(15) دخلت عبير في مرح ضاحكة وهي تهجم على أبيها الذي فتح لها الباب، وتتعلق برقبته صارخة: ماما بكر! ضحك بكر بشدة وهو يقول مستنكرا: ماذا ماما؟ أنا بابا.. أكملت عبير ضحكاتها قائلة في شغف: ولكنك من صنعت الغداء اليوم، لذلك سوف تكون ماما. تركها بكر جانبًا وهو يضحك بقوة على ابنته المشاغبة ويرحب بعبد الله وبثينة الذين دخلوا بعدها.. كان عبد الله هادئا.. يتحاشى النظر لبكر، لكن الذي لا يعلمه أنه قد نسي ما حصل بسبب تحسن نفسية بلال، ذهبا هما الاثنان إلى المطبخ لبدء تحضير الطعام. ظلت عبير تدور في المنزل وتضحك وهي ماتزال بزي المدرسة ووراءها بثينة تلحق بها، دخلت غرفتها وخلعت خمارها وحقيبتها وكذلك بثينة، ثم أكملتا ركضهما، وعبير تقول لها بحماسة: سأريك بلال الذي أخبرتك عنه.. ثم فتحت باب غرفة بلال ووراءها بثينة بترقب، ثم قالت بخيبة أمل: نائم!! كانت الغرفة مظلمة كما العادة وضوء شمس الظهيرة يتسلل ليملأ الغرفة في خجل، وبلال ينام على جانبه الأيمن في سلام، ابتسمت عبير وهي تهمس لبثينة: هذا هو.. قالت بثينة ضاحكة وهي تهمس: إنه يبدو وسيما وهو نائم.. أهو كذلك حين يستيقظ؟ أم أنه يكون وحشا؟ احمّر وجهها وقالت مدافعة: إنه وسيم في كل الأوقات.. فوجئت بأبيها من خلفها يضع اصبعه على شفتيه هامسا: هششش.. ابتسمتا في شغب وهو يشير لهما إلى الخارج، ذهبتا متسللتين وهما تكتمان ضحكاتهما، وابتسم بكر أيضا في هدوء وهو يغلق الباب.. إنه مطمئن أنه لن يحدث صدام بين أحد الآن! _ استيقظتُ بعد العصر بوقت طويل، استنتجت ذلك من ضوء الشمس الذي بدأ بالاختفاء والتحوّل للون برتقالي محمّر.. فُتح الباب، هل يستطيع أهل هذا البيت أن يتوقعوا موعد استيقاظي بهذه الدقة؟! كانت عبير هاتفة بمرح: أخيرًا استيقظت، لا شك أنك جائع الآن.. أومأت برأسي في سكون، بعد الطعام، بدأت عبير في قراءة بعض الكتب لي، كنت أستمع بهدوء وأنا أشرب الليمون الدافئ، لقد أمسيت أتقبل هذه الفتاة أكثر عن ذي قبل. مرت الأوقات سريعة رغم الملل، استيقظت في اليوم التالي ولحسن الحظ لم يكن عبد الله موجودًا في الإفطار، فقد عادت أمه إليهم من سفرها، ذهب الدكتور بكر إلى عمله وعبير إلى مدرستها، وأنا اعتكفت أمام التلفاز، في يدي قلم وعلى حجري دفتر، هدية عبير.. وبدأت بتشغيل القناة، ثم ابتسمت بترقب وأنا أتعلم الأحرف وأحاول تقليد رسمتها في دفتري.. كنت متحمسًا جدا.. شعرت بقلبي يدق دقات سريعة وأنا أتمكن من قراءة أول كلمة لوحدي.. أسد. ظللت حتى الظهر وأنا في تعلم مستمر.. نظرت إلى الساعة، كانت على وشك أن تأتي الثانية عشرة ظهرا، أغلقت الدفتر سريعا ومضيت لغرفتي أخبئه في الدرج.. لن يسرّني أبدا أن يعرف الدكتور بكر أو تعرف عبير أنني أتعلم حروف الهجاء!! شعرت بالإرهاق بسبب استيقاظي وقتا طويلا كهذا من الفجر إلى الآن، حركت جسدي وأنا أتثاءب، وفزعت بصوت غريب يشبه رنين هاتف.. نظرت حولي في حيرة ووجل، هذا ليس جرس المنزل حتما. ذهبت إلى الصالة حيث كان الرنين مستمرا، انتبهت إلى الهاتف، رفعت السماعة بتردد، وضعتها على أذني وسكتت.. سمعت صوت الدكتور بكر قائلا: بلال؟ خرج صوتي مبحوحًا: نـ.. نعم؟ قال بلطف: هل بإمكانك أن تفتح الباب لـ عبير إذا طرقت الباب؟ فأنا في طريقي إلى المنزل الآن ولكن يبدو أنها ستسبقني! استغربت كثيرا، ألم يكن هو من يأتي بها من المدرسة؟ "بلال.. هل أنت معي" قلت بسرعة: آه نعم بالتأكيد. قال بحيرة أخيرا: في الحقيقة لقد اتصلت بها وأخبرتها أن تأتي لوحدها مشيًا.. فعلى كل حال مدرستها قريبة وغالبًا ما تذهب إليها مشيًا. انتظرت أن يقول شيئا آخر فأنا لا أحسن المجاملة، ولم أفهم أيضا لماذا تأتي اليوم وحدها؟ فقال: حسنا يا بلال.. هل تفتح لها؟ _نعم. _حسنا إذن إلى اللقاء.. أعدت السماعات، وسمعت طرقا على الباب، يا لسرعتها! بمجرد فتحي له حتى وجدت جسما صغيرا يقفز ويصطدم بي، تراجعت إلى الخلف عابسًا، غمغمتُ باستياء: ما بك؟ أنت تزعجينني. رفعت عبير وجهها في فرح قائلة: آسفة.. لكنني سعيدة جدا لأنك فتحت لي الباب ^_^ . أبعدتها برفق وأنا أستدير لأجلس على الأريكة قائلا: حسنا وماذا لو فتحت لك الباب؟ هل أكون بطلًا خارقًا؟ ضحكت بشدة وهي تغمض عينيها وتجلس على الأريكة بجانبي.. يا لها من مزعجة حقا! سألتها بجدية: لماذا جئت اليوم وحدك؟ ابتسمت في شوق وهي تضم يديها الاثنتين إلى بعض وتقول بلهفة: لأن جدتي اليوم قــــادمة إلينا، أبي ذهب ليأخذها من بيتها. صرخت بذهول: ماذا؟ أمـــــــــــه؟؟ قالت بخوف: ماذا بك؟ قلت ضاحكًا بسخرية: هل لديه أم؟ قالت مبتسمة: بالتأكيد، إنها جدتي، إنها تحبني كثيرا، وسوف تحبك بالتأكيد عندما تراك. قلت ساخرًا: لا أريدها أن تحبني.. أريدها أن تكرهني. اتجهت إلى غرفتي وعبير تسألني بقلق: ماذا ستفعل؟ قلت بجمود: اطمئني لن أحرق نفسي، سوف أنام فقط! قالت بخيبة أمل: ولكن.. جدتي! تركتها ودخلت إلى سريري، فوجدتها تتبعني، وفمها يتقوس للأسفل، إنها على وشك البكاء -_- قالت بعينين دامعتين وهي تمسك يدي وتشدها: أرجوك فقط قابلها، سوف تعرف كم هي حنونة! قلت بلا اكتراث: لا أحب الأمهات الحنونات. سمعنا صوت الباب يفتح بالمفتاح، نظرت إلي برجاء: أرجوك.. فقط تناول الغداء معنا ثم اخلد إلى النوم! تنهدت، أعلن استسلامي أمامها.. يا إلهي لماذا لا أكون قاسيا أمام هذه الطفلة بالذات؟ إنه شيء محير.. وجدت الدكتور بكر يدخل ووراءه سيدة نحيفة ملامح وجهها جميلة، وتجاعيد جلدها توحي بكبر سنها حتى الخمسين، ترتدي خمارا خفيف اللون، على عباءة زيتيّة فيها ورود بنفس لون الخمار.. صرخت السيدة بفرح وهي تفتح ذراعيها: عبير حبيبتي.. ركضت عبير إليها لتستقر في حضنها ثم تدور بها، وتقبل وجهها ورأسها في لهفة وهي تقول بضحكات متتالية في سعادة لا توصف: لقد كبرت وأصبحت رائعة الجمال.. اشتقت إليك كثيرا.. بينما كنت منشغلا بمشاهدة الموقف في برود أمام باب غرفتي، وجدت الدكتور بكر يُقبل إليّ ممتنا: أشكرك.. نظرت له ببرود، فزادت ابتسامته اتساعًا ومضى يحمل الأكياس إلى المطبخ، يبدو أنه الغداء الذي صنعته أم عبد الله. شردت في الأرض وأنا أحاول تذكر ملامح أمي، لماذا كانت حنونة وغبية بنفس الوقت؟ لماذا كانت تضمنا إلى صدرها بطريقة توحي لنا أنها لن تؤذينا أبدا؟ ثم نفاجئ أنها هي من توافق أبي بكامل إرادتها على خططه الحقيرة لاستغلالنا.. بل وتشجعنا على ذلك بمنتهى الحنان! شعرت باكتئاب مؤلم بمجرد تذكر ذلك، ولكنني فوجئت بعبير تشد يدي قائلة: جدتي.. هذا بلال الذي حدثتك عنه! -_- هل حدثت عبير كل أهل الأرض عني؟ تبًّا، فوجئت بجدتها تقترب وهي تقول بلطف فائق وابتسامة: هكذا إذن.. يبدو فتى ذكيًّا! حاولت أن أنظر إلى الجهة الأخرى في سخرية شديدة، لكن.. فجأة.. أظلمت الدنيا أمام عيني، وطرقات قوية على ظهري! لا لحظة.. لقد سحبتني تلك الجدة إلى صدرها وبدأت تربت على ظهري قائلة بحنان: سمعت أنك وحيد أيها الفتى.. لا تقلق كلنا جميعًا حولك! يا إلهي لم أتخيل أن تفعل هذا أبدًا! سعلت وأنا أشعر بألم بسيط في ضلوعي، أبعدتها بغضب، وهي نظرت بدهشة إلي، أسندت ظهري إلى الجدار وأنا أنظر إلى الدكتور بكر الذي عاد من المطبخ وعلى وجهه إحراج، وقال متلعثما وهو يحكّ جبينه بإصبعه: آه.. حاولي ألا تفعلي هذا يا أمي.. بلال كبير الآن.. نظرت لي باستغراب وتمعن ثم قالت باعتراض: إنه مازال طفلا يا بكر.. لا تعقد الأمور هكذا! ثم تنهدت في حيرة وهي تبدأ في خلع حجابها، والدكتور بكر ينظر إلى عيني نظرة اعتذار مع ابتسامة مهوّنة.. نظرت له غاضبا ثم رحت أنظر إلى عبير التي قلدت جدتها هي الأخرى، وخلعت حجابها، بينما أمه تقول: بكر أما تزال عبير صغيرة على هذا الحجاب؟ قال بكر بهدوء وتفهم وهو يعود إلى المطبخ: لا يا أمي.. إنها تحبه.. بينما هتفت عبير في فرح: نعم أحبه يا جدتي. تنهدت جدته في استسلام وقد ظهر شعرها الأبيض الناعم وقد سرحته إلى مؤخرة رأسها كـ كعكة.. لحظة، لقد قالت هذه العجوز شيئا عني، أنني طفل! قلت باعتراض حاد: على فكرة أنا لست طفلا! نظرت إلي في انتباه ودهشة، فعقدت حاجبي بغضب ونظرت بتحد لها. اقتربت مني وهي تحدق في ملامحي بتركيز، تراجعتُ إلى الجدار أكثر بتوتر، ماذا ستفعل هذه المرة؟ فوجئت بها تقول بقلق وتوبيخ: بكر.. ما هذا؟ جاء صوته بعيدا: ماذا يا أمي؟ قالت تعاتبه بشدة: أهذا الفتى الذي تعتني به؟ إنه يبدو شاحب الوجه بشدة! _ وقفت أمام باب المطبخ بغضب وهي تقول: بكر.. إنه أمانة في رقبتك! أين هي تلك العناية التي تحدثني عنها؟ انظر إلى وجهه فقط ستعرف أنه من شدة شحوبه سيفقد وعيه بعد قليل! ثم دخلت المطبخ وهي تلتقط كوبا وبكر في غاية الإحراج وهو يقول بانخفاض لكيلا يسمعه بلال: أمي.. تذكري أن لدي عمل طول اليوم وكذلك هذا الفتى عنيد في العلاج! قالت باقتضاب وهي تصب الحليب: إذا لم تكن قادرًا على العناية به فدعه لي، على الأقل يسلّي وحدتي.. أفضل من أن يموت بين يديك! أطرق بكر رأسه في انكسار وهو يرتب أطباق الطعام، لقد تذكر كلمات مريم، همس لنفسه بمرارة: هل أنا سيء لهذا الحد في العناية بمن أحبهم؟ خرجت أمه بعد أن أخذت طبق عسل نحل فيه ملعقة صغيرة، وجدت بلال جالسا على الأريكة بجانب عبير التي كانت تعرض عليه بعض رسوماتها وهو يهز رأسه في إعجاب يحاول إخفاءه. ابتسمت وهي تجلس بجانبه، فالتفت نحوها في عدائية، وعبير تقول: جدتي جدتي.. انظري إلى رسوماتي.. قالت بلطف: بالتأكيد يا حلوتي ولكن بعد أن أفعل شيئا ما.. وجدها بلال تضع في يده كوب حليب فقال بقسوة: لا أريد! ضحكت برقة وهي تمسك المعلقة فيها عسل النحل، وتقول بحزم: بل ستفعل.. أنت لم تنظر إلى وجهك في المرآة! قال بعصبية: من تظنين نفسك؟ لن أفعل! كان بكر قد اقترب واقفا، قلق من تدخل والدته المفاجئ في حياة بلال، يعلم حنانها الذي يغمره منذ صغره ويغمر كل من حوله أيضا، لكنه يخاف أن يحدث مزيد من المشاكل.. وأمه بالتأكيد لا تدرك عقل بلال العنيد! كان وجه بلال بالنسبة إليه مرهقا فقط، وليس شاحبًا وعلى وشك الموت كما تقول أمه! لكنه ربما قلب الأم الذي يشعر بما يعانيه الأطفال من معاني عيونهم فقط. ابتسم من داخله ضاحًكا على بلال وهو يهتف بعناد: ابتعدي.. قلت لك لن أشرب! وأم بكر تقول بعصبية هي الأخرى: هيا افتح فمك لتشرب بعض العسل، ثم بعدها ابلعه بالحليب، إنه العلاج الأنسب في مثل حالتك! هز رأسه بتحد قائلا: لا.. لن أشرب.. أتفهمين؟ وهو يفتح فمه ليصرخ أدخلت الملعقة في فمه ضاحكة بمرح وهي تعيدها إلى الطبق لتحضر ملعقة أخرى، شعر بطعم العسل اللذيذ يخترق غدد التذوق لديه، ولكن الغضب اخترق صدره أيضّا! ابتلع العسل بسرعة ثم صرخ: من تظنين نفسك أيتها العجوز؟ نظرت له بذهول، وعبير وبكر وقفا على أرجلهم من شدة الخوف، وبكر يقول برعب وتلعثم: أنا أنصحك يا بلال أن.. تعتذر سريعا لها، فالذي يقول عجوز عنها.. فإنها سوف.. فوجئ بلال بيد قوية تسقط على خده بعنف لتجعل رأسه يرتد إلى الخلف سريعا، وفي نفس الوقت أكمل بكر بانهيار وندم: سوف تصفعه على خده بقوه! ثم صوتها الثائر: من تقصد بالعجوز؟ إنني في قمة شبابي أيها الوغد! تبادل بكر النظرات مع عبير في قلق ثم نظرا في ترقب لبلال الذي نظر بذهول إليها وعلى وجنته احمرار شديد من مكان صفعتها! _ |