في عام 1964 تمكنت بعثة إستكشافية إيطالية من جامعة روما من الكشف عن إيبلا القديمة (حديثاً تل مرديخ) وذلك في وسط سورية, وكانت هذه البعثة برئاسة البروفيسور باولو ماتيا . في عام 1975 اكتشفت هذه البعثة مكتبة القصر والتي كانت تحتوي على حوالي 15000 رُقُم و وثيقة و أجزاء من الوثائق , والتي تعود إلى أوائل العصر البرونزي ( 2500 قبل الميلاد). تعتبر هذه الرُقُم والوثائق هي أقدم الوثائق في التاريخ حتى الآن. كتبت هذه الرُقُم والوثائق بلغتين , الأولى هي اللغة السومرية والثانية هي اللغة السامية, وكانت اللغة السامية هي اللغة الرسمية لسكان مدينة إيبلا وكثير من المدن التي عاصرتها وجاورتها في منطقة الشرق الأوسط. كشفت هذه النصوص عن الدور التجاري الريادي لمدينة إيبلا والذي أثر بشكل واسع على العلاقات التجارية والثقافية على الشعوب المجاورة في القرن الثالث قبل الميلاد.
يمكن تقسيم الفترات المزدهرة لمدينة إيبلا إلى فترتين رئيسيتين . الفترة الأولى كانت بين 2400 – 2100 قبل الميلاد والتي أكدت على تأثير مدينة إيبلا ودورها التجاري الأساسي على كلٍ من مملكة ماري وأكاد. سيطرت مملكة إيبلا خلال هذه الفترة على كلٍ من مملكة حلب ومملكة ماري ومملكة بيبلوس (حديثاً جبيل) ومملكة إيميسا ( حديثاً حمص ) ومملكة إيمات (حديثاً حماة ) ومملكة ديماشكي ( حديثاً دمشق) ومملكة كركميش ( حديثاً جرابلس) ومملكة أوغاريت (حديثاً رأس شمرا) . في نهاية الفترة الإزدهارية الأولى سيطر سرجون الأول ملك الأكاديين على مملكة إيبلا.
الفترة الإزدهارية الثانية كانت بين 2100 – 1600 قبل الميلاد وكان يحكمها شمش حَد دَ ملك مملكة حلب. احتل حمورابي البابلي مملكة إيبلا حوالي عام 1750 قبل الميلاد .
الجدير بالذكر أن هناك تشابهاً كبيراً بين اللغة السامية التي كانت اللغة الرسمية لأهالي مدينة إيبلا و بين اللغة العربية.
مع نهاية كل عام يقدم البروفيسور باولو ماتييه مكتشف مملكة ايبلا الأثرية حصاداً لما تم اكتشافه خلال عام مضى من التنقيب الأثري وهاهو يعلن اليوم العثور على مكتشفات أثرية جديدة في المدينة الأثرية (ايبلا) من أبرزها معبد ديني يعتبر الأكبر حجماً من نوعه في العالم ولا يزال في حالة شبه سليمة.
وان المعبد الديني يعود الى العام 2200 قبل الميلاد والى زمن الأرشيف الملكي للمدينة وهو يقع تحت المدينة التي ترجع الى عهد حمورابي ويبلغ طول جدران المعبد أكثر من 6 أمتار. وأوضح ان استمرار عمل البعثة الايطالية المؤلفة من 50 باحثاً و140 عاملاً يدعم ويعزز العلاقات الثقافية والحوار بين ثقافات دول الشمال وجنوب المتوسط مشيراً الى ان ايبلا التي بدئ العمل فيها منذ عام 1964 تضم الآثار القديمة لفترة هامة من تاريخ البشرية جمعاء في منطقة ما بين النهرين وهي تمثل أقدم الحضارات البشرية في موقع جغرافي متميز وأشار الى ان المكتشفات الأثرية في مدينة ايبلا ومنها تل مرديخ والأرشيف الملكي الضخم وكذلك العثور على أول قاموس عرفته البشرية وعلى أول معاهدة مكتوبة للسلام بين مدينتي ايبلا وأبرسال وأيضاً اكتشاف أطول قصيدة شعرية في المدينة. وأشاد ماتييه بالأهمية التاريخية والحضاريةلمدينة ايبلا وقال: ان اكتشاف ايبلا والأرشيف الملكي لهذه المدينة قدم للبشرية واحداً من أقدم المكتشفات والممالك الواقعة في الشرق الأدنى من عصر البرونز الأمر الذي يجسد أهمية البحث العلمي في الحوار بين الشعوب والثقافات.
