تذاكرت يوما مع زهير بن نمير أخبار الخطباء والشعراء، وما كان يألفهم من توابع والزوابع، وقلت: هل حيلة في لقاء من اتفق منهم؟ قال: حتى أستأذن شيخنا. وطار عني ثم انصرف كلمح بالبصر، وقد أذن له، فقال: حل على متن الجواد. فصرنا عليه؛ وسار بنا كالطائر يجتاب الجو فالجو، ويقطع الدو فالدو، حتى التمحت أرضا لا كأرضنا، وشارفت جوا لا كجونا، متفرع الشجر، عطر الزهر؛ فقال لي: حللت أرض الجن أبا عامر، فبمن تريد أن نبدأ؟ قلت: الخطباء أولى بالتقديم، لكني إلى الشعراء أشواق. قال: فمن تريد منهم؟ قلت: صاحب امرئ القيس. فأما العنان إلى واد من الأدوية ذي دوح تتكسر أشجاره، وتترنم أطياره، فصاح: يا عتيبة بن نوفل، بسقط اللوى فحومل، ويم دارة جلجل، إلا ما عرضت علينا وجهك، وأنشدتنا من شعرك، وسمعت من الإنسي، وعرفتنا كيف إجازتك له! فظهر لنا فارس على فرس شقراء كأنها تلتهب، فقال: حياك الله يا زهير، وحيا صاحبك أهذا فتاهم؟ قلت: هو هذا، وأي جمرة يا عتيبة! فقال لي: أنشد؛ فقلت: السيد أولى بالإنشاد. فتطامح طرفه، واهتز عطفه، وقبض عنان الشقراء وضربها بالسوط، فسمت تحضر طولا عنا، وكر فاستقبلنا بالصعدة هازا لها، ثم ركزها وجعل ينشد:
سما لك شوق بعدما كان أقصرا ...
حتى أكملها ثم قال: لي: أنشد؛ فهمت بالحيصة، ثم اشتدت قوى نفسي وأنشدت:
شجته معان من سليمى وأدؤر ...
حتى انتهيت فيها إلى قول:
ومن قبة لا يدرك الطرف رأسها ... تزل بها ريح الصبا فتحدر
تكلفتها والليل قد جاش بحره، وقد جعلت أمواجه تتكسر
ومن تحت حضني أبيض ذو سفاسق، ... وفي الكف من عسالة الخط أسمر
هما صاحباي من لدن كنت يافعا، ... مقيلان من جد الفتى حين يعثر
فذا جدول في الغمد تسقى به المنى، وذا غصن في الكف يجنى فيثمر
فلما انتهيت تأملني عتيبة ثم قال: اذهب أجزتك. وغاب عنا.
شيطان طرفة
فقال لي زهير: من تريد بعد؟ قلت: صاحب طرفة. فجزعنا وادي عتيبة، وركضنا حتى انتهينا إلى غيضة شجرها شجران: سام يفوح بهارا، وشحر يعبق هنديا وعارا. فرأينا عينا معينة تسيل، ويدور ماءها فلكيا ولا يحل. فصاح به زهير: يا عنتر بن العجلان، حل بك زهير وصاحبه، فبخولة، وما قطعت معها من ليلة، إلا ما عرضت وجهك لنا! فبدا إلينا راكب جميل الوجه، قد توشح السيف، واشتمل عليه كساء خز، وبيده خطي، فقال: مرحبا بكما! واستنشدني فقلت: الزعيم أولى بالإنشاد؛ فأنشد:
لسعدى بحزان الشريف طلول ...
حتى أكملها، فأنشدته من قصيدة:
أمن رسم دار بالعقيق محيل ...
حتى انتهيت إلى قولي:
ولما هبطنا الغيث تذعر وحشه ... على كل خوار العنان أسيل
وثارت بنات الأعوجيات بالضحى ... أبابيل، من أعطاف غير وبيل
مسومة نعتدها من خيارها، ... لطرد قنيص، أو لطرد رعيل
إذا ما تغنى الصحب فوق متونها ... ضحينا، أجابت تحتهم بصهيل
تدوس بها أبكار نور كأنه ... رداء عروس أوذنت بحليل
رمينا بها عرض الصوار فأقعصت ... أغن قتلناه بغير قتيل
وبادر أصحابي النزول، فأقبلت ... كراديس من غض الشواء نشيل
نمسح بالحوذان منه، ... إذا ما اقتنصنا منه غير قليل
فقلنا لسلقيها: أدرها سلافة ... شمولا، ومن عينيك صرف شمول
فقالم بكأسيه مكيعا لأمرنا، ... يميل به الإدلال كل مميل
وشعشع راحيه، فما زال مائلا ... برأس كريم منهم وتليل