الفتوحات في بلاد الأندلس وجنوب فرنسا
كان توجه المسلمين إلى بلاد الأندلس ضرورياً من أجل نشر الإسلام ومن أجل تأمين وجودهم في بلاد المغـــرب . ولذلك طلــب موسى بن نصير من الخليفـــة الوليد بن عبد الملك السمـــاح له بغزو الأندلـس فأجابـــه الخليفة بأن يختبر هذه المنطقة بالسرايا (الحملات الاستطلاعية) أولاً . فبعث موسى في سنة 91هـ/709م بحملة بحرية قوامها خمسمائة مقاتل (أربعمائة راجل ومائة فارس) في أربع سفن بقيادة طَريف بن مالك المعافري وذلك بقصد استكشاف مدى قوة الأعداء في الجانب الآخر . ونجح طريف، أول أَمره ، من النزول على جزيرة بالوما ( جنوبي أسبانيا ) - والتي عرفت فيما بعد ذلك وحتى اليوم بجزيرة طَريف - ثم أغار طَريف على منطقة الجزيرة الخضراء . ورجع سالماً فتشجع الناس للخروج مع جيش الفتح.
وعقب ذلك ،جهز موسى بن نصير قوة بحرية قوامها أكثر من سبعة آلاف مقاتل ، أكثرهم من البربر والباقي من العرب والموالي ،وجهزهم موسى بكل ما يحتاجونه من أنواع الأسلحة المتوفرة في ذلك الوقت ، مثل : الرِّماح والسّهام والسّيوف والخناجر والعُمُد والنشّاب والزَّرَد ودواب الركوب . ووفر لهم عدداً من السفن مما كان قد بني في مينائي تونس وقرطاجنة . وجعل موسى قيادة هذه الحملة إلى مولاه طارق بن زياد النفزاوي البربري.
أبحر طارق من ميناء سبتة باتجاه أسبانيا في شهر رجب سنة 92هـ/ نيسان 711م . ونزل أول أمره عند سفح الجبل الذي أصبح منذ ذلك الوقت، ولا يزال ، يعرف بجبل طارق . ولما كانت المراكب لا تستطيع نقل الجند في حملة واحدة ، فقد أخذت تعود حتى توافى جميع أصحاب طارق عنده بالجبل . ثم تقدموا نحو الجزيرة الخضراء ، وسيطروا عليها . فاتخذ لهم طارق فيها وفي جزيرة طريف قواعد عسكرية يلجؤون إليها متى اضطرتهم الظروف إلى ذلك.
وفي هذه الأثناء سمع لُذريق ( رودريك Roderic ويقال كلودومير Clodomir )، ملك القوط الغربيين) ، وكان إذّاك مشغولاً بقمع بعض الثورات في شمال بلاده بنزول المسلمين على البر الأسباني فتجهز للقائهم بعدد كبير من قواته . وعندها طلب طارق المدد ، فأرسل موسى إليه جيشاً من خمسة آلاف جندي بقيادة طريف بن مالك .
تواجه الطرفان قرب مدينة شُذونَة . ودارت بينهما معركة عرفت بموقعة وادي لَكَّة ( أو سهل البرْباط ) ودامت حوالي ثمانية أيام ( 28 رمضان - 6 شوال 92هـ / 19 - 26 يوليو ( تموز ) 711م ) . وكان النصر فيها حليف المسلمين رغم خسارتهم لثلاثة آلاف شهيد . وقد توّجوا انتصارهم هذا بدخول مدينة شُذونة. ثم توجه طارق بعدها بقواته نحو مدينة اسِتجَّة ففتحها . وبعث بمغيث الرومي في سبعمائة فارس إلى مدينة قرطبة حيث تمكن من فتحها بعد حصار دام ثلاثة أشهر . وأما طارق فقد واصل زحفه من إستِجَّة باتجاه طُليطلة ( عاصمة مملكة القوط ) وفتحها دون مقاومة تذكر في سنة 93هـ/711م ).
