"لا أكرهكِ فحسب، بل أكره كل أولئك المقربين منكِ ..!"
- إنه العدل..!!
- أ-أوي.. يوكي ما الذي تتفوه به ..
نظر إلي يوكي بعينيه الممتلئتان بالدموع .. لم تكن دموع حزن، أو ألم، أو حتى دموع شفقه.. بل كانت دموع فرح وانتصار صاحبتها ابتسامة مجنونة جعلت جسدي يقشعر من أعلاه إلى أسفله .. بحركة لا إرادية .. مددت يداي وأمسكت بأعلى ذراعيه .. حاولت هز جسده لعل وعسى أن يستعيد عقله الذي ظننت أنه قد فقده ..
- لـ.. لمَ تضحك؟! يـ-يوكي .. هل فقدت عقلك؟!
- |ضحكة مكتومة|
- يوكي .. لا تقل لي أنك من تسبب بذلك الحريق؟!
- |يضحك|
- أجب على سؤالي ..!!
- |ينفجر ضحكاً|
- توقف عن الضحك حالاً أيها الحقير..!
لم أتمالك نفسي، لكمته في وجهه ليخر ساقطاً على الأرض دون أن يبدي أي مقاومة، الشيء الوحيد الذي يمكنني سماعه وسط كل تلك الضوضاء هو صوت ضحكاته المستفزة التي بات صوتها يعلو أكثر فأكثر حتى ظننت أني فقدت عقلي!
- وغد!! قلت لك توقف عن الضحك.. ألا تسمعني؟!!
- ر-روي..!! ما الذي يحدث؟!
- أ- أيامي!!
لوهلة تداركت وجود الآخرين أيضاً، ماذا أفعل يا ترى ..؟! هل أوقف ضحكات هذا المجنون، أم أفسر الأمر لهم، أم أساعد في تهدئة ذلك الطفل.. ام أتحول إلى بطل مجنون قد فقد عقله وأدخل إلى ذلك الحريق لأنقذ امرأة لا أعرف حتى اسمها وفوق ذلك قد أفقد حياتي الثمينة معها ..؟!!
"ما الذي يحدث هنا" ...
"ذلك الفتى، إنه يشبه هذا الطفل" ...
"لمَ يضحك بجنون هكذا؟!" ...
"ربما من تأثير الصدمة"
"مسكين..!"
"أيجب علينا تهدئته هو أيضاً" ...
"سيصل رجال الإطفاء في أي لحظة" ..
"لاتزال أمهما في الداخل. ألا يمكن لأحد تقديم يد العون" ..
"هذا مستحيل، ألسنة اللهب تمنعنا من الاقتراب حتى" ...
"يالهما من مسكينان"
وسط همسات الجميع، تقدمت امرأت في الأربعينيات من عمرها لتجثوا أمام يوكي، وضعت يديها بحنان لتربت على ظهره وتقول: "بني، أعلم أنك مصدوم، ولكن تمالك نفسك قليلاً، أتعلم طريقة للدخول، مكان تواجد أمك في الغالب على الأقل، أتستخدمون اسطوانات غاز في المنزل أم لا.. معرفة أشياء كهذه قد تنقذ حياتها .. أرجوك حاول استجماع هدوءك وأجبني..!" .. تلك المرأة لا تفهم شيئاً مما يجري، توقفت ضحكات يوكي على الفور، أبعد يديها بهدوء وابتسم بلطف في وجهها ليقول بصوت قد وصل إلى آذان الجميع بلا استثناء: "ما الذي تقولينه سيدتي .. لا أحد في المنزل اليوم!" .. وكأن سكيناً اخترقت قلبي فور أن نطق بتلك الجملة.. ما الذي يقوله بحق!! أيحاول منع حتى الذين يحاولون مساعدتها من فعل ذلك؟!! هـ - هذا ضرب من الجنون ليس إلا!!
- كـ - كلا ..!! سيدتي.. جميعكم .. أنتم لا تفهمون شيئاً .. هذا الفتى ليس مصدوما أبداً .. أعني صدمته من نوع آخر .. هو في الواقع.. مجرد مجنون .. لا تكترثوا له أبداً .. تلك المرأة موجودة في المنزل حقاً ..صـ - صدقوني!!
