بسم الله الرحمن الرحيم
في زمن الفتن الصارفة عن الحق ؛ إما ترغيبًا أو ترهيبًا ؛ كما قال تعالى في فتنة الترهيب : ( ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خيرٌ اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه ) ، وقال صلى الله عليه وسلم في فتنة الترغيب : " يبيع دينه بعرَضٍ من الدنيا قليل " ، يحسن التذكير بمواقف الراسخين الثابتين ، ممن لم تؤثر فيهم الفتنتين .
وقد اخترتُ نموذجًا لهم رجلين موفّقيْن تجاوزا الفتنتين بسلام .
أما الذهبي ؛ فقال عنه الفاسي في " تعريف ذوي العلا بمن لم يذكره الذهبي من النبلا " ص 50 :
( وبلغني أنه توقف عن ولايته لدار الحديث الأشرفية ؛ لأنه لم يكن أشعريًا ، وذلك لما شغرت لموت مدرسها الحافظ جمال الدين المزي ، وما وليها المزي حتى أشهد على نفسه أنه أشعري ، فإن ذلك شرطٌ في مدرسها ، وهذا يدل على كثرة دين الذهبي وورعه ؛ إذ كان يمكنه أن يشهد أنه أشعري ويليها ، ولا يؤثر ذلك في كونه لا يرى اعتقاد الأشعري ) .
وأما الحاج محمد الضالع المتوفى عام 1337هـ ؛ فقال عنه راغب الطباخ في " إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء " ( 7 / 551 ) :
( وكان من المنتحلين للمذهب الوهابي المنسوب لمحمد بن عبدالوهاب ، ومن الدعاة إليه ، يناظر فيه عن علم ممزوج بآداب المناظرة ، وحسن المجادلة ، ولا يمنعه عن المجاهرة بعقيدته وأفكاره مخالفة الناس له في ذلك . ونبذه الناس لانتحاله هذا المذهب لمناظرته فيه ، وانتحاله كتب الشيخين ابن تيمية وابن القيم ، وإنكاره الشديد على أهل البدع ، ونسبوا كل من كان يحضر مجالسه إلى الوهابية . فكان يتحاماه أكثر عارفيه ، خصوصًا في عهد السلطان عبدالحميد ، ومع هذا فإنه لم يزل مصرًا على عقيدته ، ومجاهرته بآرائه ، لم يثن عزمه لوم لائم ، ولا وشاية واشٍ ) .
ثبتنا الله على دينه إلى أن نلقاه .
تنبيه :
ترجم الشيخ مشهور سلمان وفقه الله للشيخ راغب الطباخ في مقدمة تحقيقه لكتاب الطباخ " ذو القرنين وسد الصين " ( 10 – 19 ) ؛ إلا أنه لم يذكر شيئًا عن عقيدته ووجهته سوى قوله عن عائلته : ( وتطالعنا في أسرة الطباخ نزعةٌ إلى التصوف ) .
قلت : ولكي لا يظن ظانٌ في الشيخ الطباخ أنه من غلاة المتصوفة ، فهذا رأيه في التصوف من كتابه " الثقافة الإسلامية " ( ص 302 ) :
قال : ( إذا كان التصوف عبارة عن تزكية النفوس وتصفية الأخلاق، فنعم المذهب ونعم المقصد، وذلك هو الغاية من بعثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ففي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: "انما بعثت لأتمم مكارم الاخلاق" .. ) .
وقال في " إعلام النبلاء " ( 7 / 309 ) بعد ذكره كرامات بعض المترجَمين ! :
( وأمثال هذه الوقائع التي أثرت في نفوس الناس ودعتهم إلى الاعتقاد في مشايخ هذه العائلة ، يورثه الآباء للأبناء وخصوصاً العوام والنساء إلى يومنا هذا ، غير أن هؤلاء قد بالغوا في الأمر بحيث أنهم يحلفون بهم !
وأنت تعلم أنه لا يجوز الحلف بغير الله ؛ إلى غير ذلك مما جاوزوا به حد الاعتدال ، وحادو به عن منهج الشرع القويم ، في حين أن الحلال بيّن والحرام بيّن . ويالله من زمننا هذا الذي أصبحنا فيه بين أناس فرطوا وقوم أفرطوا ، والاعتدال والتوسط هو الحق ، وفيه الخير والسلامة والنجاة والنجاح ، ومن الله التوفيق ) .
وقال في ( 7 / 317 ) عن نسبه الهاشمي متواضعًا : ( هذا مبلغ علمي الآن ، ومنتهى معرفتي في نسب أسرتي ، على أن على العاقل أن لا يكتفي بمجرد النسبة الهاشمية ، والصلة بالعترة النبوية ، ويقول حسبي نسبي .. بل عليه أن يكون كما قال ذلك الشاعر :
لســـنا وإن أحســــابنا كــــــرمت
يومــــاً على الأنساب نتكـــــل
وأن يجعل نُصب عينيه قوله تعالى ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) ذلك خير له وأبقى . نسأل الله التوفيق والهداية لأقوم طريق , فإنه لاحول ولاقوة إلا به ) .
وقال في ترجمة الشيخ الضالع السابقة :
( وإذا تأملت في ذلك ونظرت إليه بعين الإنصاف ، رأيت أن الطائفتين قد خرجتا من حيز الاعتدال ، فالوهابيون فرطوا وبعض العوام من الطائفة الأخرى أفرطوا، وهما في حاجة إلى القصد في الأمر ونبذ رداء التغالي الذي يرتدي به كلتاهما، فهما والشيعة إذا جنحوا إلى تلك النقطة والتفوا حولها - وما ذلك على همة علماء الجميع بعظيم - نجوا جميعا من مخالب الغربي الذي تألب على الشرق،وكان في ذلك حياتهم حياة سعيدة وصلاح أمورهم في دينهم ودنياهم . وما أحوج الأمة الإسلامية إلى استبدال هذا النزاع والشقاق بالوئام والوفاق . ولا سبيل إلى الوصول إلى هذه الضالة المنشودة مادامت مختلفة النزاعات متباينة العقائد،فإذا عالجت تلك الأمراض بحكمة وروية لاتلبث عشية أو ضحاها إلا وتستعيد قوتها بعد الضعف وعزها بعد الهوان . وإني لا أيأس من أن يطلع فجر ذلك اليوم السعيد وتنير شمسه على العالم الإسلامي ؛ فيصبح منيع الجانب عظيم الشأن قوي السلطان ) .
وقد استجاز الشيخ الألباني من الشيخ الطباخ رحمهما الله ؛ كما في " صحيح أبي داود " ( 5 / 253 – 254 / ط . غراس ).
الخلاصة ؛ أن الشيخ الطباخ رحمه الله يميل إلى السلفية ، مع حبٍ لجمع الأمة الإسلامية على علاتها ! وفاته رحمه الله أن ذلك غير ممكن ؛ لأنها لن تجتمع الاجتماع الحقيقي النافع إلا على التوحيد وعقيدة السلف الصالح