ولعل من المفيد هنا أن نشير إلى ما يتردد في بعض الكتب التاريخية الحديثة من أن طارق بن زياد قد أحرق سفنه بعد نزوله على البر الإسباني لكي يقطع كل أمل لجنوده في العودة إلى المغرب وليدفعهم إلى الاستبسال في القتال ، وأن طارقاً ألقى في جنده خطبته التي يقول فيها : " أيها الناس : أين المفر ؟ البحر من ورائكم والعدو أمامكم وليس لكم والله إلا الصدق والصبر ... " .
ولكن الدراسات التي قام بها بعض الباحثين في الآونة الأخيرة أثبتت عدم قيام طارق بحرق سفنه على اعتبار أن هذا عملٌ عسكريٌّ محفوفٌ بالمخاطر. ثم إن هذه الحادثة ليس لها ذكر في كتب الفتوح الأولى مشرقية كانت أم مغربية . وكان أول من أوردها هو الإدريسي ، أبو عبدالله محمد ( ت 560هـ/ 1164م ) في معجمه الجغرافي نُزهة المشتاق في اختراق الآفاق. وفترة الإدريسي متأخرة جداً عن زمن الحدث .
وتوصل الباحثون أيضاً إلى عدم إمكانية نسبة نص الخطبة " بهذه الديباجة المشرقة ، والسجع غير المتكلَّف ، والبيان الرائع " إلى طارق بن زياد البربري الأصل وأنه ومعظم جنده الذين يستمعون إليه حديثو العهد بالإسلام وباللغة العربية . كما وأن نَص هذه الخطبة بالشكل الذي نراه اليوم في الكتب الأدبية والمدرسية قد ورد أول مرة في كتاب نَفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب لمؤلفه أحمد بن محمد المقَّري التِلِمْساني ( ت 1041هـ/ 1631 م) . وهي أيضاً فترة متأخرة تاريخياً عن زمن تلك الواقعة .
على أية حال ، فبعد أن تواترت أخبار طارق ونجاحاته على القيروان رغب موسى بن نصير بدوره في المشاركة بهذا الفتح . فخلَّف ولده عبد الله على القيروان. واستقل وجنده ( حوالي 18 ألف مقاتل من العرب والبربر والموالي ) السفن من ميناء سبتة ثم عبر المضيق حتى رسا على الجزيرة الخضراء في الجانب الأسباني ( 93هـ/711م) . وبعد أن رتب موسى قواته في هذه القاعدة ، تقدم نحو مدينة شُذونَة ثم توجه إلى قَرْمونَة ثم إشبيلية (حيث اتخذها موسى عاصمة للبلاد) . ثم توجه إلى مدينة ماردَة (94هـ/712م ) وأخيراً التقى موسى بطارق في طَلَبيرة ( 150 كيلاً مترياً غربي طليطلة ) وسارا سوية إلى طليطلة (94هـ/712م) فأقاما فيها فترة ، نظما أمورها الإدارية وتهيئا واستعدا للمرحلة اللاحقة . ثم توجها معاً نحو الشمال الشرقي ففتحا سَرَقُسْطَة ووَشْقَة ولارْدَة وطَرْكونَة وبرشَلونة (95هـ / 713م ).
وفي الوقت نفسه ، كان عبد العزيز بن موسى بن نصير قد افتتح أَلْبيرَة وغِرناطة وتُدْمير ومالَقَة . وعقد معاهدات صلح مع يابْرَة ولشبونة وشَنْتَرين وقَلْمَرِيَّة.
كتب موسى إلى الخليفة الوليد بن عبد الملك بأخبار الفتح وبرغبته في مواصلة مهمته ، ولكن الخليفة خشي على المسلمين عواقب هذا الانتشار السريع، فأرسل في طلب موسى إلى دمشق . فترك موسى ابنه عبد العزيز على اشبيلية وعاد إلى دمشق وبصحبته طارق بن زياد. وهناك قابلا كلاًّ من الخليفة الوليد ثم سليمان بن عبد الملك . وظل موسى مقيماً في بلاد الشام وتوفي في وادي القرى (العُلا ، حالياً) وهو في طريقه إلى مكة لأداء فريضة الحج عام 97هـ أو 98هـ (715م أو 716م ) وأما طارق بن زياد فلا ندري إن كان رجع إلى الأندلس أم بقي في بلاد الشام .