تحولت أنظار الجميع إلي باستغراب، ما الذي أقوله بحق!! أبدو كالمغفل الآن، وكأن أياً كان سيصدقني!! في حياتي كلها .. لم أمر بموقف صعب كهذا..
- أيها الفتى ما الذي تقوله؟! نحن لا نعبث هنا .. أيوجد شخص في المنزل أم لا؟!!
- أجل يـوجـ - ..
- كاذب لا أحد في المنزل، إنه منزلي .. أتعلم ما به أكثر مني؟!!
- يـ -يوكي .. كف عن هذا..!! أرواح الآخرين ليست لعبة.!!
- لا يهمني ما تقوله ..لا يوجد أحد في المنزل، ومن يريد المخاطرة بحياته من أجل لا شيء فليفعل!!
- قلت كف عن هذا أيها الوغد ..!! ألا تسمعني؟! يارفاق.. أتوسل لكم! افعلوا شيئاً!!
- ا-اهدأ قليلاً، لسنا نفهم أياً مما يحدث ..
- أيامي .. يوكي قد ... آآآخ .. تباً .. كيف أشرح هذ-...
"أتوسل إليك.. أخرجها"
- هاه ..
لم أتوقع أن يتلفظ ذلك الطفل بهذه الكلمات، التفت إليه لأجده حائلاً بيني وبين يوكي، حاملاً في عينيه بعض الرجاء والأمل، يطلب من ذلك الشيطان الأرضي مساعدته، لكن بدون جدوى، فقد أشاح ذلك المتجمد بوجهه ناحية ألسنة اللهب ليقول بسخرية "هه .. لست مجنوناً لأفعل ذلك!" ...
- أ-أرجوك .. أ- أنت تعرف أمي صحيح؟!
- ..........
- إنها تـ - تحترق ..
- ..........
- أنا لا-
- هذا يكفي!! وكأنني أهتم!! اذهب واحترق معها أنت الآخر!
بقي ذلك الفتى واقفاً أمامه دون أن يحرك ساكناً، ساد الصمت لبضع دقائق قبل أن يكسره صوت أولئك الرجال قد عادوا لمحاولة إطفاء الحريق مجدداً.. شعرت بيد تربت على كتفي بهدوء، التفت ورائي لأجد أيامي وبقية المجموعة ينظرون إلي في صمت قبل أن يكسره كارل بقوله: "لنساعدهم نحن أيضاً في إطفاء الحريق..!" ..
أومأت له موافقاً وتقدمت نحو ذلك الطفل الصغير، أمسكت بيده وجررته بعيداً عن يوكي الذي شرد في مراقبة ألسنة اللهب وهي تزداد شيئاً فشيئاً .. توقفت بعد أن ابتعدنا عن يوكي مسافة كافية، جلست على ركبتاي لأقترب منه، وضعت يدي على كتفيه وقلت: "اسمع أمتأكد أن أمك في الداخل؟" نظر إلي بهدوء بعد أن تلاشى خوفه قليلاً وأومأ لي بالإيجاب فما كان مني إلا أن تنهدت بعمق لأكمل: "سنبذل جهدنا في إخراجها إذاً ..اذهب وانتظرني هناك حسناً؟!" أومأ لي مجدداً فتركته وذهبت لأساعد الناس في إخماد الحريق مع البقية .. لم نكن جميعنا ذا فائدة تذكر، فمهما اجتهدنا في محاولة إطفاء الحريق نجده قد زاد أكثر، لحسن الحظ، أحد الرجال قد عثر على اسطوانات الغاز خراج المنزل وقد تعاون مع الجميع في إبعادها عن الحريق، يبدو أن الدخول إلى المنزل أشبه بالمستحيل.. رغم أن المنزل ليس خشبياً إلا أنه يحترق بسرعة كبيرة على غير المعتاد، لا أعلم إن كنت الوحيد ولكنني شممت بالفعل رائحة البنزين أو شيء مشابه فور أن وصلنا إلى هنا! أقسم أن هذا السبب يجعلني أشك في أن يوكي هو من افتعله.. بطريقة ما آمل أن يخيب ظني!!