اكتشاف القصر الجنوبي
وعن اكتشاف القصر الجنوبي في مدينة ايبلا الأثرية يقول البروفيسور باولو ماتييه رئيس البعثة الأثرية الايطالية ان أعمال التنقيب التي قامت بها البعثة في الموقع المذكور تمكنت من اكتشاف ثمانية بالمئة من المدينة الأثرية وهي عبارة عن قصور ملكية ومعابد تعود إلى فترة حكم الملك البابلي حمورابي عام 1600 قبل الميلاد.
وأشار الى انه تم اكتشاف جزء من مساحة القصر المقدرة بحوالى 400 متر مربع ويضم ثلاث قاعات كبيرة وهي محفوظة بشكل جيد وأوضح ان هناك العديد من الرقم المسمارية التي تؤكد ان قاطن القصر كان على درجة كبيرة من الأهمية وكان يكتسب صفة ملكية كما دلت الكتابات على ذلك وان هذه المباني قد شيدت على طراز معماري خاص مشيراً إلى نوعين منها وهما المباني الملكية والمباني الدينية.
وأشار البروفيسور ماتييه الى ان البعثة ستحدد وظيفة القصر خلال أعمالها في السنوات القادمة مؤكداً ان مدينة ايبلا هي واحدة من المدن النادرة في منطقة الشرق الأوسط وأول من شهدت اتفاق سلام مكتوباً في تاريخ المنطقة بين مدينة ايبلا وابرسال التي تقع في منطقة الفرات الأعلى تعود الى 2350 قبل الميلاد.
ونوه ان عمل البعثة للموسم التنقيبي لهذا العام قد تركز على ترميم القصر الملكي الذي اكتشفت فيه الرقم المسمارية وتوقع ان تنجز عمليات ترميمه خلال العام القادم. وأشار الى انه تم خلال عمليات الترميم في هذا القصر اكتشاف 15 لوحة مسمارية لا تزال تحت الدراسة بانتظار وصول المترجم الخاص بالرقم المسمارية حيث تشير قراءتها الأولية الى انها تتحدث عن أمور تتعلق بتقديم أموال ذهبية وفضية الى القصر. وأضاف: ان القسم الثاني من عمل البعثة لعام 2004 تركز على مواصلة ترميم القصر الذي يعود لحقبة حمورابي حيث من المتوقع ان تنجز عمليات الترميم خلال العام القادم أيضاً. أما القسم الثالث من عمل البعثة فيتركز في منزل خاص بسور المدينة والمحفوظ بشكل جيد والذي يُؤمل أن تسفر عمليات التحري به عن نتائج ايجابية. وأشار الى ان مجموعة عمل متخصصة في عمليات الترميم جاءت من روما للمساهمة في مايجري ترميمه من مواقع، كما ستقوم مجموعات من الجامعات الايطالية بزيارة لمملكة ايبلا للاطلاع على ما تم انجازه فيها. وأوضح ماتييه انه يعكف على إنجاز عمل اعلامي بتنفيذبرنامج على الحاسوب عبر شبكة تربط مابين موقع ايبلا والاستراحة المجاورة ومتحف ادلبتتيح للباحثين والدارسين امكانية التعرف على مكتشفات ايبلا بشكل مفصل. وأكد ماتييه انه في اطار اهتمامه في تاريخ وآثار المحافظة وضمن الاتفاقيات بين سورية وايطاليا هناك لجنة ايطالية من أجل اعداد دراسة حول اعادة تأهيل متحف ادلب الوطني. كما يجري التنسيق مع الجهات المنسقة مع الاتحاد الاوروبي لتنفيذ مشاريع تنموية تخص وزارة التعليم العالي بالتعاون مع جامعة حلب من أجل البحث في إمكانية إقامة مركز لتأهيل كادر متخصص بقضايا الآثار في المحافظة. كما سيجري البحث مع الوفد القادم من كلية الهندسة في جامعة روما العلاقة بين المشروع الانمائي لتنمية البيئة المحلية المحيطة بمملكة ايبلا اجتماعياً واقتصادياً والتي تتضمن سلسلة من المشاريع التنموية لتنشيط الصناعات اليدوية المستمدة من البيئة المحلية بتمويل من هيئة مكافحة البطالة.
