تمهيد :
في أثناء الفترة التي كانت فيها دولة تدمر تتوارى في الظلام بعيدا عن المسرح السياسي والحضاري ، كان بدو شبه الجزيرة العربية يمتلؤن بقوة جديدة فالظروف الاقتصادية التي أحاطت باليمن ، من انهيار سد مأرب ، ثم حدوث سيل العرم ، وغيره من أحداث ، أدت إلى اضمحلال دولة حمير اليمنية ، كل ذلك وغيره كان سببا في أن تهاجر قبائل بأسرها من جنوب بلاد العرب إلى شمالها ، بحثا عن أرض جديدة.
وكانت النتيجة الأخيرة لهذه الحركة أن ذاق الفرس والروم مر العذاب من هجرة الأعراب وغزواتهم فانشئوا على أطراف الصحراء الحصون ومدوا الطرق العسكرية ليأمنوا غارات قبائل البدو ، وليسهلوا طرق التجارة ، واتخذ الفرس قبائل من العرب عرفوا باللخمنيين أو المناذرة ، كما اتخذ الرومان أولاً قبائل من بني سليح ، ثم قبائل من بني غسان أعوانا لهم .
حضارة الغساسنة
كانت ديار غسان ، كما نستنتج من أشعار العرب تمتد ما بين الجولان واليرموك ، وكانوا يقيمون بالقرب من دمشق في موضع على نهر بردى يعرف بجلق ، وكانت الجولان قاعدة لملك الغساسنة ومعسكرا لهم في بلاد الشام.
وكانت للغساسنة حضارة مزدهرة متأثرة إلى حد كبير بالحضارتين الساسانية والبيزنطية ، وحضارتهم على هذا النحو تتفق مع الحضارة الأموية التي أخذت أصولها من الحضارتين الساسانية والبيزنطية أيضاً .
وقد أشتغل الغساسنة بالزراعة ، فاستغلوا مياه حوران التي تتدفق من أعلى الجبال في الزراعة ، فعمرت القرى والضياع وعدد حسان من بينها ثلاثين قرية . غير أن اهتمام أمراء غسان بالبنيان كان أعظم .
ونستدل من بقايا آثار الغساسنة في الشام على أن فنهم كان أكثر تأثراً بالفنون الساسانية منها بالفنون البيزنطية .
مملكة الغساسنة :
جاءت عقب البتراء وتدمر دولتان جديدتان على أطراف الصحراء ففي القرن الخامس والسادس الميلادي ، ازدهرت حول دمشق مملكة الغساسنة ، وفي نفس الوقت ازدهرت دويلة اللخمنيين في الحيرة بالقرب من ضفاف الفرات وكانت هاتان الدولتان تابعتين لإمبراطوريتي بيزنطة وفارس - وكانتا بمثابة مركزي حراسة لهما على حدود الصحراء ، وقد نتج عن هذه السياسة التي سارت عليها الإمبراطوريتان القديمتان دوام الحرب بين دولتي المناذرة و الغساسنة - وهما أبناء عم ومن دم واحد - ولكنهما اضمحلتا واختلفتا قبيل الفتح الإسلامي العظيم ، تاركتين الإمبراطوريتين وجها لوجه مع الهداة الجدد ، حملة لواء الإسلام ، وهداية القرآن وسنة المصطفى - صلوات الله وسلامه عليه- .
وهكذا قامت دولة الغساسنة للروم ، مقابل دولة المناذرة للفرس بمعنى أنها كانت دولة حاجزة اتخذ منها الروم مجنايقيهم شر هجمات البدو عليهم من أطراف الصحراء من جهة وليثيروهم من جهة أخرى ، هذا أن المناذرة أنما كانوا يجمعون الضرائب من القبائل العربية القريبة منهم ، ويقدمونها للفرس كما كان الغساسنة يجمعون مثل هذه الضرائب للروم .
تاريخ الغساسنة :
إن تاريخ دولة الغساسنة غامض لقلة المصادر و لامتزاج الحقائق فيه بالأساطير ، ولضياع معظم آثار بني غسان ، وان المؤرخين يختلفون في عدد الملوك وأسمائهم ، ولعل السبب في هذا الاختلاف أنما هو اختلاط أخبار آل غسان بالقبائل العربية التي سبقتهم إلى سورية أضف إلى ذلك أن هذا الاختلاط أو الخلاف بين مؤرخي العرب على عدد ملوك آل غسان ، إنما هو دليل على ما يحيط بأسرة "آل جفنة"من غموض ، وفي الواقع أن تاريخ الأسرة بكاملة غامض ، حتى أصل الأسرة نفسها .
