تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :
نشر المقال في آب / أغسطس 1961 ، العدد العاشر ، الرائد العربي
منذ الآف السنين ، وتحت أشعة الشمس المحرقة ، تقدمت قوافل العرب متجهة نحو البتراء ، عاصمة الانباط. قوافل كثيرة وكبيرة ، منها ما خرج من اليمن او من بلاد سبأ ، ومنها ما جاء من غربي القارة الأفربقبة او من أقصى شرق الكرة الارضية ، متجهة كلها نحو البتراء ، جالبة معها خيرات العالم القديم ونوادر الماضي وكنوز الشرق من ذهب وفضة ونحاس واحجار كريمة وعطر وطيب وحرائر.كانت البتراء في ذلك الوقت مدينة الانباط وعاصمة لامبراطورية تجارية وصلت حدودها حتى الفرات ، وصكت نقودها في مدينة دمشق ، وبنت سفنها في موانيء البحر الاحمر .يبقى تاريخ الانباط قبل هذا الوقت غامضاً ومبهماً ، رغم ما قام به الباحثون والمنقبون من بحث وتنقيب . وكل ما هو معروف عنهم آنذاك أنهم قوم عاشوا على الغزوات الفردية ، يستولون على خيرات القوافل ويعيشون في بحبوحة محدودة حتى تطل قوافل جديدة .مع مرور الوقت إنقلب الانباط من غزاة الى دولة مسالمة بعدما أيقنوا ان مغانم الغزو محدودة وان السلام والامان يجلبان الثروة والقوة والجاه . فنراهم بدأو من عام 312 قبل الميلاد حتى سنة 106 ميلادية يحشدون الجيوش ليضمنوا السلام لربوعهم وديارهم . وهكذا بدأ عهد جديد في تاريخ الانباط . فاستقبلوا بسلام وامان القوافل المحملة وانتعش اقتصادهم ونشطت حركتهم التجارية ، واذا بالبتراء تصبح عاصمة لامبراطورية مهمة ، لعبت دوراَ كبيراً في الحياة الاقتصادية والسياسية لعالم ذلك الزمان . وظهرت للانباط ، بفضل سياستهم الجديدة ، مستعمرات على شواطىء ايطاليا وبلدان البحر الابيض المتوسط ، ووصلت قوافلهم الى أقاصي الأرض .كانت العربية لغة الانباط الأصلية . إلا انهم اقتبسوا اللغة الارامية التي سادت آنذاك في هذا الجزء من العالم، خصوصاً كلغة للتجارة العالمية . وكتب سترابو ، العالم الذي عاش في القرن الاول قبل الميلاد ، يصف حياة الانباط الاجتماعية مادحاً إياهم لعدم وجود عبيد لديهم ولانتقاء الرقيق في مجتمعهم . ووصفهم بأنهم ديمقراطيون .ظهر إسم الانباط لأول مرة في التاريخ في تدوين أشوري يرجع تاريخه الى سنة 650 قبل الميلاد . وعندما إنهزم انتيجونس سنة 312 ق.م. احتفظ الانباط باستقلالهم رغم الدسائس والغزوات المتكررة التي تعرضوا لها على ايدي السلوقيين والبطالسة والمكابيين . لكن ، في عهد الامبراطور الروماني تراجان ، نراهم يعتمدون على روما سياسياً ، مع احتفاظهم باستقلال داخلي . وكان الرومان يحافظون على علاقتهم الطيبة مع الانباط طالما هذه السياسة خدمت مصالحهم . فوجود هؤلاء الانباط على حدود امبراطوريتهم الجنوبية كان رادعاً ضد غزوات القبائل الصحراوية . وبقيت الحال على هذا المنوال حتى سنة 106 بعد الميلاد عندما أصبحت البتراء جزءاً من ” المقاطعة العربية ” التابعة لسلطة روما .
