تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :
الفصل السادس : صفحات ملطخة - كانت تلك الفتاة الصهباء تجلس على مقعدها في الصف، لم تسمع صوت الأستاذ و هو يشرح الدرس و لا صوت الطلاب و هم يتهامسون داخل القاعة، نظرت إلى دفترها الذي لم يكن الآن سوى صورة مشوشة، لم تعرف مثل هذا اليأس منذ عملت بـوفاة والدها قبل خمس سنوات، ظل صدى كلمات الخادم العجوز التي سمعتها بالأمس يرن في رأسها، هو لم يقل الكثير و لم يشرح شيئا، كل ما قاله هو أن الرجل الذي اعتنى بها و بأخيها طيلة السنوات العشر الماضية قد رحل بسبب أمر طارئ يخص عمله و لم يرد أن يعلم بقية الخدم بذلك فلم يخبر احدا سوى ماتسودا، و أنه قد ترك له المفتاح حتى يقوم بتنظيف الغرفة، أعادت كلماته هذه إليها ذكريات مؤلمة، فـقبل عشر سنوات أخبرها ماكوتو بأن والدها رحل فجأة بسبب عمله، و لم تر أباها منذ ذلك الحين حتى علمت بأنه قد فارق الحياة، و لسبب ما تشعر بأن نفس الشيء سيحدث هذه المرة، و في الجانب الآخر من الصف، أخوها الذي لا تختلف حاله عن حالها، تراوده نفس الأسئلة، هل حقا رحل بسبب عمله؟ هل سيعود؟ هل نحن على وشك أن نفقد أهم شخص في حياتنا مجددا؟ و ذلك الخادم، أيترك ماكوتو مهمة تنظيف غرفته الخاصة لعجوز خرف مثله؟ هذه القصة برمتها غير مقنعة، كانت تلك أول مرة يدخلان فيها غرفة ماكوتو، و الانطباع الذي تركته كان غاية في الغرابة و الريبة مع أنهما لم يشاهداها سوى لمدة بضع دقائق. مـرّت عدّة أشهر منذ اختفاء ماكوتو، لم يره الأخوان منذ العطلة الصيفية، كل صباح يستيقظ المراهقان بانتظار أن يجداه في غرفة الطعام ممسكا بجريدته و يشرب قهوته كعادته، لكن ذلك لم يحصل. في إحدى ليالي عطلة الشتاء الباردة، استدعى ماتسودا كلّ من ناتسو و هارو بعد تناول طعام العشاء، و صُدم هذان الأخيران لأن العجوز قد أراد التحدث إليهما في غرفة ماكوتو نفسه. ••••• قبل ثمان و ثلاثين سنة فتاة صغيرة تبدو في الخامسة، ذات شعر أسود طويل و عيون خضراء جذابة، تمسك كيسا شفافا بقوة و تصرخ على طفل بمثل عمرها : -دعني و شأني ! -ليس قبل أن تعطيني الكعك ! -لن افعل ! سأقدمها إلى صديقي ! -قلت أعطني إياها و إلا ضربتك ! أحس الطفل الصغير بيد تمسك كتفه بعنف فالتفت ليرى فتى آخر ذو شعر أسود و عيون بلون أزرق داكن، يرمقه بنظرات مرعبة. -أوي ما خطبك يا هذا؟ فأجابه ذو العيون الزرقاء : -ألم تسمع ما قالته؟ دعها و شأنها ! -لا تتدخل في ما لا يعنيك ! -بل الأمر يعنيني لأننا أصدقاء ! أبعد الفتى المتنمر يد الطفل الآخر عن كتفه بقوة و ضربه، فابتسم ذو العيون الزرقاء ابتسامة خبيثة و قال : -لقد ضربتني، و هذه الفتاة هناك شاهدة على ذلك، سأخبر الـمعلـ... ما كاد يكمل كلامه حتى سقط المتنمر أرضا، لقد كانت تلك الفتاة هي من ركلته و أطاحت به، فنهض الولد و ركض باكيا و هو يصرخ بتلك الفتاة : -متوحشة ! هرعت الصغيرة إلى الطفل ذو العيون الزرقاء و هي تقول : -كو-شان ! هل أنت بخير؟ هل آذاك ذلك المزعج كثيرا؟ فرد عليها : -حمقاء ! لقد تعمدت السماح له بإصابتي حتى أخبر المعلم ! و الآن ستقعين في ورطة ! -أنا آسفة، لم أتمالك نفسي، كان سيضربك و يأخذ الكعك..آه ! كدت أنسى أمر الكعك ! فتحت ذلك الكيس الشفاف و أخرجت منه قطعة كعك مستديرة و قدمتها للفتى. -شكرا لأنك قدمت لمساعدتي، أحضرت لك هذه. اعتدل كو في جلسته و أخذ قضمة من الكعكة، ثم أنهى بقيتها بلمح البصر و أخذ من الكيس قطعة أخرى تناولها كلها مرة واحدة، ثم قال بسعادة : -لا عجب أن ذلك الفتى أراد أن يأخذ هذا الكعك ! لمعت عينا الفتاة من شدة السعادة و سألت بحماس : -هل أعجبك؟ -بالتأكيد ! أمّك طباخة ماهرة ! -صحيح أن أمي أطلعتني على الخطوات و راقبتني، لكنني أنا من أعددت الكعك. -أنتِ أعددتِ هذا؟ ! شوكو، عندما تكبرين ستكونين زوجة رائعة ! احمرت شوكو خجلا و وضعت كلتا يديها على وجنتيها و تمتمت "ز..زوجة؟" بعد عشر سنوات من ذلك كو و شوكو في ربيعهما الخامس عشر، في الواقع الفتى كو ليس إلا ذلك الرجل الذي تعرفونه جيدا، و اسم 'كو' ليس إلا اختصارا لاسمه الأول 'ماكوتو'، هكذا كانت حياته قبل عدة سنوات، طالب في المرحلة الثانوية ليس لديه الكثير من الأصدقاء، ليس لأنه منبوذ، بالعكس فهو ذو شعبية عالية بسبب وسامته و ذكاءه و ثراءه، لكنه ليس من النوع الذي يحب أن يكون محاطا بأولئك الذين يدّعون أنهم يهتمون لأمره. لم يعرف أنه بين ليلة و ضحاها ستنقلب الأوضاع، فبدل أن يكون محبوبا من الجميع أصبح منبوذا و مكروها، شخص لا تود أن تتورط معه أو تختلط به بأي شكل من الأشكال، لكن ما ذنبه؟ إنها ليست غلطته أن والده أحمق.. تبين أن السر وراء ثراء عائلته هو مشاركة والده في أعمال السوق السوداء، كان أبوه شخصا مغرورا مهووسا بالحفلات و الكحول و القمار، لطالما سأل ماكوتو أمّه اللطيفة "لماذا تزوجتِ شخصا مثل أبي؟ و لماذا ما زلتِ معه؟" فيكون جوابها "هو لم يكن هكذا، والدك لم يعد ذلك الشخص الذي أحببته يا صغيري، و لكنني سأبقى معه من أجل مستقبلك و سعادتك"، عندما أفلس والده و كُشفت أعماله الخبيثة كان على ماكوتو أن يتحمل مسؤولية أفعاله، أمّه الحنونة ماتت بعد أن أصابها مرض خطير و تدهورت حالتها النفسية، و أصدقاءه تخلوا عنه، شيئا فشيئا، تحول إلى الوحش الذي يظنّه الآخرون، لا يمكنك أن تخطئ و هو بالجوار، لا يمكنك التكلم معه، التكلم عنه و لا حتى النظر إليه دون أن تتلقى لكمة، و لكن بالتأكيد..لكل قاعدة استثناء.. -مؤلم ! -لذلك قلتُ لك اثبت ! أنت شخص غير معقول ! لا تمانع الدخول في عراك و تلقي بضع ضربات لكن وضع الضمادات يؤلمك؟ ! أجل، لقد حزرتم، إنها صديقة طفولته، الفتاة الحسناء، شوكو، و في نظر آخرين : الفتاة المتوحشة، لفّت وجهه بالضمادات بعد أن دخل ذلك المتهور في شجار لأسباب سخيفة، فقالت له و هي تُؤنبه : -أنتم الرجال دائما ما تتعاركون لأسباب سخيفة ! اسمع، أنا لا يهمني سبب الشجار و لا الشجار نفسه، لكن إن استمريت على هذه الحال سوف تقع في مشاكل و تُطرد من المدرسة ! -إنه ليس سببا سخيفا ! لقد أهانني ! و أنتِ تعرفين أن... ! فقاطعته و هي تقلد صوته بشكل مزعج : -أن 'كبريائك أهم من حياتك'، هذا يثبت وجهة نظري، دائما ما تردد هذه العبارة، هنالك أشياء كثيرة أهم من الكبرياء، و منها حياتك ! -أولا أنا لا أتحدث بتلك الطريقة، ثانيا مهما قلتِ لن تغيّري رأيي ! بلهاء. -أبله، بل إنك أسوأ من الأبله، أنت كو-شان. -و أنتِ... ! -يا الهي ! الفتيان أغبياء حقا ! -ماذا قلتِ؟ ! -لا شيء. بعد أن خسر ماكوتو كل شيء، منزله، عائلته، أصدقاءه، دعته عائلة شوكو للعيش معهم، كان لطيفا جدا منهم أن يقوموا بدعوته، فهو يحبهم كثيرا و لطالما قضى طفولته يلعب في فناءهم الخلفي، و لم يكن منه إلا أنه قبل دعوتهم هذه و قد تملكته سعادة غامرة لأول مرة منذ زمن، والدة شوكو السيدة آكيمي تذكره بأمّه كثيرا، فهي امرأة جميلة و حنون، و السيد ماتسودا يُشعره و كأن لديه أبًا حقيقيا لأول مرة في حياته. بعد عدَّة سنوات أخرى مرّت السنين بسرعة، بعد أن التحق ماكوتو بالجامعة لم يعد ذلك الشخص الذي يجب أن تتجنبه بأي ثمن، عاد طالبا ذكيا، وسيما و شعبيا كما كان. بعد أن تخرج بامتياز و حصل على وظيفة مرموقة، استقل في منزل خاص به، ذلك المنزل الكبير نفسه الذي عاش فيه التوأمان ناتسو و هارو لمدة عشر سنوات، تزوّج ماكوتو بصديقة طفولته التي وقفت إلى جانبه في كل مراحل حياته، و رُزق الاثنان بطفل ملائكي جماله سماوي، قرّرا أن يطلقا عليه ذلك الاسم الذي لطالما نادت شوكو به ماكوتو : كو. و ذلك الصبي الصغير يبلغ الآن ثلاث سنوات. عندما ظن ماكوتو بأن حياته استقرت أخيرا و أن شبح والده توقف عن مطاردته أينما يذهب، اكتشف بأنه كان على خطأ، و مجددا، كان عليه أن يدفع ثمن أخطاء ارتكبها والده الغبي، عندما علم السماسرة و المقامرون الذي يدين لهم أب ماكوتو بالمال بأن ابنه أصبح رجلا غنيا قرروا أن على هذا الأخير تسديد الدين الذي لم يسدده والده، كانت صدمة عظيمة، عندما عاد ماكوتو إلى منزله في أحد الأيام و وجد الفوضى تعمّه، الخدم مرعوبين و زوجته و ابنه مختفيان، كانت تلك ببساطة عملية اختطاف، اختطفوا زوجته و ابنه ليهددوه بسلب حياتهما إن لم يدفع ديون والده. عندها فقط أدرك كم بالضبط درجة الحماقة التي وصل إليها أبوه، فحتى رجل غنيّ مثله يصعب عليه تسديد كل تلك الديون. مازال يتذكر محادثته الأخيرة مع شوكو عبر الهاتف ، عندما هدّده زعيم العصابة بكل غرور، عندها رمى بكبريائه عرض الحائط و توسّل إليه مستعملا كلّ الطرق الممكنة حتى يبقي عائلته في أمان، ثم صرخت به زوجته عبر الهاتف قائلة "ما الذي تقوله؟ ! ألست من تردد دائما أن كبريائك أهم من حياتك؟ !" فأجابها بصوت رقيق "كبريائي أهم من حياتي، لكنه ليس أهم من حياتكِ أنتِ و كو" و كان آخر ما سمعه منها هو صوتها و هي تبكي متأثرة بما قاله. لقد بذل كل ما بوسعه ألا و هو تسديد نصف الديون، لكن زعيمهم قال بغرور و فخر لا مثيل له : " أتممت النصف فقط ! لذلك نحن أيضا لن نلتزم إلا بنصف الاتفاق "، ثم قتل زوجته بدم بارد. ماكوتو لم يعرف لماذا، لكنهم أعادوا إليه ابنه، و قد كان هذا الأخير في حالة يُرثى لها، فقد شاهد أمّه تُسلب منه أمام عينيه، ظل طريح الفراش لأشهر عديدة داخل تلك الغرفة ذات اللون الأحمر الدموي، و لأنه كان صغيرا جدا لم يحتمل شدّة المرض لا نفسيّا و لا جسديّا، فـفارق الحياة داخل تلك الغرفة، كان هذا سبب إغلاق ماكوتو لأبوابها و أقسم بأن لا يفتحها مجددا. -تمهّل يا ماكوتو ! فكّر جيدا قبل أن تتصرف ! -لن أتمهل ! ماتسودا-سان أولئك سبب موت ابنتك و حفيدك ! ألا تحقد عليهم؟ ! -و لهذا عليك أن تسلّمه للشرطة حتى يدفع ثمن أفعاله ! لا تلوث يديك بدماء حقير مثله ! شوكو ما كانت لترضى بمثل هذا التصرف ! -شوكو لم تعد هنا ! دون توقف، كانت تنهمر الدموع من عينيّ ماكوتو المملوءتان بالحقد و الكراهية، و صرخ صرخة من أعماق قلبه المحطم قائلا : -هذا العالم قاس جدا ! أنا أقسم..أقسم بأنني لن أظهر فيه أي رحمة بعد اليوم !!! ثم اتجهت نظراته إلى ماتسودا و قال بهدوء مخيف : -ماتسودا-سان، أنت قلت أن لكل رجل وعد في حياته، وعد لا يخلفه مهما كانت الظروف، هذا هو..هذا هو وعدي.. فرد عليه ماتسودا بعد أن نفذ صبره : -أنت لا تعرف ما تقوله ! هذا لأنك غاضب ! لا تتفوه بما ستندم عليه ! هذا يستحيل أن يكون وعد حياتك ! -لا ! هذه المرة أنا متأكد ! -أنت لست شريرا بطبعك، سيأتي اليوم الذي ستغيّر فيه رأيك ! لقد كان ماتسودا على حق، في تلك الليلة المشؤومة عندما أُرسل ماكوتو لاغتيال تاكويا والد التوأمين، لم يستطع منع نفسه من إظهار الرحمة، هذا لأنه هو أيضا في يوم ما مرّ بنفس الموقف، لقد توسّل لأجل حياة زوجته و ابنه، لكن أمله في نجاتهما خاب في النهاية، السبب الحقيقي لإنقاذه التوأمين في تلك الليلة قد اتضح. في الوقت الحاضر(الفلاش باك انتهى) ذلك هو الوعد الذي قطعه ماكوتو على نفسه، بعد أن مرّ بظروف لا يمكنه تخيل ما هو أقسى منها، و لأنه عنيد جدا ظنّ بأنه على حق، بأنه لن يخلف ذلك الوعد مهما حصل، كان يجب عليه الاستماع إلى ماتسودا، لطالما نصحه و لكن ماكوتو رفض النصح، فقط لو أنه استمع إليه غالبا.. أيّا يكن المكان الذي هو فيه الآن، هو يفكر في ذلك الوعد، "ماتسودا-سان، أنت كنت على حق 'مجددا'، ذلك لم يكن وعد حياتي، لكنني وجدته رغم كل شيء، الوعد الذي لن أخلفه أبدا..هما..وعدي" ••••• كل ما رويته عن ماضي ماكوتو، رُوي في غرفة هذا الأخير، على لسان الخادم العجوز، بينما كان الأخوان يستمعان إليه.. [ يُتبع.. ] - جميع الفصول سـر بين ثنايا الظلام | فـهـرس | The Hunters - |