فالمؤرخون العرب يرون أن الغساسنة - وكذا المناذرة – أنما هم من عرب الجنوب .وأما الغساسنة ، فقد استقروا في نواحي الجنوب الشرقي من دمشق ، على مقربة من الطرف الشمالي لطريق النقل الهام الذي كان يربط بين "مأرب"في الجنوب ، "ودمشق" في الشمال ، فما أن يمضي حين من الدهر على هجرة الغساسنة إلى الشام ، حتى تبدأ الخلافات بينهم وبين الضجاعمة وينتهي الأمر بغلبة بني غسان على بني سليح .
ويروي الإخباريون أن الغساسنة أنما يسمون بعدة أسماء منها "أزد" أنما هو اسم قبيلة ، وأما "غسان "فهو اسم ماء في تهامة نزل القوم عليه وشربوا منه ، ومن ثم فقد عرفوا بأزد غسان ، وعرف نسلهم بالغساسنة ، ويسمون كذلك " آل ثعلبة " نسبة إلى جد لهم يعرف باسم "ثعلبة ابن مازن" كما يسمون كذلك "آل جفنه" "أولاد جفنه" ، لأن أول ملوكهم أنما كان يسمى"جفنة بن عمرو مزيقياء" .
أما العاصمة السياسية لآل جفنة فيبدو أنها كانت في البدء مخيما متنقلا ، ثم استقرت بعد ذلك في "الجابية" في منطقة الجولان جنوب غربي دمشق .
وعلى أي حال ، فليس هناك من دليل على أن الغساسنة ، قد ملكوا المدن الكبيرة في الشام كتدمر وبصري ودمشق ، إذ أنها كانت محصنة ، تتمركز فيها الحملة البيزنطية ، ولكنهم كانوا يعتمدون على الصحراء ، إذا داهمهم الخطر .
أصل الغساسنة والظروف التي أدت إلى قيام دولتهم :
الغساسنة من أزد اليمن , نزحوا تحت قيادة زعيمهم عمرو بن عامر مزيقياء من جنوب الجزيرة العربية إلى بادية الشام قبل أو بعد حادثة سيل العرم وما سببه ذلك من تدهور نظم الزراعة وأعمال الري في اليمن. ويزعم نسابو العرب أن هؤلاء الأزد لم يرحلوا إلى الشام مباشرة و أنما أقاموا حينا من الوقت في تهامة بين بلاد الأشعريين وعك على ماء يقال له غسان فنسبوا إليه ، فالغساسنة ينتسبون أذن إلى آل عمرو المعروف بمزيقياء.
ويسمى الغساسنة أيضا بآل جفنه و بأولاد جفنه والى جفنه ينتسب أحد أمراء الغساسنة وهو الحارث الأول ابن ثعلبة بن عمرو الذي يسميه النابغة بالحارث الجفني وكان يسكن مشارف الشام قبل نزوح الأزد الغساسنة قوم يعرفون بالضجاعمة من قبائل بني سليح بن حلوان من قضاعة وقد غلبهم الغساسنة وحلوا محلهم .
ملوك الغساسنة :
الحارث بن جبلة أعظم أمراء الغساسنة:
وأول أمراء الغساسنة العظام الحارث بن جبلة بن الحارث الجفني(529-569) الذي ذكره المؤرخ السرياني ايونيس ملالاس على أنه كان عاملا للروم وتكاد المصادر العربية تجمع على أنه ابن امرأة تسمى ماريه ذات القرطين بنت عمرو بن جفنه أو بنت أرقم بن ثعلبة بن جفنة بن عمرو أو بنت ظالم ابن وهب بن معاوية بن ثور وهو كندة أو بنت الهانى من بني جفنة.