ومع ذلك ، فقد استمرت جهود ولاة الأندلس ، رغم تعددهم ليس فقط في الحفاظ على ما اكتسبه المسلمون في تلك المنطقة ، بل وفي التقدم بالمسلمين إلى ما وراء جبال البرانس ( جبال البُرْت جنوب فرنسا ) فقد تمكن السَّمْح بن مالك الخُوْلاني من فتح مدينة نارْبونَة ( مركز إقليم سِبْتِمانية ) والتي ظلت نقطة إرتكاز للمسلمين في تلك المناطق لفترة طويلة . ثم تقدم السمح وحاصر مدينة تولوز (طَلُّوشَة) ولكنه قتل أثناء حصاره لها يوم التروية أو يوم عرفة سنة 102هـ/10 حزيران / يونية 721 م.
وجاء عَنْبَسَة بن سُحَيم الكَلْبي والياً على الأندلس خلفاً للسمح بن مالك . وسار عنبسة على خطى سلفه في مجال الفتوحات . فتمكن من فتح قَرْقَشونة (جنوب غربي ناربونة) . ثم تقدم نحو مدينة نيمة وافتتحها دون مقاومة تذكر ، الأمر الذي أتاح له التحرك في وادي الرون والسيطرة عليها بأقل قدر من الجهد والخسائر . ثم تقدم عنبسة نحو برغندية قاطعاً نهر السّاءون إلى أوتان في أعالي الرون (107هـ/725م) حتى ليقال إنه قد وصل حتى سانس ( على مسافة 30 كيلاً مترياً جنوب باريس ) ولكن عنبسة قُتل في ظروف غامضة.
ولعل أَجرأ محاولات المسلمين في اختراق هذه الجبهة تلك التي قام بها عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي حيث تمكن من دخول مدينة بوردو على ضفاف نهر الجارون ، ثم دخل مدينة بْواتييه ، وما أن توجه منها إلى مدينة تور حتى واجهته قوات الفرنجة وعليها زعيمهم شارل وذلك في موقع يعرف اليوم باسم موسِّيه لاباتاي ( 20 كيلاً مترياً شمال شرق بْواتييه ) وجرت بين الطرفين موقعة استمرت حوالي عشرة أيام في شهر رمضان سنة 114هـ/أكتوبر 732م . كان النصر فيها حليف الفرنجة رغم ما أبداه الغافقي وجنده من بطولات . ولكن الغافقي نفسه قُتل ومعه العديد من أفراد جيشه حتى لقد عرفت هذه الوقعة عند المسلمين بموقعة " بلاط الشهداء " ، لكثرة شهداء المسلمين فيها .
وأما عن أثر هذه المعركة على الجانب الإسلامي فإن انهزامهم فيها قد قضى على أي أمل لهم في التوغل في الأراضي الأوروبية لأكثر مما وصلوا إليه . كما وأنهم لم يستطيعوا المحافظة على ممتلكاتهم فيها ، فقد أخذوا يتراجعون عنها واحدة بعد الأخرى ، حتى خرجوا نهائياً من ناربونة سنة 133هـ/750م.
ومن ناحية أخرى ، فإن نتيجة هذه المعركة بالنسبة للجانب الأوروبي جعلت من شارل بطلاً قومياً وأطلق عليه البابا غريغوري الثالث لقب مارْتِلْ (أي المطرقة التي سحقت قوة العرب والمسلمين في فرنسا) ، فأصبح يعرف منذ ذلك الوقت بـ " شارل مارتل ".
وأما عن صدى المعركة لدى مؤرخي الغرب ومفكريهم: فقد اعتبرها البعض انتصاراً حقيقياً للأمم الأوروبية التي استطاعت إقصاء الإســـــلام عنهـــا . يقول المــــؤرخ الإنجليزي إدوارد جيبـــون : " لــو أن العـــرب [ المسلمين ] انتصروا في هذه المعركة : إذن فلربما كان القرآن يُفسَّر اليوم في جامعة أُكسفورد".