صمدت البتراء رغم مكائد اعداء الانباط وهجوم الجيوش الجرارة لتموت موتاً مؤلماً على يد ابنائها أنفسهم . فالتقلبات السياسية الداخلية حولت القوافل نحو طرق جديدة أكثر أماناً من الطرق القديمة ، فهجر سكان البتراء مدينتهم الجميلة وقطنوا مدناً يافعة وغنية بحركتها التجارية مثل جرش الخضراء او كناتا ( قنوات ) المقدسة وبصرى اسكي الشام ذات الحجارة السوداء او تدمر ملكة الصحراء .جاء النساك والرهبان المسيحيون الاوائل الى المدينة وعاشوا في كهوفها وصلوا في ديرها . وما زلنا نرى حتى اليوم ، في جزء كبير من بقايا المدينة ، اشارات الصليب محفورة على ابواب البيوت ، ذكرى لتلك الفترة . ونرى كذلك أكبر تسجيل باللغة اليونانية داخل قبر على حائط صخري كتب باللون الاحمر الغامق يعلن تحويل هذا المكان من معبد وثني الى كنيسة مسيحية على يد الكاهن جايسون سنة 477 ميلادية . وعندما وصل الصليبيون الى البتراء كانت المدينة خاوية تقريباً ، فشادوا فيها قلعتين . وعند انهزامهم ، جاءها السلطان بربر سنة 1265 ميلادية وصعد نحو قلعة الصليبيين فوجدها منيعة وقوية وذات هندسة فريدة.بعد هذا التاريخ أصبحت ايام البتراء محدودة . فعندما وصلها السلطان محمد ورمم البناء فوق قبر هارون ، شقيق النبي موسى ، سنة 1361 ميلادية ، إختفت البتراء تدريجياً من مسرح التاريخ . فهجرها أهلها تماماُ وأصبحت وكأنها لم تكن . وخيم سكون موحش فوق بيوتها ومعابدها ومدرجها وأصبحت اسطورة تتناقلها الالسن ، قصة غريبة عن مدينة اختفت في طيات التاريخ واختفى اسمها واندثرت اكثر معالمها ونسيها الناس.مرت السنون والبتراء منسية مهجورة ، يصفر الهواء بفراغها وينبت العشب حيث يشاء في أرضها .تناقلت احاديث بدو الصحراء من حول مواقدهم اساطير نصف خرافية ، ذكروا فيها صخرة هائلة الحجم وكأنها جبل ، في قلبها معابد سحرية بناها من هم فوق طاقة البشر! . وذكروا وادياً صحراوياً عميقاً حفرته الجن حيث خبأت كنوزها واحجارها الكريمة وراء امواج من الألوان . وذكروا مدينة مائتة حيث لا يوجد اموات في قبورها . وذكروا قبائل شديدة الحساسية تمنع الغرباء من تدنيس مزاراتهم المقدسة ! . وذكروا الكثير الكثير .