وفي سنة 541م اشترك الحارث في الحملة البيزنطية لمحاربة الفرس تحت قيادة بليزاريوس ، ولم يكد الحارث يعبر نهر دجلة حتى ارتد إلى مواقعه السابقة عن طريق أخر غير الطرق الذي سلكه معظم الجيش وفد أثار تصرفه هذا الشك في أخلاصة للروم ، ويبدو أن الحارث أنف من الاشتراك في حملة يقودها قائد بيزنطي وأنه كان يعمل على الإنفراد بالقيادة ولعله انسحب لمجرد حدوث خلاف بينه وبين قائد الحملة والأرجح أن انسحابه يرجع إلى أنفته من أن يكون تابعا لبليزاريوس بدليل أنه لم يكد يمضي على حملة بليزاريوس ثلاث سنوات حتى اشتبك الحارث في قتال عنيف مع المنذر بن النعمان المعروف بابن السماء في سنة 455م وانتهى القتال بهزيمة الحارث بن جبلة ووقع أحد أبنائه أسيرا في يد المنذر فقدمه ضحية للإلهة العزى .
ولم يسكت الحارث على تلك الهزيمة فجمع جموعه واشتبك من جديد مع المنذر في موقعة انتهت هذه المرة بهزيمة المنذر وفرارة من المعركة تاركا ولدين من أولادة أسيرين في أيدي الغساسنة .
ولم ينتهي الصراع بينهما إلا بعد أن قتل المنذر ملك الحيرة نفسه في موقعة دارت بينه وبين خصمه الحارث بالقرب من قنسرين في سنة 554م ، وفيها سقط أحد أبناء الحارث ويدعي جبلة قتيلاً ، ولعل هذه المعركة هي التي عرفت في أخبار العرب ب"يوم حليمة” ذلك لان حليمة بنت الحارث هذه- طبقا للرواية العربية- كانت تحرض الرجال على القتال، أو لان أباها قد أعلن أنها سوف تكون زوجة لمن يقتل المنذر ، أو لأنها كانت قد أقبلت على مائة من المحاربين تطيب أجسامهم وتلبسهم الاكفان والدروع. وعلى أي حال ، فهناك ما يشير إلى أن الحارث قد اعتنق النصرانية على المذهب المونوفيزيتي" القائل بوجود طبيعة واحدة للسيد المسيح ، وليس طبيعيتين –الواحدة ألهيه ، والأخرى بشرية.
ومهما يكن من أمر ، فلقد وصلت دولة الغساسنة وقت ذاك إلى ذروة اتساعها ، فقد كانت تمتد من قرب البتراء إلى الرصافة شمالي تدمر ، وأصبحت "بصري" التي بنيت"كاتدرائيتها"في عام 512م العاصمة الدينية في المنطقة ، فضلا عن شهرتها كمركز تجاري هام .
زيارة الحارث للقسطنطينية :
وفي عام 563م زار الحارث جستنيان في القسطنطينية فترك أثرا عميقا في نفوس رجال البلاط الإمبراطوري كشيخ عربي مهيب ، وان لم يقابل بما يجب أن يقابل به الأبطال من مظاهر الحفاوة والتكريم ، بسبب الاختلافات المذهبية ولعل السبب في هذه الزيارة ، أنما كان مفاوضة الرومان فيما يخلفه من أولاده ، فضلا عن الاتفاق على السياسة التي يجب اتخاذها ايزاء "عمرو بن المنذر" .
وتوفي الحارث بن جبلة الذي يقال له أيضا الحارث بن أبي شمر في آخر سنة569م أو أول عام 570م بعد أن قضى في أمارته أطول مدة في عهود أمراء الغساسنة وهي أربعون عاما .
المنذر الغساني ( المنذر الأكبر )
بعد وفاة الحارث انتقلت الأمارة إلى أبنه المنذر ، وما أن يمضي حين من الدهر ، حتى تبدأ العلاقات بين الروم وآل جفنه تتلبد بالغيوم ، ربما بسبب الخلافات المذهبية بين الفريقين وتعصب المنذر الغساني للمذهب المونوفيزيتي ، وآياً ما كان السبب فان الإمبراطور " جستين الثاني" 565-578ام. بدأ يرتاب في ولاء المنذر السياسي ، ومن ثما فقد قرر التخلص منه عن طريق البطريق "مرقيانوس“إلا أن المنذر – على ما يبدو – لم يكن غافلا عما يدور حوله ، أو أن حامل الرسالة إلى" مرقيانوس" قد اخطأ صاحبها فسلمها إلى المنذر بدلا من البطريق ، وهكذا فر المنذر إلى البادية وتحصن بها ، بل أن هناك من يذهب إلى أنه قد انتهز الفرصة فصالح أعداءه التقليديين (ملوك الحيرة) ، وقد أدى هذا الوضع الجديد إلى أن يشن اللخمنيون بمفردهم- أو بالاشتراك مع المنذر – الغارات على سورية ، وان يعيثوا فيها الفساد .