وفي المقابل فإن هناك من تَحسَّر على خسران المسلمين لهذه المعركة لأن انتصارهم كان سيجلب النور إلى الأمم الأوروبية . يقول الأديب الفرنسي كْلود فارير :
" في سنة 732م /114هـ حدثت فاجعة كانت من أَشأَم الأَحداث التي نُكبت بها الإنسانية في القرون الوسطى وكان من آثارها أن غمرت العالم الغربي طبقة عميقة من التوحش لم تبدأ بالتبدّد إلاّ على عهد النهضة، هذه هي الفاجعة التي أريد أن أمقت ذكراها وأعني بها الانتصار البغيض الذي ظفر به أولئك البرابرة المحاربون من الإفرنج بقيادة شارل مارتل على كتائب العرب المسلمين الذين كان يقودهم الغافقي ، ففي ذلك اليوم المشؤوم تراجعت المدنية ثمانية قرون إلى الوراء ، ويكفي المرء أن يطوف بفكره في الأندلس ومدنها وحدائقها وحضارتها الخالدة ليعرف ماذا عسى أن تكون قد بلغته فرنسا منذ ذلك العهد السحيق لو أنقذها الإسلام العمراني الفلسفي المتسامح السلمي ".
وعلى آية حال ، فإن الناظر في إنجازات الخلفاء الأُمويين وولاتهم في مجال الفتوحات ، لا يستطيع إلا أن يثني على جهودهم في هذا المجال . وقد أبدى ابن كثير إعجابه بما تم في عصر بني أُمية من فتوحات ، فقال : " كانت سوق الجهاد قائمة في بني أمية ليس لهم شغل إلا ذلك ، قد عَلَتْ كلمة الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها ، وبَرها وبَحرها ، وقد أذلّوا الكفر وأهله ، وامتلأت قلوب المشركين من المسلمين رعباً ، لا يتوجه المسلمون إلى قطر من الأقطار إلا أخذوه، وكان في عساكرهم وجيوشهم في الغزو الصالحون والأولياء والعلماء من كبار التابعين ، في كل جيش منهم شرذمة عظيمة ينصر الله بهم دينه " .
كان توجه المسلمين إلى بلاد الأندلس ضرورياً من أجل نشر الإسلام ومن أجل تأمين وجودهم في بلاد المغـــرب . ولذلك طلــب موسى بن نصير من الخليفـــة الوليد بن عبد الملك السمـــاح له بغزو الأندلـس فأجابـــه الخليفة بأن يختبر هذه المنطقة بالسرايا (الحملات الاستطلاعية) أولاً . فبعث موسى في سنة 91هـ/709م بحملة بحرية قوامها خمسمائة مقاتل (أربعمائة راجل ومائة فارس) في أربع سفن بقيادة طَريف بن مالك المعافري وذلك بقصد استكشاف مدى قوة الأعداء في الجانب الآخر . ونجح طريف، أول أَمره ، من النزول على جزيرة بالوما ( جنوبي أسبانيا ) - والتي عرفت فيما بعد ذلك وحتى اليوم بجزيرة طَريف - ثم أغار طَريف على منطقة الجزيرة الخضراء . ورجع سالماً فتشجع الناس للخروج مع جيش الفتح.
وعقب ذلك ،جهز موسى بن نصير قوة بحرية قوامها أكثر من سبعة آلاف مقاتل ، أكثرهم من البربر والباقي من العرب والموالي ،وجهزهم موسى بكل ما يحتاجونه من أنواع الأسلحة المتوفرة في ذلك الوقت ، مثل : الرِّماح والسّهام والسّيوف والخناجر والعُمُد والنشّاب والزَّرَد ودواب الركوب . ووفر لهم عدداً من السفن مما كان قد بني في مينائي تونس وقرطاجنة . وجعل موسى قيادة هذه الحملة إلى مولاه طارق بن زياد النفزاوي البربري.