سمعهم أجنبي ، رحالة من جبال سويسرا ، أنصت واجماً يفكر . وبعد ان تعلم العربية وأصبح وكأنه أحد أبنائها ، لبس ثوب بدوي وحمل عنزة سوداء فوق كتفه وصعد في سنة 1812 نحو المسجد القديم فوق قبر هارون ، شقيق موسى ، وقدم عنزته السوداء ضحية فوق أعلى قمة من جبال اروم . ومع كل خطوة خطاها هذا الرحالة ، واسمه بوركاهارت ، كانت اسرار البتراء تتكشف له وللعالم من ورائه . فاذا بها تحفة نادرة من الجمال والروعة ، تتمازج الألون المتناسقة في صخورها وكأنها قطعة فنية رسمتها يد فنان عظيم . فهناك الخطوط الحمراء والصفراء والخضراء والبيضاء والزرقاء ، حتى السوداء ، تتشابك وتتزاوج ثم تتماوج وكأنها امواج بحار تتلاطم برفق .الحقيقة ان حركات الارض الجوفية ، في ما قبل التاريخ ، رفعت من قاع بحر عميق ما أصبح من بعد قمة جبل صخري . ووقف البحر تموجه وجمد كل شيء لتبقي منذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا الصخور الرملية الملونة التي نراها اليوم وكأنها ما تزال في قاع البحور.تبعت خطوات دليلي ودخلت البتراء . مدخل البتراء غريب ، ليس له مثيل في العالم . دعوه “السيخ” ، وهوشق ضيق متعرج في قلب صخر مرتفع بين مئتين وثلاثتمئة قدم . يضيق السيخ ويتسع بحسب تعرجات الصخور الملونة . ولكل منعطف لون ، ولكل منحنى جمال!.تقول اسطورة قديمة إن النبي موسى شق السيخ بعصاه السحرية . إلا ان الحقيقة بعيدة كل البعد عن الاسطورة . كان المدخل منذ الفي سنة مبلطاً ، تجري على جانبه الأيمن قناة ماء تجلب البركة من نبع موسى الشهير . لكن فياضانات سنين عديدة تركت طبقات كثيرة من الحصى الاملس الصغير يتقعقع كلما لمسته حافر حصان .فجأة يضيق السيخ في احدى منعطفاته المظلمة . ومن بين صخورها الجبارة لمحت واجهة هيكل زهرية اللون، متناسقة التقاطع ، جميلة التكوين ، هائلة الحجم ، صامتة صمت الموت . هذه خزنة فرعون المصري، أجمل أثر من العالم القديم يحتفظ بكيانه حتى يومنا هذا . ترتفع واجهة الخزانة 130 قدماً . حفرت كلها على واجهة جبل من صخر واحد ، ونحتت في هذا الموضع خصيصاً لتأثيرها على كل من يراها.بقي سحر الخزانة الى اليوم . اللهم الا انه سحر زاد جمالاً بمرور الايام . ولعبت الاسطورة دورها في تاريخ الخزنة فجاءها من صدق قصتها ، ومن طلب الغنى المفاجئ ، رافعاً بندقيته ومصوباً فوهتها نحو قمتها المتوجة بصخرة مدورة كجرة . أصابت نيران البندقية الصخرة فشوهت هيكلها . إلا ان الخزنة بقيت سليمة ، رغم ادعاء الاسطورة بأن الفراعنة خبأوا كنوزهم في داخلها .يتابع السيخ تعرجاته بين قبور صخرية ومغاور عالية الى ان تظهر البتراء بكامل جمالها : مدينة أطلال داخل واد صخري مستدير . نمت المدينة حول المرتفعات ، هيكلاً قرب هيكل ، وبيتاً قرب بيت ، واشتهر الانباط بمقدرة مهندسيهم ودقة تصاميمهم . فقد جمعوا مياه الامطار في شبكة مجارير نحتت في الصخر . وكان المهندس ينحت الهياكل ، بدأ من أعلى وتدرجاً الى أسفل ، عكس طريقة البناء في يومنا هذا . اما البيوت القليلة فزينت بنحوت داخلية وكذلك الهياكل . اما من الخارج فألوان الصخور تكفيها زينة وجمالاً . ولا ريب ان واجهات مباني البتراء هي حقاً مفخرة من مفاخر الفن العربي القديم .يقال ان هيكل ” قبر القصر ” هو أجمل آثار البتراء لتشابه واجهته بقصور اباطرة روما . وهذا الهيكل مؤلف من ثلاث طبقات لها اربعة أبواب تقود كل منها الزائر الى غرفة فسيحة منفصلة عن غيرها . وبالقرب من هذا النصب يوجد ضريحان جميلا التصميم والبناء ، اشتهر احدهما باسم ” قوس قزح ” لروعة الوان صخره .