زيارة المنذر للقسطنطينية :
ويضطر الإمبراطور الروماني في عام 578م ، إلى عقد صلح مع المنذر في الرصافة ، وهناك ما يشير إلى أن ملك غسان قد قام بعدة إصلاحات في الرصافة ، كما بنى أو جدد كنيستها ، كما قام في عام 580م ، بزيارة القسطنطينية ، حيث استقبله"طيباريوس" الثاني (578-582)م استقبالا حافلا ، فضلا عن الإنعام عليه بالهدايا وعلى والديه برتب عسكرية.
العلاقات بين المنذر والروم
سرعان ما بدأت تسوء من جديد ، وربما كان السبب هذه المرة فشل المحاولة التي قام بها الروم لغزو الفرس ، بسبب هدم الجسر المنصوب على الفرات ، واتهام المنذر بالخيانة علي الرغم من قيام المنذر بمهاجمة الحيرة وإحراقها لنفي هذه التهمة عنه ، ودبر له الرومان مكيدة عن طريق ماجنوس حاكم سورية صديق المنذر الذى دعاه لحضور حفل افتتاح كنيسة قد أقامها ماجنوس حيث قام بالقبض عليه بأوامر من الإمبراطور البيزنطي وتم إرساله إلى القسطنطينية مع أبنين له ، ولم يلبث طيباريوس أن توفي وخلفه موريق عدو المنذر اللدود ، فأمر بنفي المنذر إلي جزيرة صقلية ، كما أمر بقطع المعونة السنوية التي كانت تقدمها الدولة البيزنطية لأسرة الغساسنة .
النعمان بن المنذر :
وقد أدى هذا التصرف من جانب البيزنطيين إلى ثورة أبناء المنذر واخذوا يهاجمون حدود الروم بقيادة " النعمان " الذي خدع حوالي عام 584م- كما خدع أبوه من قبل – فأرسل إلى القسطنطينية ، وهكذا تصدع ملك الغساسنة وانقسم أمراؤهم شيعا وأحزابا وحاول الروم أن يجدوا لهم بديلا في القبائل العربية لإعادة الأمن وحماية الحدود من عرب الحيرة ، ولكن دون جدوى.
جبلة بن الايهم :
تنظر الروايات العربية إلى "جبلة بن الايهم" على أنه آخر ملوك الغساسنة وأنه قد حارب المسلمين في جانب الروم في موقعة اليرموك عام 636م ، على أن رواية أخرى أنما تذهب إلى أن جبلة قد مر في سوق دمشق فأوطأ رجلا فرسه ، فوثب الرجل فلطمه ، فأخذه الغسانيون فأدخلوه على " أبي عبيدة بن الجراح " الذي حكم بالقصاص وكان جبلة يريد أن يقتل الرجل أو تقطع يده ، فرفض أبو عبيدة ، إلا الحكم بالبينة ( أن كان لطمك لطمته ) فخرج جبلة إلى بلاد الروم وارتد فهناك رواية ثالثة تذهب إلى أن جبلة لم يدخل في الإسلام أبداً.
في أثناء الفترة التي كانت فيها دولة تدمر تتوارى في الظلام بعيدا عن المسرح السياسي والحضاري ، كان بدو شبه الجزيرة العربية يمتلؤن بقوة جديدة فالظروف الاقتصادية التي أحاطت باليمن ، من انهيار سد مأرب ، ثم حدوث سيل العرم ، وغيره من أحداث ، أدت إلى اضمحلال دولة حمير اليمنية ، كل ذلك وغيره كان سببا في أن تهاجر قبائل بأسرها من جنوب بلاد العرب إلى شمالها ، بحثا عن أرض جديدة.
وكانت النتيجة الأخيرة لهذه الحركة أن ذاق الفرس والروم مر العذاب من هجرة الأعراب وغزواتهم فانشئوا على أطراف الصحراء الحصون ومدوا الطرق العسكرية ليأمنوا غارات قبائل البدو ، وليسهلوا طرق التجارة ، واتخذ الفرس قبائل من العرب عرفوا باللخمنيين أو المناذرة ، كما اتخذ الرومان أولاً قبائل من بني سليح ، ثم قبائل من بني غسان أعوانا لهم .