أبحر طارق من ميناء سبتة باتجاه أسبانيا في شهر رجب سنة 92هـ/ نيسان 711م . ونزل أول أمره عند سفح الجبل الذي أصبح منذ ذلك الوقت، ولا يزال ، يعرف بجبل طارق . ولما كانت المراكب لا تستطيع نقل الجند في حملة واحدة ، فقد أخذت تعود حتى توافى جميع أصحاب طارق عنده بالجبل . ثم تقدموا نحو الجزيرة الخضراء ، وسيطروا عليها . فاتخذ لهم طارق فيها وفي جزيرة طريف قواعد عسكرية يلجؤون إليها متى اضطرتهم الظروف إلى ذلك.
وفي هذه الأثناء سمع لُذريق ( رودريك Roderic ويقال كلودومير Clodomir )، ملك القوط الغربيين) ، وكان إذّاك مشغولاً بقمع بعض الثورات في شمال بلاده بنزول المسلمين على البر الأسباني فتجهز للقائهم بعدد كبير من قواته . وعندها طلب طارق المدد ، فأرسل موسى إليه جيشاً من خمسة آلاف جندي بقيادة طريف بن مالك .
تواجه الطرفان قرب مدينة شُذونَة . ودارت بينهما معركة عرفت بموقعة وادي لَكَّة ( أو سهل البرْباط ) ودامت حوالي ثمانية أيام ( 28 رمضان - 6 شوال 92هـ / 19 - 26 يوليو ( تموز ) 711م ) . وكان النصر فيها حليف المسلمين رغم خسارتهم لثلاثة آلاف شهيد . وقد توّجوا انتصارهم هذا بدخول مدينة شُذونة. ثم توجه طارق بعدها بقواته نحو مدينة اسِتجَّة ففتحها . وبعث بمغيث الرومي في سبعمائة فارس إلى مدينة قرطبة حيث تمكن من فتحها بعد حصار دام ثلاثة أشهر . وأما طارق فقد واصل زحفه من إستِجَّة باتجاه طُليطلة ( عاصمة مملكة القوط ) وفتحها دون مقاومة تذكر في سنة 93هـ/711م ).
ولعل من المفيد هنا أن نشير إلى ما يتردد في بعض الكتب التاريخية الحديثة من أن طارق بن زياد قد أحرق سفنه بعد نزوله على البر الإسباني لكي يقطع كل أمل لجنوده في العودة إلى المغرب وليدفعهم إلى الاستبسال في القتال ، وأن طارقاً ألقى في جنده خطبته التي يقول فيها : " أيها الناس : أين المفر ؟ البحر من ورائكم والعدو أمامكم وليس لكم والله إلا الصدق والصبر ... " .
ولكن الدراسات التي قام بها بعض الباحثين في الآونة الأخيرة أثبتت عدم قيام طارق بحرق سفنه على اعتبار أن هذا عملٌ عسكريٌّ محفوفٌ بالمخاطر. ثم إن هذه الحادثة ليس لها ذكر في كتب الفتوح الأولى مشرقية كانت أم مغربية . وكان أول من أوردها هو الإدريسي ، أبو عبدالله محمد ( ت 560هـ/ 1164م ) في معجمه الجغرافي نُزهة المشتاق في اختراق الآفاق. وفترة الإدريسي متأخرة جداً عن زمن الحدث .
وتوصل الباحثون أيضاً إلى عدم إمكانية نسبة نص الخطبة " بهذه الديباجة المشرقة ، والسجع غير المتكلَّف ، والبيان الرائع " إلى طارق بن زياد البربري الأصل وأنه ومعظم جنده الذين يستمعون إليه حديثو العهد بالإسلام وباللغة العربية . كما وأن نَص هذه الخطبة بالشكل الذي نراه اليوم في الكتب الأدبية والمدرسية قد ورد أول مرة في كتاب نَفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب لمؤلفه أحمد بن محمد المقَّري التِلِمْساني ( ت 1041هـ/ 1631 م) . وهي أيضاً فترة متأخرة تاريخياً عن زمن تلك الواقعة .