حفر الاقدمون على رأس كل جبل صخوراً وشادوا المذابح لعبادة آلهتهم . معالم الطرق القديمة اختفت الآن تماماً ، والدروب الجبلية الصخرية أصبحت الآن صعبة المسلك . وكل طرقات البتراء إما تصعد الجبال واما تحازي الاوية . كلها مضنكة ، لكنها شيقة في آن معاً .قادتني طريق ملونة جميلة نحو الدير ، وهو عبارة عن نصب هائل الحجم يشبه الخزنة كثيراً ، الا ان شكله أشد خشونة وحفره أقل تناسقاً . صعدت نحو القمة المرتفعة الى علو 138 قدماً ووقفت أتأمل جمال الطبيعة من حولي . فاذا بذكريات التاريخ تختلط بجمال الطبيعة فتضفي عليها رونقاً فاتناً . وتظهر في نهاية الأفق ، في الشمال البعيد ، زرقة البحر الميت وتعرجات نهر الاردن ، وتمتد شبه الجزيرة العربية بصحاريها ومدنها وتاريخها ، وغرباً لسعت ألسنة الشمس المحرقة وادي عربا العميق فكحلته ببريق الذهب ، وامتدت شبه جزيرة سيناء الى الأفق الغربي .أما في الشرق …في الشرق البتراء ، المدينة المهجورة ، وحيدة ، صامتة ، نسيها التاريخ وظلمها أهلها . حيكت حولها الاساطير فزادتها جمالاً ورونقاً ، فاذا بالخيال يطوف فوق اطلالها منعشاً الحياة فيها ، واذا بالاساطير وحقائق التاريخ تتشابك وتتداخل ، واذا بروعة الماضي وطموح الحاضر يزيدان من حسن آثارها ، آثار المدينة الفخورة التي لعبت دورها الكبير على مسرح التاريخ العالمي ، ثم انزوت في قلب واديها الصخري ، حيث تتداخل الالوان وكأنها الوان رمال قاع بحر وجد من قبل التاريخ وتماوجت لآخر مرة ثم ارتفعت لتزين البتراء بحلية صاغها الخالق جمالاً وحسناً وبهاء .
نشر المقال في آب / أغسطس 1961 ، العدد العاشر ، الرائد العربي
منذ الآف السنين ، وتحت أشعة الشمس المحرقة ، تقدمت قوافل العرب متجهة نحو البتراء ، عاصمة الانباط. قوافل كثيرة وكبيرة ، منها ما خرج من اليمن او من بلاد سبأ ، ومنها ما جاء من غربي القارة الأفربقبة او من أقصى شرق الكرة الارضية ، متجهة كلها نحو البتراء ، جالبة معها خيرات العالم القديم ونوادر الماضي وكنوز الشرق من ذهب وفضة ونحاس واحجار كريمة وعطر وطيب وحرائر.كانت البتراء في ذلك الوقت مدينة الانباط وعاصمة لامبراطورية تجارية وصلت حدودها حتى الفرات ، وصكت نقودها في مدينة دمشق ، وبنت سفنها في موانيء البحر الاحمر .يبقى تاريخ الانباط قبل هذا الوقت غامضاً ومبهماً ، رغم ما قام به الباحثون والمنقبون من بحث وتنقيب . وكل ما هو معروف عنهم آنذاك أنهم قوم عاشوا على الغزوات الفردية ، يستولون على خيرات القوافل ويعيشون في بحبوحة محدودة حتى تطل قوافل جديدة .مع مرور الوقت إنقلب الانباط من غزاة الى دولة مسالمة بعدما أيقنوا ان مغانم الغزو محدودة وان السلام والامان يجلبان الثروة والقوة والجاه . فنراهم بدأو من عام 312 قبل الميلاد حتى سنة 106 ميلادية يحشدون الجيوش ليضمنوا السلام لربوعهم وديارهم . وهكذا بدأ عهد جديد في تاريخ الانباط . فاستقبلوا بسلام وامان القوافل المحملة وانتعش اقتصادهم ونشطت حركتهم التجارية ، واذا بالبتراء تصبح عاصمة لامبراطورية مهمة ، لعبت دوراَ كبيراً في الحياة الاقتصادية والسياسية لعالم ذلك الزمان . وظهرت للانباط ، بفضل سياستهم الجديدة ، مستعمرات على شواطىء ايطاليا وبلدان البحر الابيض المتوسط ، ووصلت قوافلهم الى أقاصي الأرض .