فوق كل هذا الضغط المخيم على أرجاء المكان لا توجد أي استجابات تدل على وجود أحد في المنزل.. أتلك المرأة على قيد الحياة يا ترى.. أشعر باضطراب فظيع.. خوف من شيء أجهله قد تسلل إلى أعماقي.. بحق .. ليس أمامي في هذه اللحظة سوى أن أدعو من أعماق قلبي أن تصل سيارات الإطفاء بأسرع وقت ممكن ..!
الوقت بمر ببطء شديد للغاية .. ومخيف في الوقت ذاته .. بدأت أفقد الأمل شيئاً فشيئاً .. كما هو حال صبري كذلك .. من المؤلم حقاً أن نكون عاجزين عن فعل أي شيء .. ها نحن ذا نسمع صوت صفارات سيارة الإطفاء .. لقد قدموا أخيراً بعد انتظار .. تنحى الجميع جانباً لتركهم يقومون بعملهم .. أمرونا أن نبتعد ففعلنا .. وها نحن الآن نراقب بصمت ما يحدث .. لم يتمكن أحد من دخول المبنى حتى الآن .. تمتم بهدوء بعد تفكير طويل "لابد أنها قد ماتت!" .. أجل .. ستكون معجزة إن بقيت حية .. فقد مرت ربع ساعة بالفعل منذ أن وصلنا إلى هنا .. والآن، ماذا أقول لذلك الطفل .. آسف، لقد بذلت كل جهدي وقضيت معظم وقتي في المشاهدة ..!
ليس وكأنه كان بإمكاني عمل شيء .. ولكن .. لا أعلم .. أشعر بالندم ..!! أحقاً يوكي هو من تسبب بذلك .. أم هي محض أحاسيس كاذبة بدأت تراودني منذ أن ذهبنا إلى المطعم تلك الليلة ..؟! أشعر بها .. يد ذلك الطفل الصغيرة وقد تشبثت بمعطفي من الخلف .. إنه يرتجف بشدة .. استدرت نحوه وجلست لأصبح بطوله تقريباً فما كان منه إلا ارتمى في أحضاني ليجهش بالبكاء المرير.. أحطت به بكلتا يدي فما كان منه إلا أن دفن وجهه في صدري وهو يتمتم "أخرجها .. أرجوك .. لقد وعدتني..!!"
وكأن قلبي قد انفطر، لوهلة شعرت برغبة في الهروب من هذا المكان، بل من هذا العالم بأسره، اوهلة خطرت في بالي فكرة قد تنجح بطريقة ما.. مسحت على رأس الطفل برفق قبل أن أهمس في أذننه "أعدك، سأحاول أن أخرجها.." أبتعد عني بهدوء، وقفت مجدداً وابتعدت عن الجميع محاولاً الوصول إلى المنزل من الخلف دون أن يلحظ أحد، تسلقت السور ثم قفزت منه لأجد نفسي في الباحة الخلفية للمنزل، المكان ممتلئ بالدخان الشديد، لكني لم أرى أياً من ألسنة اللهب، قد تكون أمامي فرصة ما.. أمامي كان هنالك باب خشبي ذو مقبض معدني، ونافذات واسعتان ، بتهور أمسكت قبضة الباب فتفاجأت باحتراق يدي على الفور "تباً.. ما الذي أفكر فيه..؟! روي .. ركز ركز..!"
ألقيت نظرة سريعة عما حولي .. أتساءل ما إن كان بإمكاني كسر النافذة .. لكن علي أن أحذر لا بد أنها ساخنة أيضاً .. لحسن الحظ وجدت عصا مرمية على الأرض بإهمال .. أخذتها وحاولت ضرب الزجاج بها، مرة، وثانية وثالثة حتى بدا يتصدع، عندها ركلت النافذة بكل ما لدي من قوة لتتحطم على الفور ..
" ما الذي تفعله هنا بحق خالق الجحيم..!!"
- يـ -يوكي ..!!