل الوحيد الذي تستطيع الوثوق به في عالمها الصغير. وهو أفضل من يتولى المسؤولية. لحظات وتم الردّ، فالدكتور بكر غالبًا ما يكون مستيقظًا في الساعة الرابعة صباحًا، عرف صوتها على الفور فقال بعد سكوت: رقية؟ كيف حالك يا بنيّتي؟ قالتْ بتوتر: بخير، دكتور بكر.. هل أستطيع.. طلب شيء ما.. أجاب على الفور بترحاب: بالطبع.. تفضلي. تهدج صوتها وهي تقول: بلال.. لم يعد حتى الآن من عمله، أنا قلقة عليه كثيرًا! اتسعت عيناه دهشة من الجهة المقابلة وهو يقول محاولا تهدئتها رغم القلق الذي تفجّر بداخله للتوّ: لا بأس يا رقية، لعلّه خير، سوف أذهب للورشة للسؤال عنه، هل اتصلتِ به؟ قالتْ بانفعال: كثيرا، ولكنّه لا يرد! أتاها صوته الثابت قائلا بأمل: لا بأس.. سوف أبحث في الورشة وأتفقده هنا وهناك لعلّني أجده، وسأتصل بك لاحقا! أومأت رقية برأسها في استسلام حزين وهي تهمس: نعم، أرجوك، لم أعد أقوى على فقد آخر شخص من عائلتي.. لم يستطع بكر التعليق على جملتها المتألّمة إلا بعد لحظات طويلة مستدركًا بعطف: كلّنا عائلتك يا رقيّة. ابتسمت ممتنة قائلة: أشكرك.. ثم ما لبثت حتى أنهت المكالمة وقلبها يستعيد هدوءه واطمئنانه قليلًا، حاولت إشغال نفسها بالمزيد من الأعمال الوهمية لتتغلب على خفقان قلبها المستمرّ المضطرب، كانت تخشى النظر إلى الساعة، ظلّت هكذا حتى طُرق الباب، فركضت بجنون وهي تهتف بفرحة عارمة: بلال! فوجئت أمام وجهها بالدكتور بكر يقف واجمًا، أطرق برأسه متألمًا حين سمع كلمتها، توقفت للحظة وهي تنظر باستغراب ثم سألته في لهفة: أرجوك أخبرني ما آخر الأخبار؟ أخذ نفسًا عميقًا قبل أن يبتسم قائلا: ربّما أخوك يختبر معزّته لدينا. رمشت بعينها وهي تعقد حاجبيها: ماذا تعني؟ قال بهدوء: أخبروني في الورشة أنه غادر منذ الثانية عشرة ليلًا وعاد إلى المنزل حسب اعتقادهم، حاولت البحث في الطرق أثناء سيري لكن لم ألمح له ظلّا. ازدادت ضربات قلبها بعنف وهي تقول بفزع: إذا.. ماذا؟ قال لها بتفهم ورجاء: لقد بلّغتُ بخبر اختفائه، ولكن عليكِ أن تظلّي معنا حتى نسترده بإذن الله، من يدري، ربمّا نام في الطريق فأنا أعلم رغبة بلال الجنونيّة في النوم إذا ما أحس بالإرهاق. ثم ابتسم مُداعبًا، لكنّها أطرقت بحزن، فجأة تحولّت ملامحها إلى دهشة وذهول وهي تشير إلى شيء أسفل قدمها جذب انتباه بكر كذلك ثم قالت ببطء: إنها.. مفاتيح بلال! _ كان صداع رأسي مستمرا عندما استيقظتُ، بعد أحلام طويلة في الظلام! أطلقتُ أنينًا ضعيفًا واهنًا دون إرادة منّي وأنا أتقلب على أرض صلبة وأحاول جاهدًا فتح عينيّ المُنهكتين. كانت الغرفة الرماديّة خالية إلا من نور ضعيف للشمس يصل من النافذة الصغيرة جدا في أعلى الجدار، ما هذا؟ أين أنا؟ ماذا جرى لي؟ كنت أشعر بفقدان الذاكرة، ما الوقت الآن؟! انتفضتُ فجأة حين عرفتُ كل شيء، الفجر، رقيّة! صلّيتُ الفجر خاشيًا فوات وقته، وتوضأت من صنبور صغير في زاوية الغرفة، ثم رحت أحاول استكشاف الغرفة وإيجاد مخارج منها، هل خُطفت؟ ابتسمتُ بسخرية: هل أنا شخصية مهمّة لهذا الحد لأُخطُف؟ أم أنني خُطفت عشوائيا على يد عصابة تريد الفدية! على الفور قلتُ بصوت عال متهكم: أيها اللصوص، لا أحد سيدفع لي فدية فلا تتعبوا أنفسكم! بعد جُملتي تلك سمعت صوت صرير مُزعج بعدها فُتح الباب، وظهر رجلان متوسطي الحجم، كانا يرتديان ملابس عادية، نظرا إلي ببرود، ثم تقدّما نحوي في ثبات! هل يُمكنني مراوغتهم والهرب؟ لا أعلم حقا ماذا بخارج هذه الغرفة، لذلك علي الحذر والترقب لا المخاطرة، خصوصا أن حياتي أصبحتْ مؤخرًّا مُعرّضة للخطر، وطبقا لرأي رقية أنا من المعذبّين في الأرض وأنني أسوأ أهل الكرة الأرضية حظًّا، فحين أردت الموت حاصرتني كل الظروف من حولي تُجبرني على العيش، وحين أردتُ العيش... كما ترون! من يدري فربما لو حاولت مراوغتهم أخرجوا مسدساتهم وتعهدّوني بطلقاتهم حتى أموت هنا يا له من شعور مخيف! استسلمتُ ظاهريًّا لهما وهما يقيدان يدي خلفي، سألتهم: ماذا تريدون منّي؟ لا أملك أي مواهب على الإطلاق سوى طرق عديدة للانتحار، بإمكاني أن أخبركما بجزء منها وتطلقان سراحي؟ نظرا إلي بجمود وأحدهما يقول: رجاء تفضل بالسكوت! ستعرف كل شيء بعد قليل! رجاء؟ هل هما يرجوانني؟ كم هذا غريب، يا لهما من مجرمين مؤدبين! بدأ أحدهم بربط عصابة على عينيّ، حسنًا هذا طبيعيّ لكيلا أكتشف مكاني، تبًّا! أمسكا كتفيّ وسارا بي خمس دقائق تقريبا ثم توقفوا، رُفعت العصابة من فوق عيني لأرى نفسي في مكان آخر تمامًا، لقد كان أشبه بمنزل شديد الفخامة والروعة! الجدران مُزيّنة بالورود والألوان الذهبية والأثاث الغامق يشعّ كبرياء وغرورًا، أو هكذا يُخيّل إلي، كنت أظن أن الدكتور بكر من الأغنياء، ولكن الآن غيرتُ رأيي، فهذه بيوت الأثرياء الحقيقيّة، رأيت الساعة على الجدار تقترب من السابعة صباحًا، وسط دهشتي جذب انتباهي قول الرجلين باحترام: صباح الخير أيها الزعيم.. لقد أحضرنا الشابّ الذي طلبت! زعيم؟ من هذا؟ انتبهتُ لوقوف رجل كان جالسًا على الأريكة التي تُعطيني ظهرها ولذلك لم أستطع رؤيته. التفت حينئذ الزعيم، إليّ، بنظرة هادئة مُفزعة في الوقت ذاته، وابتسم ابتسامة واسعة قائلا: مرحبًا بك يا بلال! لكنني كنت أرتجف وأنا أنظر إلى ملامحه، إنه عدنان! فتحتُ فمي وأنا عاجزٌ عن النطق، بينما هو يتابع الكلام متجاهلًا انفعالي: أعتذر عن أي متاعب سببها لك رجالي، ولكنني واثق أن عرضي عليك الآن سيُنسيك كل ما حصل. لا ردّ من ناحيتي، لقد كنت أفكر بشكل محموم كيف يمكن أن يعود الميت إلى الحياة؟ كيف يمكن أن يكون عدنان هذا الرجل؟ كيف.. زعيم عصابة تختطفني؟ هل أنا أحلم؟ ثم ابتسم ابتسامة واسعة وهو يفتح يديه قائلا بإعجاب: في الحقيقة أنت شاب ذكي، مجتهد، رائع، تتحملّ المسؤوليّة، لا تتوتر بسرعة، بل أنت بأعصاب ثابتة دومًا. لم أفهم شيئا، ما زلتُ أنظر بذهول نحو ملامحه غير مصدق لما أراه وأسمعه! أهذا هو عدنان؟ وما مناسبة كلامه هذا، أشعر بأنني على وشك الجنون. تابع عدنان بلهجة إغراء: وتستحق بعد تلك الصفات العمل معنا كمهرّب! قلتُ بدهشة وريقي جاف في حلقي: مهرّب؟ معكم؟ ألن تطلبوا فدية من أهلي؟ هزّ رأسه نفيًا وهو يقول: لا، أنت أكرم علينا من أن تكون أداة نطلب بها حفنة مال قذرة، نحن مجموعة نعمل لأجل الكسب والقوت في بيع المخدّرات، ونحتاج شخصًا مثلك ليكون للتهريب. كادت الحيرة والذهول يقضيان عليّ، غمغمتُ بتهكم: تكسبون قوتكم من بيع المخدّرات، يا لكم من رائعين! كنت أنتظر لحظة ما لأنقض على عدنان وأفوّقه، فلا شك أنه لا يتذكرني، بمجرد أن مدّ يديه لي قائلا بابتسامة حنونة: ها، ماذا قلت يا بلال؟ هل ستنضم لنا؟ أبعدتُ يدي الرجل الذي خلفي سريعًا وانطلقت راكضا إلى عدنان الذي زادت ابتسامته بقوة وهو ينظر إلي مٌشفقا، لم أستطع تفسير نظرته لأنني هويتُ على وجهي من أثر ضربة على رأسي من أحد الرجلين. قمت بصعوبة بسبب قيد يدي، وجدت عدنان يقف فوقي تماما، نطقتُ بلهجة لاهثة: عـد.. انقطع صوتي اللاهث وأنا أنظر إلى عدنان الواقف بكل هدوء، قال بلطف: بلال.. أحببتُ أن أخبرك، أن رفضك غير مقبول، فلقد علمت سرّنا وانتهى الأمر، ستظلّ مُجبرًا على الموافقة حتى تعود إلى أختك، وإلّا.. ثم قال بلهجة حزينة: ستظلّ سجينا لدينا حتى يموت شبابك الجميل! قلت بصوت قويّ جمعتُ فيه قوّتي: أرفض العمل.. وسوف أعود إلى أختي رغمًا عن أنوفكم! اقترب من وجهي حتى نظرت بذهول إلى ملامح عدنان الواضحة، أنفاسه اقتربتْ مني وهو ينحني ليقول لي بوجه شارد: لن تستطيع! ثم أشار لهم إشارة خاصة فشعرتُ بقيود يدي تُفكّ! لم أتمكن من الردّ عليه، تسمرّتُ في مكاني وأنا أراه يُخرج بضعة رُزم ماليّة ليضعها في يدي هامسًا بحب: ربما تحتاج عربُونًا للموافقة! بمجرد لمس الأوراق المالية ليدي حتى نسيت أمر عدنان، وأمر أخوتنا، لم أذكر إلا أنني رميتُ الأوراق بعنف على وجهه ثم بصقتُ عليه بكامل غضبي. سقطت الأوراق أرضا بينما ظلّت بصقتي على وجهه الشاحب تنزل إلى خدّيه كأنها دمعة وهو يحدّق إلي بحزن، همس بلهجة غريبة: يا لك من قاس! هممتُ بالانقضاض عليه ثانية لكنني قُيّدت مرة أخرى بقوة وعنف أكبر حتى