حضارة الغساسنة
كانت ديار غسان ، كما نستنتج من أشعار العرب تمتد ما بين الجولان واليرموك ، وكانوا يقيمون بالقرب من دمشق في موضع على نهر بردى يعرف بجلق ، وكانت الجولان قاعدة لملك الغساسنة ومعسكرا لهم في بلاد الشام.
وكانت للغساسنة حضارة مزدهرة متأثرة إلى حد كبير بالحضارتين الساسانية والبيزنطية ، وحضارتهم على هذا النحو تتفق مع الحضارة الأموية التي أخذت أصولها من الحضارتين الساسانية والبيزنطية أيضاً .
وقد أشتغل الغساسنة بالزراعة ، فاستغلوا مياه حوران التي تتدفق من أعلى الجبال في الزراعة ، فعمرت القرى والضياع وعدد حسان من بينها ثلاثين قرية . غير أن اهتمام أمراء غسان بالبنيان كان أعظم .
ونستدل من بقايا آثار الغساسنة في الشام على أن فنهم كان أكثر تأثراً بالفنون الساسانية منها بالفنون البيزنطية .
مملكة الغساسنة :
جاءت عقب البتراء وتدمر دولتان جديدتان على أطراف الصحراء ففي القرن الخامس والسادس الميلادي ، ازدهرت حول دمشق مملكة الغساسنة ، وفي نفس الوقت ازدهرت دويلة اللخمنيين في الحيرة بالقرب من ضفاف الفرات وكانت هاتان الدولتان تابعتين لإمبراطوريتي بيزنطة وفارس - وكانتا بمثابة مركزي حراسة لهما على حدود الصحراء ، وقد نتج عن هذه السياسة التي سارت عليها الإمبراطوريتان القديمتان دوام الحرب بين دولتي المناذرة و الغساسنة - وهما أبناء عم ومن دم واحد - ولكنهما اضمحلتا واختلفتا قبيل الفتح الإسلامي العظيم ، تاركتين الإمبراطوريتين وجها لوجه مع الهداة الجدد ، حملة لواء الإسلام ، وهداية القرآن وسنة المصطفى - صلوات الله وسلامه عليه- .
وهكذا قامت دولة الغساسنة للروم ، مقابل دولة المناذرة للفرس بمعنى أنها كانت دولة حاجزة اتخذ منها الروم مجنايقيهم شر هجمات البدو عليهم من أطراف الصحراء من جهة وليثيروهم من جهة أخرى ، هذا أن المناذرة أنما كانوا يجمعون الضرائب من القبائل العربية القريبة منهم ، ويقدمونها للفرس كما كان الغساسنة يجمعون مثل هذه الضرائب للروم .
تاريخ الغساسنة :
إن تاريخ دولة الغساسنة غامض لقلة المصادر و لامتزاج الحقائق فيه بالأساطير ، ولضياع معظم آثار بني غسان ، وان المؤرخين يختلفون في عدد الملوك وأسمائهم ، ولعل السبب في هذا الاختلاف أنما هو اختلاط أخبار آل غسان بالقبائل العربية التي سبقتهم إلى سورية أضف إلى ذلك أن هذا الاختلاط أو الخلاف بين مؤرخي العرب على عدد ملوك آل غسان ، إنما هو دليل على ما يحيط بأسرة "آل جفنة"من غموض ، وفي الواقع أن تاريخ الأسرة بكاملة غامض ، حتى أصل الأسرة نفسها .
فالمؤرخون العرب يرون أن الغساسنة - وكذا المناذرة – أنما هم من عرب الجنوب .وأما الغساسنة ، فقد استقروا في نواحي الجنوب الشرقي من دمشق ، على مقربة من الطرف الشمالي لطريق النقل الهام الذي كان يربط بين "مأرب"في الجنوب ، "ودمشق" في الشمال ، فما أن يمضي حين من الدهر على هجرة الغساسنة إلى الشام ، حتى تبدأ الخلافات بينهم وبين الضجاعمة وينتهي الأمر بغلبة بني غسان على بني سليح .