كانت العربية لغة الانباط الأصلية . إلا انهم اقتبسوا اللغة الارامية التي سادت آنذاك في هذا الجزء من العالم، خصوصاً كلغة للتجارة العالمية . وكتب سترابو ، العالم الذي عاش في القرن الاول قبل الميلاد ، يصف حياة الانباط الاجتماعية مادحاً إياهم لعدم وجود عبيد لديهم ولانتقاء الرقيق في مجتمعهم . ووصفهم بأنهم ديمقراطيون .ظهر إسم الانباط لأول مرة في التاريخ في تدوين أشوري يرجع تاريخه الى سنة 650 قبل الميلاد . وعندما إنهزم انتيجونس سنة 312 ق.م. احتفظ الانباط باستقلالهم رغم الدسائس والغزوات المتكررة التي تعرضوا لها على ايدي السلوقيين والبطالسة والمكابيين . لكن ، في عهد الامبراطور الروماني تراجان ، نراهم يعتمدون على روما سياسياً ، مع احتفاظهم باستقلال داخلي . وكان الرومان يحافظون على علاقتهم الطيبة مع الانباط طالما هذه السياسة خدمت مصالحهم . فوجود هؤلاء الانباط على حدود امبراطوريتهم الجنوبية كان رادعاً ضد غزوات القبائل الصحراوية . وبقيت الحال على هذا المنوال حتى سنة 106 بعد الميلاد عندما أصبحت البتراء جزءاً من ” المقاطعة العربية ” التابعة لسلطة روما .
صمدت البتراء رغم مكائد اعداء الانباط وهجوم الجيوش الجرارة لتموت موتاً مؤلماً على يد ابنائها أنفسهم . فالتقلبات السياسية الداخلية حولت القوافل نحو طرق جديدة أكثر أماناً من الطرق القديمة ، فهجر سكان البتراء مدينتهم الجميلة وقطنوا مدناً يافعة وغنية بحركتها التجارية مثل جرش الخضراء او كناتا ( قنوات ) المقدسة وبصرى اسكي الشام ذات الحجارة السوداء او تدمر ملكة الصحراء .جاء النساك والرهبان المسيحيون الاوائل الى المدينة وعاشوا في كهوفها وصلوا في ديرها . وما زلنا نرى حتى اليوم ، في جزء كبير من بقايا المدينة ، اشارات الصليب محفورة على ابواب البيوت ، ذكرى لتلك الفترة . ونرى كذلك أكبر تسجيل باللغة اليونانية داخل قبر على حائط صخري كتب باللون الاحمر الغامق يعلن تحويل هذا المكان من معبد وثني الى كنيسة مسيحية على يد الكاهن جايسون سنة 477 ميلادية . وعندما وصل الصليبيون الى البتراء كانت المدينة خاوية تقريباً ، فشادوا فيها قلعتين . وعند انهزامهم ، جاءها السلطان بربر سنة 1265 ميلادية وصعد نحو قلعة الصليبيين فوجدها منيعة وقوية وذات هندسة فريدة.بعد هذا التاريخ أصبحت ايام البتراء محدودة . فعندما وصلها السلطان محمد ورمم البناء فوق قبر هارون ، شقيق النبي موسى ، سنة 1361 ميلادية ، إختفت البتراء تدريجياً من مسرح التاريخ . فهجرها أهلها تماماُ وأصبحت وكأنها لم تكن . وخيم سكون موحش فوق بيوتها ومعابدها ومدرجها وأصبحت اسطورة تتناقلها الالسن ، قصة غريبة عن مدينة اختفت في طيات التاريخ واختفى اسمها واندثرت اكثر معالمها ونسيها الناس.مرت السنون والبتراء منسية مهجورة ، يصفر الهواء بفراغها وينبت العشب حيث يشاء في أرضها .تناقلت احاديث بدو الصحراء من حول مواقدهم اساطير نصف خرافية ، ذكروا فيها صخرة هائلة الحجم وكأنها جبل ، في قلبها معابد سحرية بناها من هم فوق طاقة البشر! . وذكروا وادياً صحراوياً عميقاً حفرته الجن حيث خبأت كنوزها واحجارها الكريمة وراء امواج من الألوان . وذكروا مدينة مائتة حيث لا يوجد اموات في قبورها . وذكروا قبائل شديدة الحساسية تمنع الغرباء من تدنيس مزاراتهم المقدسة ! . وذكروا الكثير الكثير .