تألمّت، أغمضتُ عيني لأفتحهما بعد قليل وأنا أسمع شتائم الرجلين لإهانتي زعيمهم، لكنّهم لم يضربانني لحسن حظي! اختفى عدنان وحلّ الظلام عليّ مجددا حين ربطا العصابة على عيني وقاداني إلى غرفة ما، كانا يرددان كلامًا عن وجوب أن أكون نادمًا بعد الذي فعلتُه خصوصا أنني رفضت عمل التهريب الذي كان سيجعل مني ثريّا برحلة تهريب واحدة! أعيش في فيلّا مماثلة لهذه الفيلا التي يعيش فيها زعيمهم المزعوم! كنت أشعر بالصدمة في داخلي، أطرقتُ بألم وحزن في تلك الغرفة البيضاء التي تركاني بها مقيّدا إلى الحائط، كنت من صدمتي في عدنان مستسلمًا لهما بشكل أدهشني كثيرًا، منذ متى وأنا بهذا الهوان؟ دفنتُ رأسي بين ركبتيّ وأنا أفكر بيأس: كيف سأخرج من هذه الورطة؟ وكيف سأقنع نفسي أن من رأيته كان شبيهًا بعدنان لا أكثر، فعدنان مات منذ سنتين بالتأكيد. رقية تنتظرني في البيت، لا شك أنه جُنّ جنونها بسبب تأخيري كل هذا الوقت، لا أعلم حقا! ماذا أفعل؟ ماذا بيدي؟ بعد قليل فتح أحدهم الباب وأغلقه خلفه بإحكام، تقدّم إلي حاملا صينية فوقها عدّة صحون وهو يقول ببرود: طعام الإفطار. لم أستجب معه بأي شكل، وضع الصينية أمامي، فقلت بسخرية: هل تظنني قادرًا على رفع الأكل إلى فمي دون يد؟ كائن فضائي أنا؟ لم يُجب هو هذه المرّة، بل انحنى ليفكّ قيدي الحديديّ، قائلا: سأظل معك حتى تنهي طعامك، ثم أسمح لك بدخول الحمّام مرة واحدة، وأعيد قيودك ثم آخذ الصينية لأرحل! فتك الجوع بمعدتي، فالجوع يلازمني منذ الأمس، مذ كنت عائدًا إلى منزلي في منتصف الليل، هل تذكرون ذلك؟ ولكنني بالتأكيد لن آكل من مال عصابة مخدرات، ابتسمتٌ لنفسي، أصبحت مصادر أموال الناس شيئا مهما بالنسبة لي لأقرر أكلي منها أو عدمه. مرّ الوقت طويلا وأنا أحتضن ساقيّ إلي وأقوّس ظهري لأدفن رأسي بين ركبتيّ، والرجل جالس ينتظرني. قال بملل: نسيت إخبارك أن الوقت المسموح لك هو ربع ساعة فقط، وبعدها الطعام سيُرفع سواء أكلت أم لم تأكل! قلتُ بشرود: هل بإمكاني دخول الحمّام؟ أومأ برأسه موافقا وهو يُشير إلى باب صغير في نهاية الغرفة بلا مبالاة، قمتُ مسرعًا، تفقدت الحمام من الداخل ولسوء الحظ لم تكن فيه سوى نافذة صغيرة جدا لن أستطيع حتى إدخال نصف جسدي منها! خرجتُ من الحمام بإحباط شديد، ثم سألته: هل بإمكاني مقابلة زعيمكم هذا مرة ثانية؟ ربما أوافق على طلبه! نظر لي في شك وهو يتأمل ملابسي المغبّرة وعينيّ المُتعبتين، وشعري الذي تبعثر على جبهتي فلم أستطع منع خصلاته من اللعب فوق رأسي بحرية! ثم قال برتابة: إنه مشغـول. هل تناولت طعامك؟ هززتُ رأسي نفيا وأنا أذهب إليه بنفسي وأسلّمه يدي قائلًا بتهكم: رؤية وجوهكم الجميلة أشبعتني! _ |