ويروي الإخباريون أن الغساسنة أنما يسمون بعدة أسماء منها "أزد" أنما هو اسم قبيلة ، وأما "غسان "فهو اسم ماء في تهامة نزل القوم عليه وشربوا منه ، ومن ثم فقد عرفوا بأزد غسان ، وعرف نسلهم بالغساسنة ، ويسمون كذلك " آل ثعلبة " نسبة إلى جد لهم يعرف باسم "ثعلبة ابن مازن" كما يسمون كذلك "آل جفنه" "أولاد جفنه" ، لأن أول ملوكهم أنما كان يسمى"جفنة بن عمرو مزيقياء" .
أما العاصمة السياسية لآل جفنة فيبدو أنها كانت في البدء مخيما متنقلا ، ثم استقرت بعد ذلك في "الجابية" في منطقة الجولان جنوب غربي دمشق .
وعلى أي حال ، فليس هناك من دليل على أن الغساسنة ، قد ملكوا المدن الكبيرة في الشام كتدمر وبصري ودمشق ، إذ أنها كانت محصنة ، تتمركز فيها الحملة البيزنطية ، ولكنهم كانوا يعتمدون على الصحراء ، إذا داهمهم الخطر .
أصل الغساسنة والظروف التي أدت إلى قيام دولتهم :
الغساسنة من أزد اليمن , نزحوا تحت قيادة زعيمهم عمرو بن عامر مزيقياء من جنوب الجزيرة العربية إلى بادية الشام قبل أو بعد حادثة سيل العرم وما سببه ذلك من تدهور نظم الزراعة وأعمال الري في اليمن. ويزعم نسابو العرب أن هؤلاء الأزد لم يرحلوا إلى الشام مباشرة و أنما أقاموا حينا من الوقت في تهامة بين بلاد الأشعريين وعك على ماء يقال له غسان فنسبوا إليه ، فالغساسنة ينتسبون أذن إلى آل عمرو المعروف بمزيقياء.
ويسمى الغساسنة أيضا بآل جفنه و بأولاد جفنه والى جفنه ينتسب أحد أمراء الغساسنة وهو الحارث الأول ابن ثعلبة بن عمرو الذي يسميه النابغة بالحارث الجفني وكان يسكن مشارف الشام قبل نزوح الأزد الغساسنة قوم يعرفون بالضجاعمة من قبائل بني سليح بن حلوان من قضاعة وقد غلبهم الغساسنة وحلوا محلهم .
ملوك الغساسنة :
الحارث بن جبلة أعظم أمراء الغساسنة:
وأول أمراء الغساسنة العظام الحارث بن جبلة بن الحارث الجفني(529-569) الذي ذكره المؤرخ السرياني ايونيس ملالاس على أنه كان عاملا للروم وتكاد المصادر العربية تجمع على أنه ابن امرأة تسمى ماريه ذات القرطين بنت عمرو بن جفنه أو بنت أرقم بن ثعلبة بن جفنة بن عمرو أو بنت ظالم ابن وهب بن معاوية بن ثور وهو كندة أو بنت الهانى من بني جفنة.
وفي سنة 541م اشترك الحارث في الحملة البيزنطية لمحاربة الفرس تحت قيادة بليزاريوس ، ولم يكد الحارث يعبر نهر دجلة حتى ارتد إلى مواقعه السابقة عن طريق أخر غير الطرق الذي سلكه معظم الجيش وفد أثار تصرفه هذا الشك في أخلاصة للروم ، ويبدو أن الحارث أنف من الاشتراك في حملة يقودها قائد بيزنطي وأنه كان يعمل على الإنفراد بالقيادة ولعله انسحب لمجرد حدوث خلاف بينه وبين قائد الحملة والأرجح أن انسحابه يرجع إلى أنفته من أن يكون تابعا لبليزاريوس بدليل أنه لم يكد يمضي على حملة بليزاريوس ثلاث سنوات حتى اشتبك الحارث في قتال عنيف مع المنذر بن النعمان المعروف بابن السماء في سنة 455م وانتهى القتال بهزيمة الحارث بن جبلة ووقع أحد أبنائه أسيرا في يد المنذر فقدمه ضحية للإلهة العزى .
ولم يسكت الحارث على تلك الهزيمة فجمع جموعه واشتبك من جديد مع المنذر في موقعة انتهت هذه المرة بهزيمة المنذر وفرارة من المعركة تاركا ولدين من أولادة أسيرين في أيدي الغساسنة .