وأشار السيد ماتييه إلى العمل الفني الذي قدمه الموسيقار الايطالي ريكارد مونتي على مسرح بصرى خلال صيف 2004 والذي تضمن مقطوعة عن ايبلا بمناسبة الذكرى الأربعين لبدء عمليات التنقيب في مملكة ايبلا والتي تركت صدى رائعاً بين الحضور المتميز والذي ساعدت خصوصية مسرح بصرى على ابراز العمل بشكل جيد.
أهمية كبرى
ويقول ماتييه ان مدينة ايبلا، هي حتى اليوم أكبر مدينة في عصرها. فقد بلغت مساحتها 65 هكتاراً وبلغ عدد سكان رعاياها بحسب السجلات المكتشفة 260000 نسمة. وهي الحلقة المفقودة التي طالما تساءل علماء الآثار عن مكان وجودها، وكان لابد أن تكتشف في المكان الذي وجدت فيه، لتزيل في الأوساط العلمية علامات الاستفهام عن ذلك الفراغ الحضاري المستغرب في البقعة الأرضية الممتازة الواقعة بين أوغاريت وحلب وماري ودمشق وغيرها من المدن الحضارية المشهورة. لذلك فقد هز اكتشافها كافة الأوساط العلمية، وخاصة عندما ظهر فيها ذلك العدد الضخم من الرقم المكتشفة في مكتبة القصر، والمكتوبة بلغة غير معروفة، والتي يُؤمل منها أن تعطي العالم معلومات جديدة اضافية عن تاريخ المنطقة بكاملها. وأما الرُقم التي وجدت في القصر والتي اعتبرها العلماء كنزاً تاريخياً ثميناً، فقد بلغ عددها 16000 رقيم ويعود تاريخها الى الفترة الواقعة بين 2350 * 2250ق.م. وتعتبر أقدم وثائق في العالم، حتى الآن، متعلقة بسجلات دولة. وقد كشفت هذه المخطوطات بحسب قول العالم الأثري جان مارجرون، أحد أعضاء البعثة عن عصر البرونز القديم في الألف الثالث ق.م. بينما كشفت السجلات المكتوبة في ماري عن عصر البرونز المتوسط، وكشفت سجلات أوغاريت عن عصر البرونز الحديث.
كما يقول البروفسور جيوفاني بتيناتو، من أعضاء البعثة وأستاذ اللغات القديمة، ان اللغة الايبلائية هي أقدم لغة مكتوبة، أي انها اللغة الأم للغات العربية التي ظهرت فيما بعد. وقد اكتشفت في ايبلا قواميس تبدو فيها كلمات باللغة الايبلائية. وكانت تكتب من اليسار إلى اليمين، مع ما يقابلها من كلمات في اللغة السومرية. وقد ساعدت هذه القواميس، التي هي أقدم قواميسفي العالم، على معرفة معاني عدد كبير من المفردات السومرية التي كانت مجهولة، كما ان بعض مفرداتها لا تزال حية في اللغة العربية حتى الآن مثل: كتب، ملك، يد، قمح، تين (وتلفظ تينو) ويضيف البروفسور بتيناتو بأنه تم العثور على لوحة تحمل اسم الطالب الذي كتبها مع توقيع أستاذه وتوقيع عميد المعهد. ويدلنا ذلك على المستوى الرفيع الذي وصل اليه فن التدريس في ذلك الزمان الموغل في القدم. وأما بالنسبة لمنطقة نفوذ ايبلا التجاري: ان النفوذ كان يمتد حتى صحراء سيناء، شاملاً فلسطين ولبنان والجمهورية العربية السورية وفي الغرب وصلت الى قبرص وفي الشمال إلى الأناضول وفي الشرق حتى مرتفعات مابين النهرين. ويقول البروفسور ماتييه مدير البعثة: كانت حضارة ايبلا وثقافتها مهيمنة اقتصادياً وسياسياً على مناطق كثيرة من سورية، تمتد بين جبال لبنان في الغرب وحتى بادية الشام في الشرق، وبين جبال طوروس في الشمال إلى منطقة حمص في الجنوب حتى نهر الفرات. وكانت بفضل موقعها في وسط الخطوط التجارية، صلة الوصل بين مصر ومابين النهرين والى ما بعد جبال ايران حتى الهند.