على أية حال ، فبعد أن تواترت أخبار طارق ونجاحاته على القيروان رغب موسى بن نصير بدوره في المشاركة بهذا الفتح . فخلَّف ولده عبد الله على القيروان. واستقل وجنده ( حوالي 18 ألف مقاتل من العرب والبربر والموالي ) السفن من ميناء سبتة ثم عبر المضيق حتى رسا على الجزيرة الخضراء في الجانب الأسباني ( 93هـ/711م) . وبعد أن رتب موسى قواته في هذه القاعدة ، تقدم نحو مدينة شُذونَة ثم توجه إلى قَرْمونَة ثم إشبيلية (حيث اتخذها موسى عاصمة للبلاد) . ثم توجه إلى مدينة ماردَة (94هـ/712م ) وأخيراً التقى موسى بطارق في طَلَبيرة ( 150 كيلاً مترياً غربي طليطلة ) وسارا سوية إلى طليطلة (94هـ/712م) فأقاما فيها فترة ، نظما أمورها الإدارية وتهيئا واستعدا للمرحلة اللاحقة . ثم توجها معاً نحو الشمال الشرقي ففتحا سَرَقُسْطَة ووَشْقَة ولارْدَة وطَرْكونَة وبرشَلونة (95هـ / 713م ).
وفي الوقت نفسه ، كان عبد العزيز بن موسى بن نصير قد افتتح أَلْبيرَة وغِرناطة وتُدْمير ومالَقَة . وعقد معاهدات صلح مع يابْرَة ولشبونة وشَنْتَرين وقَلْمَرِيَّة.
كتب موسى إلى الخليفة الوليد بن عبد الملك بأخبار الفتح وبرغبته في مواصلة مهمته ، ولكن الخليفة خشي على المسلمين عواقب هذا الانتشار السريع، فأرسل في طلب موسى إلى دمشق . فترك موسى ابنه عبد العزيز على اشبيلية وعاد إلى دمشق وبصحبته طارق بن زياد. وهناك قابلا كلاًّ من الخليفة الوليد ثم سليمان بن عبد الملك . وظل موسى مقيماً في بلاد الشام وتوفي في وادي القرى (العُلا ، حالياً) وهو في طريقه إلى مكة لأداء فريضة الحج عام 97هـ أو 98هـ (715م أو 716م ) وأما طارق بن زياد فلا ندري إن كان رجع إلى الأندلس أم بقي في بلاد الشام .
ومع ذلك ، فقد استمرت جهود ولاة الأندلس ، رغم تعددهم ليس فقط في الحفاظ على ما اكتسبه المسلمون في تلك المنطقة ، بل وفي التقدم بالمسلمين إلى ما وراء جبال البرانس ( جبال البُرْت جنوب فرنسا ) فقد تمكن السَّمْح بن مالك الخُوْلاني من فتح مدينة نارْبونَة ( مركز إقليم سِبْتِمانية ) والتي ظلت نقطة إرتكاز للمسلمين في تلك المناطق لفترة طويلة . ثم تقدم السمح وحاصر مدينة تولوز (طَلُّوشَة) ولكنه قتل أثناء حصاره لها يوم التروية أو يوم عرفة سنة 102هـ/10 حزيران / يونية 721 م.
وجاء عَنْبَسَة بن سُحَيم الكَلْبي والياً على الأندلس خلفاً للسمح بن مالك . وسار عنبسة على خطى سلفه في مجال الفتوحات . فتمكن من فتح قَرْقَشونة (جنوب غربي ناربونة) . ثم تقدم نحو مدينة نيمة وافتتحها دون مقاومة تذكر ، الأمر الذي أتاح له التحرك في وادي الرون والسيطرة عليها بأقل قدر من الجهد والخسائر . ثم تقدم عنبسة نحو برغندية قاطعاً نهر السّاءون إلى أوتان في أعالي الرون (107هـ/725م) حتى ليقال إنه قد وصل حتى سانس ( على مسافة 30 كيلاً مترياً جنوب باريس ) ولكن عنبسة قُتل في ظروف غامضة.