سمعهم أجنبي ، رحالة من جبال سويسرا ، أنصت واجماً يفكر . وبعد ان تعلم العربية وأصبح وكأنه أحد أبنائها ، لبس ثوب بدوي وحمل عنزة سوداء فوق كتفه وصعد في سنة 1812 نحو المسجد القديم فوق قبر هارون ، شقيق موسى ، وقدم عنزته السوداء ضحية فوق أعلى قمة من جبال اروم . ومع كل خطوة خطاها هذا الرحالة ، واسمه بوركاهارت ، كانت اسرار البتراء تتكشف له وللعالم من ورائه . فاذا بها تحفة نادرة من الجمال والروعة ، تتمازج الألون المتناسقة في صخورها وكأنها قطعة فنية رسمتها يد فنان عظيم . فهناك الخطوط الحمراء والصفراء والخضراء والبيضاء والزرقاء ، حتى السوداء ، تتشابك وتتزاوج ثم تتماوج وكأنها امواج بحار تتلاطم برفق .الحقيقة ان حركات الارض الجوفية ، في ما قبل التاريخ ، رفعت من قاع بحر عميق ما أصبح من بعد قمة جبل صخري . ووقف البحر تموجه وجمد كل شيء لتبقي منذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا الصخور الرملية الملونة التي نراها اليوم وكأنها ما تزال في قاع البحور.تبعت خطوات دليلي ودخلت البتراء . مدخل البتراء غريب ، ليس له مثيل في العالم . دعوه “السيخ” ، وهوشق ضيق متعرج في قلب صخر مرتفع بين مئتين وثلاثتمئة قدم . يضيق السيخ ويتسع بحسب تعرجات الصخور الملونة . ولكل منعطف لون ، ولكل منحنى جمال!.تقول اسطورة قديمة إن النبي موسى شق السيخ بعصاه السحرية . إلا ان الحقيقة بعيدة كل البعد عن الاسطورة . كان المدخل منذ الفي سنة مبلطاً ، تجري على جانبه الأيمن قناة ماء تجلب البركة من نبع موسى الشهير . لكن فياضانات سنين عديدة تركت طبقات كثيرة من الحصى الاملس الصغير يتقعقع كلما لمسته حافر حصان .فجأة يضيق السيخ في احدى منعطفاته المظلمة . ومن بين صخورها الجبارة لمحت واجهة هيكل زهرية اللون، متناسقة التقاطع ، جميلة التكوين ، هائلة الحجم ، صامتة صمت الموت . هذه خزنة فرعون المصري، أجمل أثر من العالم القديم يحتفظ بكيانه حتى يومنا هذا . ترتفع واجهة الخزانة 130 قدماً . حفرت كلها على واجهة جبل من صخر واحد ، ونحتت في هذا الموضع خصيصاً لتأثيرها على كل من يراها.بقي سحر الخزانة الى اليوم . اللهم الا انه سحر زاد جمالاً بمرور الايام . ولعبت الاسطورة دورها في تاريخ الخزنة فجاءها من صدق قصتها ، ومن طلب الغنى المفاجئ ، رافعاً بندقيته ومصوباً فوهتها نحو قمتها المتوجة بصخرة مدورة كجرة . أصابت نيران البندقية الصخرة فشوهت هيكلها . إلا ان الخزنة بقيت سليمة ، رغم ادعاء الاسطورة بأن الفراعنة خبأوا كنوزهم في داخلها .