ويضيف أيضاً البروفسور ماتييه، بخصوص أهم صادرات ايبلا، فيقول: إن بلاد الرافدين كانت تستورد من ايبلا الأثاث المحفور والمحلى بالذهب. وتدل السجلات الملكية على ان تصدير المصنوعات الايبلائية، وخاصة المنسوجات * ومنها ما كان ينسج بخيوط الذهب * كان يصل حتى البحر المتوسط غرباً ودجلة شرقاً والأناضول شمالاً وفلسطين جنوباً. وان دل هذا على شيءفإنما يدل على الازدهار الفني الذي لعبته ايبلا في وضع أسس أرفع الصناعات التقليدية الحالية في سورية، كصناعة الحفر على الأختام، وتلبيس الأثاث بالصدف وكذلك نسيج الدمسكو المشتهرة به دمشق حتى يومنا هذا. لقد أرشدتنا المخطوطات أيضاً الى نظام الحكم في ايبلا، فالملك (ماليكوم) كان على رأس الدولة يعاونه في الحكم مجلس شيوخ أو قضاة، وكان لهذا المجلس صلاحية فرض تخطيط سياسي معين على العائلة المالكة، وكان للملكة مركز مميز في الترتيب الاداري للدولة فكان اسمها يذكر دائماً بجانب اسم الملك. وكانت الأمور الداخلية والادارية منوطة بولي العهد، كما كانت الأمور الخارجية تعود إلى الابن الثاني، أما بقية أفراد العائلة المالكة فكانوا يكلفون بمهمات سياسية وادارية مهمة. كحكام للمدن أو المناطق الخاضعة لايبلا، أو مسؤوليات كبرى في القصر.. الخ. وتزودنا احدى الوثائق بأسماء القضاة الذين يشاركون الملك في حمل أعباء الحكم مع ذكر العدد الدقيق للموظفين العاملين تحت امرة كل منهم والبالغ عددهم 11700 رجل، مما يعطينا فكرة عن عظمة هذه المملكة واتساع نفوذها وأعمالها. وفيما يتعلق بحضارة ايبلا عموماً وأهميتها بالنسبة لمنطقتنا يقول البروفسور ماتييه:وأخيراً نشير الى الحقيقة الحضارية لايبلا وانعكاسها الأساسي على سورية في النصف الثاني من الألف الثالث ق.م. بحيث أصبح جلياً ان هذه الحضارة يجب ان تكون القاعدة الثابتة لأي بحث يستهدف التحقيق في الصحة التاريخية للحضارة الكنعانية التي دارت في أجوائها الأحداث الدينية للعهد القديم في قالب من التأثير والتأثر، وإنني سعيد بأن اكتشاف مملكة ايبلا سيضيف أكثر الصفحات فخاراً إلى تاريخ سورية المجيد.
ولا بد من الذكر بان السيدة أسماء الأسد قد أولت ايبلا وتل مرديخ العناية الكبيرة من خلال زياراتها المتكررة للموقع والامتيازات الرائعة التي قدمتها وستقدمها.
