(6) ارتجفت في فزع وأنا ألتفت إلى الدكتور بكر الذي قام هلعا من نومه وهو ينظر لي.. وخرجتْ عبير من غرفتها على الفور هاتفة: ماذا حدث؟ كنتُ مُحرجا.. جدا! لهذا حاولتُ الجلوس وأنا أمسك الصينية المعدن التي لم تتكسر وألمّ فيها الزجاج المكسور وأقول مضطربا: لقد كنت آخذها إلى المطبخ لأنك نسيتِ أخذها يا عبير. قالت باستنكار معاتبة: لمَ فعلتَ ذلك؟ كان عليك ألا تحمل شيئا! تضايقتُ منها كثيرا وعقدتُ حاجبيّ في غضب وإن كنتُ ما زلتُ أرتجف من فرط الفزع والتوتر. ذهبتْ إلى المطبخ وأحضرتْ الجاروف والمقشة وهمّت بكنس الزجاج، ولكنني قلتُ غاضبا: لا تفعلي! نظرتْ إليّ باستغراب فقلتُ في إصرار حاد: أنا من كسرتُها وعليّ كنسها! قالت: ولكن هذا ذنبي أنني لم أذهب بها إلى المطبخ! لم أستمع إليها وقلت بعناد وأنا ألم الزجاج في الصينية: سأفعلها أنا قلتُ لك! شعرتُ بظل شخص فوقي، التفت بحدة فوجدت الدكتور بكر مستيقظا وعلامات وجهه خائفة، اقترب مني بسرعة وقال بصوت نائم متعب: بلال.. انتبه إلى قدميك! نظرتُ لقدمي فإذا هي تضغط على قطع الزجاج المكسور وكلها تقتحم قدمي وتُخرج ما بها من سائل أحمر! استأت من الألم الجديد الذي أصاب قدمي! قالت عبير بعصبية: أرأيت؟ لقد جرحت نفسك وأيقظت والدي من نومه بعد تعبه الشديد، هل يرضيك هذا؟ شعرتُ بإهانة كبيرة خصوصا أمام الدكتور بكر، الذي كان ينظر لي بعينين خاملتين، فزادتْ عبير الإهانة قائلة: ثمَ إنه لا يمكن لك فعل هذا لأن يدك مكسورة.. اتركني أنا أكنسها يا بلال! قلتُ بغيظ: افعلي ما تشائين! وقمتُ بعنف وأنا أزيد من ضغط قدمي على الزجاج المكسور، لم يهمني هذا، كنت غاضبا منها وأشعر بحاجتي لأن أرد عليها ردّا قويا أمام الدكتور بكر ولكنني كنت متفاجئًا بما حصل ولم أستطع فعل شيء إلا شتمها داخل نفسي ثم العودة إلى غرفتي وإغلاق الباب علي. جلست أمام الباب مقهورًا وضممتُ ساقيّ إلى صدري ثم وضعتُ رأسي بين ركبتيّ وسرتُ بخيالي بعيدا! _ أما عبير فقد تنهدتْ في تعب وهي تنظر إلى آثار الدماء التي بقيت من مشي بلال على أرضية الصالة حتى غرفته وتنتهي آثارها عند الباب المغلق! ثم ظلّت تلملم الزجاج وهي تشعر بالهمّ الكبير لأنها لا تدري كيفية التعامل مع بلال كي تنجو من ردود فعله العنيفة. نظرتْ إلى والدها الذي كان قد استفاق جيدا من نومه وقالت له في حزن: لم أقصد يا أبي أن أقسو عليه. زفر والدها بحرارة وجلس على أريكة في الصالة وهو يقول: ولكنه تضايق جدا من كلامك، لا أعلم ماذا يفعل الآن والذي يقوله عنّا.. هداك الله يا عبير! قالت عبير تبرر موقفها بعصبية: يا أبي لقد كنت في غرفتي هادئة أستمتع بقراءة الرواية الجديدة حين سمعت فجأة صوت انكسار الصحن