ولعل أَجرأ محاولات المسلمين في اختراق هذه الجبهة تلك التي قام بها عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي حيث تمكن من دخول مدينة بوردو على ضفاف نهر الجارون ، ثم دخل مدينة بْواتييه ، وما أن توجه منها إلى مدينة تور حتى واجهته قوات الفرنجة وعليها زعيمهم شارل وذلك في موقع يعرف اليوم باسم موسِّيه لاباتاي ( 20 كيلاً مترياً شمال شرق بْواتييه ) وجرت بين الطرفين موقعة استمرت حوالي عشرة أيام في شهر رمضان سنة 114هـ/أكتوبر 732م . كان النصر فيها حليف الفرنجة رغم ما أبداه الغافقي وجنده من بطولات . ولكن الغافقي نفسه قُتل ومعه العديد من أفراد جيشه حتى لقد عرفت هذه الوقعة عند المسلمين بموقعة " بلاط الشهداء " ، لكثرة شهداء المسلمين فيها .
وأما عن أثر هذه المعركة على الجانب الإسلامي فإن انهزامهم فيها قد قضى على أي أمل لهم في التوغل في الأراضي الأوروبية لأكثر مما وصلوا إليه . كما وأنهم لم يستطيعوا المحافظة على ممتلكاتهم فيها ، فقد أخذوا يتراجعون عنها واحدة بعد الأخرى ، حتى خرجوا نهائياً من ناربونة سنة 133هـ/750م.
ومن ناحية أخرى ، فإن نتيجة هذه المعركة بالنسبة للجانب الأوروبي جعلت من شارل بطلاً قومياً وأطلق عليه البابا غريغوري الثالث لقب مارْتِلْ (أي المطرقة التي سحقت قوة العرب والمسلمين في فرنسا) ، فأصبح يعرف منذ ذلك الوقت بـ " شارل مارتل ".
وأما عن صدى المعركة لدى مؤرخي الغرب ومفكريهم: فقد اعتبرها البعض انتصاراً حقيقياً للأمم الأوروبية التي استطاعت إقصاء الإســـــلام عنهـــا . يقول المــــؤرخ الإنجليزي إدوارد جيبـــون : " لــو أن العـــرب [ المسلمين ] انتصروا في هذه المعركة : إذن فلربما كان القرآن يُفسَّر اليوم في جامعة أُكسفورد".
وفي المقابل فإن هناك من تَحسَّر على خسران المسلمين لهذه المعركة لأن انتصارهم كان سيجلب النور إلى الأمم الأوروبية . يقول الأديب الفرنسي كْلود فارير :
" في سنة 732م /114هـ حدثت فاجعة كانت من أَشأَم الأَحداث التي نُكبت بها الإنسانية في القرون الوسطى وكان من آثارها أن غمرت العالم الغربي طبقة عميقة من التوحش لم تبدأ بالتبدّد إلاّ على عهد النهضة، هذه هي الفاجعة التي أريد أن أمقت ذكراها وأعني بها الانتصار البغيض الذي ظفر به أولئك البرابرة المحاربون من الإفرنج بقيادة شارل مارتل على كتائب العرب المسلمين الذين كان يقودهم الغافقي ، ففي ذلك اليوم المشؤوم تراجعت المدنية ثمانية قرون إلى الوراء ، ويكفي المرء أن يطوف بفكره في الأندلس ومدنها وحدائقها وحضارتها الخالدة ليعرف ماذا عسى أن تكون قد بلغته فرنسا منذ ذلك العهد السحيق لو أنقذها الإسلام العمراني الفلسفي المتسامح السلمي ".
وعلى آية حال ، فإن الناظر في إنجازات الخلفاء الأُمويين وولاتهم في مجال الفتوحات ، لا يستطيع إلا أن يثني على جهودهم في هذا المجال . وقد أبدى ابن كثير إعجابه بما تم في عصر بني أُمية من فتوحات ، فقال : " كانت سوق الجهاد قائمة في بني أمية ليس لهم شغل إلا ذلك ، قد عَلَتْ كلمة الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها ، وبَرها وبَحرها ، وقد أذلّوا الكفر وأهله ، وامتلأت قلوب المشركين من المسلمين رعباً ، لا يتوجه المسلمون إلى قطر من الأقطار إلا أخذوه، وكان في عساكرهم وجيوشهم في الغزو الصالحون والأولياء والعلماء من كبار التابعين ، في كل جيش منهم شرذمة عظيمة ينصر الله بهم دينه " .