يتابع السيخ تعرجاته بين قبور صخرية ومغاور عالية الى ان تظهر البتراء بكامل جمالها : مدينة أطلال داخل واد صخري مستدير . نمت المدينة حول المرتفعات ، هيكلاً قرب هيكل ، وبيتاً قرب بيت ، واشتهر الانباط بمقدرة مهندسيهم ودقة تصاميمهم . فقد جمعوا مياه الامطار في شبكة مجارير نحتت في الصخر . وكان المهندس ينحت الهياكل ، بدأ من أعلى وتدرجاً الى أسفل ، عكس طريقة البناء في يومنا هذا . اما البيوت القليلة فزينت بنحوت داخلية وكذلك الهياكل . اما من الخارج فألوان الصخور تكفيها زينة وجمالاً . ولا ريب ان واجهات مباني البتراء هي حقاً مفخرة من مفاخر الفن العربي القديم .يقال ان هيكل ” قبر القصر ” هو أجمل آثار البتراء لتشابه واجهته بقصور اباطرة روما . وهذا الهيكل مؤلف من ثلاث طبقات لها اربعة أبواب تقود كل منها الزائر الى غرفة فسيحة منفصلة عن غيرها . وبالقرب من هذا النصب يوجد ضريحان جميلا التصميم والبناء ، اشتهر احدهما باسم ” قوس قزح ” لروعة الوان صخره .حفر الاقدمون على رأس كل جبل صخوراً وشادوا المذابح لعبادة آلهتهم . معالم الطرق القديمة اختفت الآن تماماً ، والدروب الجبلية الصخرية أصبحت الآن صعبة المسلك . وكل طرقات البتراء إما تصعد الجبال واما تحازي الاوية . كلها مضنكة ، لكنها شيقة في آن معاً .قادتني طريق ملونة جميلة نحو الدير ، وهو عبارة عن نصب هائل الحجم يشبه الخزنة كثيراً ، الا ان شكله أشد خشونة وحفره أقل تناسقاً . صعدت نحو القمة المرتفعة الى علو 138 قدماً ووقفت أتأمل جمال الطبيعة من حولي . فاذا بذكريات التاريخ تختلط بجمال الطبيعة فتضفي عليها رونقاً فاتناً . وتظهر في نهاية الأفق ، في الشمال البعيد ، زرقة البحر الميت وتعرجات نهر الاردن ، وتمتد شبه الجزيرة العربية بصحاريها ومدنها وتاريخها ، وغرباً لسعت ألسنة الشمس المحرقة وادي عربا العميق فكحلته ببريق الذهب ، وامتدت شبه جزيرة سيناء الى الأفق الغربي .أما في الشرق …في الشرق البتراء ، المدينة المهجورة ، وحيدة ، صامتة ، نسيها التاريخ وظلمها أهلها . حيكت حولها الاساطير فزادتها جمالاً ورونقاً ، فاذا بالخيال يطوف فوق اطلالها منعشاً الحياة فيها ، واذا بالاساطير وحقائق التاريخ تتشابك وتتداخل ، واذا بروعة الماضي وطموح الحاضر يزيدان من حسن آثارها ، آثار المدينة الفخورة التي لعبت دورها الكبير على مسرح التاريخ العالمي ، ثم انزوت في قلب واديها الصخري ، حيث تتداخل الالوان وكأنها الوان رمال قاع بحر وجد من قبل التاريخ وتماوجت لآخر مرة ثم ارتفعت لتزين البتراء بحلية صاغها الخالق جمالاً وحسناً وبهاء .