فأصبتُ بالهلع لظنّي أنه لص أو ما شابه قد دخل من المطبخ فأنا لم أعتد أن يمشي بلال في البيت! وهكذا شعرت بالفزع وغضبت حين عرفت أنه بلال.. وما زادني غضبا على موقفه هو عناده في لمّ الزجاج.. أما الذي جعلني أكاد أفقد أعصابي هو أنه أيقظك من نومك بسبب إزعاجه وأنت متعب! قال متفهما: أعلم يا حبيبتي صعوبة موقفك، ولكن هو ليس فتى طبيعيا لتتوقعي منه ردود فعل طبيعية، يعني.. من المفترض حين رأيته هكذا كسر ما بيديه أن تهوّني عليه لا أن تصرخي لتزيديه توترا وندما، فهو أصلا كسرها بسبب مُفاجأته برؤيتي نائما على أرض الصالة.. فهو أول مرة يعرف أنني أنام على الأرض! لأنه ينام على سريري حاليا. سكتت عبير وهي ما تزال في عملها واستمعت إلى بكر الذي تابع: وكذلك بلال كان يحمل الصينية بيد واحدة وهذا ما ساعد على وقوعها بسرعة من يده، ولأنه يشعر بمسؤولية شديدة تجاه ما حدث فقد حاول أن يلمّ هو الزجاج المكسور! تنهدت عبير بحسرة وهي تتندّم في داخلها ألف مرة على غبائها، لم يقل والدها شيئا آخر فقامتْ بعد أن وضعت الزجاج في الجاروف الصغير بيدها وذهبت إلى المطبخ، عندما عادت وجدت والدها قد نام في مقعده، شعرت بإشفاق شديد عليه، وذهبت لتربت على كتفيه هامسة: أبي.. استلق على فراشك.. قام وهو يُمسك بيدها واستلقى على الأرض لينام من فوره، ابتسمتْ وهي تغطيه بالبطانية وتغلق النور الذي فتحته حينما نظفت الأرض من الزجاج، نظرتْ بحزن إلى آثار دماء بلال وهي تُمسك منشفة صغيرة مبللّة. ظلت تمسحها وهي جالسة حتى وصلت إلى باب غرفة بلال، فقالت لنفسها وهي تمسح آخر قطرة دم: ربما سأعتذر له غدا! ثم نظرت نظرة أخيرة لباب الغرفة المُغلق! _ أما عني فبمجرد أن أغلقتُ الباب واستندتُ إليه بظهري، حتى سرحتُ بخيالي إلى مواقف كثيرة مررتُ بها، نظرتُ إلى الضمادات البيضاء التي لفّها الدكتور بكر على قدميّ وقد باتت حمراء ملوثة بدمائي، حركت قدمي لأضمّها إلى جسدي أكثر فشعرت بالمزيج السائل قد لوث الأرضية بأكملها...! كان منظرا مخيفا.. أخافني أنا شخصيا.. وتذكرت موقفا مشابها، موقفا أرعبني وجعل كل ذرة في جسدي ترتعش رهبة وألمًا. عندما كنت مضربا عن الطعام رغبة في الانتحار، وقد حبسني والداي بعد جلدي، كانت حالتي في غاية السوْء، كنت نائمًا فوق فراش مهترئ على الأرض إذ دخل أبي ومعه أمّي تقول بتوتر: هل تعتقد أننا سنحصل حقا على دفع التعويض إذا فعلتَ ذلك فيه؟ أجابها بأنفاس ثائرة: بالتأكيد، وكذلك هذا عقابٌ له لكيلا يفكر بالتمرد مرة أخرى...! التفتًّ إليه وعلى وجهي علامات الهلاك، فوجدته يحمل حقيبة، وضعها على الأرض بجانبي، ثم قال لأمي: تعالي لتمسكيه حتى لا يتحرك! قلتُ له بإنهاك: أنا أصلا لا طاقة لديّ لأتحرك! ولكن ماذا ستفعل بي؟ صرخ غاضبا: اخرس! أوَ تجرؤ على السؤال أيضا؟ بعدَ الذي فعلتَ؟ شعرتُ بأمي من ورائي تجلس وتمسك رأسي وتضعه في حجرها.. وهي تبتسم قائلة: اطمئن يا بلال.. والدك وجد فرصة جديدة لكسب المال! اتسعت عيناي بخوف حين رأيت أبي يُخرج من حقيبته حقنة طويلة، وصرختُ: أي فرصة تلك أيها الأوغاد؟ قالت أمي بفرح: وزارة الصناعة أعلنت أن كل عامل في أي مصنع قد فقد أطرافه لأجل الحوادث الأليمة التي تحدث في المصانع بسبب الآلات، له عشرة آلاف جنيه.. تخيل يا بني! بدأت أفهم الأمر بشكل مرعب أكثر، خصوصا عندما قال أبي بشراسة وهستيرية: هذه حقنة لتخدير يدك اليُسرى، وإيّاك أن تعترض.. فعندما نقطع يدك صحيح ستخسر يدا لك ولكن ستكسب عشرة آلاف سنعطيك منها ألفا كاملة ثم نأخذ نحن التسعة! كِدتُ أصاب بالانهيار، بل بالجنون! من هاذان؟ ثم قال لي بخبث عندما رأى اتساع عينيَّ بذهول: لا تقلق سوف أسامحك عن كل التمرد الذي فعلته إذا تقبلتَ الأمر بسلام، ورضيت بأخذ الألف جنيه، وأنا لدي صديق يعمل مديرا في إحدى المصانع سوف يزوّر الأوراق لكي تكون أنت العامل الذي فقد طرفه بسبب حادثة أليمة فيه، ونأخذ التعويض الذي ستدفعه وزارة الصناعة لنا. ثم قال بغيظ: ولكنه سوف يأخذ ألفين جنيه مني بسبب خدمته تلك! يا له من حقير! قلت بانهيار وغضب: أنت أحقر منه! بصق علي من لعابه القذر، ثم نظر إلى أمي قائلا: هيا أمسكيه جيدا.. احمد ربّك أنني أحضرتُ مخدّرا لك لكي لا تشعر بألم السكين وأنا أقطع يدك! ولو شئت لقطعتها من دون مخدر حتى لا أصرف أي مال عليك! بدأ يحقن يدي اليُسرى بذاك المخدّر في بطء، كنت أثور.. أحاول تحريك جسدي.. لكن أمي ذات قبضات قوية، وجسدي قد نفدت طاقته منذ زمن، بدأت دموعي تنهمر على خدّي.. وأصرخ في ألم: أرجوك يا أمي.. أتوسل إليك، لا تجعليه يقطع يدي! كانت تمسح دموعي في حنان، ثم تقول: بنيّ، هذا لمصلحتك، أعدك سوف نعطيك حقك من المال! صرختُ وصرختُ.. بكيت بدموع أغرقت وجهي ورقبتي، لكن قلب أبي القاسي لم يحنّ لي، وأمي مصرّة على أن هذه هي مصلحتي! توقف إحساسي بيدي، لقد انتشر المخدّر فيها وسيطر عليّ! كنت أكاد أموت.. من صدمتي. من ألمي ووجعي.. من كل شيء.. كرهتهم. كرهت الدنيا، كرهت أمي، سوف أقتلهما يوما ما كما قتلا قلبي الصغير وقتلا كل شيء جميل في نفسي! قام أبي من جانبي ليُحضر سكينا حادّا.. ثم كشف عن ساعديّ، أمي أغمضت عينيها لكيلا ترى بشاعة المنظر! أما أنا، توقفت دموعي، وتوقف إحساسي بالوعي. ولكن آخر شيء تذكرته، هو أني سمعت صوت أخي عدنان يدخل صارخًا: تـوقف يا أبي.. لا تقطع يده! لكني لم أعلم ما حصل بعد ذلك، فقد أغمضتُ عيني وغرقت في هاوية عميقة! |