ولم ينتهي الصراع بينهما إلا بعد أن قتل المنذر ملك الحيرة نفسه في موقعة دارت بينه وبين خصمه الحارث بالقرب من قنسرين في سنة 554م ، وفيها سقط أحد أبناء الحارث ويدعي جبلة قتيلاً ، ولعل هذه المعركة هي التي عرفت في أخبار العرب ب"يوم حليمة” ذلك لان حليمة بنت الحارث هذه- طبقا للرواية العربية- كانت تحرض الرجال على القتال، أو لان أباها قد أعلن أنها سوف تكون زوجة لمن يقتل المنذر ، أو لأنها كانت قد أقبلت على مائة من المحاربين تطيب أجسامهم وتلبسهم الاكفان والدروع. وعلى أي حال ، فهناك ما يشير إلى أن الحارث قد اعتنق النصرانية على المذهب المونوفيزيتي" القائل بوجود طبيعة واحدة للسيد المسيح ، وليس طبيعيتين –الواحدة ألهيه ، والأخرى بشرية.
ومهما يكن من أمر ، فلقد وصلت دولة الغساسنة وقت ذاك إلى ذروة اتساعها ، فقد كانت تمتد من قرب البتراء إلى الرصافة شمالي تدمر ، وأصبحت "بصري" التي بنيت"كاتدرائيتها"في عام 512م العاصمة الدينية في المنطقة ، فضلا عن شهرتها كمركز تجاري هام .
زيارة الحارث للقسطنطينية :
وفي عام 563م زار الحارث جستنيان في القسطنطينية فترك أثرا عميقا في نفوس رجال البلاط الإمبراطوري كشيخ عربي مهيب ، وان لم يقابل بما يجب أن يقابل به الأبطال من مظاهر الحفاوة والتكريم ، بسبب الاختلافات المذهبية ولعل السبب في هذه الزيارة ، أنما كان مفاوضة الرومان فيما يخلفه من أولاده ، فضلا عن الاتفاق على السياسة التي يجب اتخاذها ايزاء "عمرو بن المنذر" .
وتوفي الحارث بن جبلة الذي يقال له أيضا الحارث بن أبي شمر في آخر سنة569م أو أول عام 570م بعد أن قضى في أمارته أطول مدة في عهود أمراء الغساسنة وهي أربعون عاما .
المنذر الغساني ( المنذر الأكبر )
بعد وفاة الحارث انتقلت الأمارة إلى أبنه المنذر ، وما أن يمضي حين من الدهر ، حتى تبدأ العلاقات بين الروم وآل جفنه تتلبد بالغيوم ، ربما بسبب الخلافات المذهبية بين الفريقين وتعصب المنذر الغساني للمذهب المونوفيزيتي ، وآياً ما كان السبب فان الإمبراطور " جستين الثاني" 565-578ام. بدأ يرتاب في ولاء المنذر السياسي ، ومن ثما فقد قرر التخلص منه عن طريق البطريق "مرقيانوس“إلا أن المنذر – على ما يبدو – لم يكن غافلا عما يدور حوله ، أو أن حامل الرسالة إلى" مرقيانوس" قد اخطأ صاحبها فسلمها إلى المنذر بدلا من البطريق ، وهكذا فر المنذر إلى البادية وتحصن بها ، بل أن هناك من يذهب إلى أنه قد انتهز الفرصة فصالح أعداءه التقليديين (ملوك الحيرة) ، وقد أدى هذا الوضع الجديد إلى أن يشن اللخمنيون بمفردهم- أو بالاشتراك مع المنذر – الغارات على سورية ، وان يعيثوا فيها الفساد .
زيارة المنذر للقسطنطينية :
ويضطر الإمبراطور الروماني في عام 578م ، إلى عقد صلح مع المنذر في الرصافة ، وهناك ما يشير إلى أن ملك غسان قد قام بعدة إصلاحات في الرصافة ، كما بنى أو جدد كنيستها ، كما قام في عام 580م ، بزيارة القسطنطينية ، حيث استقبله"طيباريوس" الثاني (578-582)م استقبالا حافلا ، فضلا عن الإنعام عليه بالهدايا وعلى والديه برتب عسكرية.
العلاقات بين المنذر والروم
سرعان ما بدأت تسوء من جديد ، وربما كان السبب هذه المرة فشل المحاولة التي قام بها الروم لغزو الفرس ، بسبب هدم الجسر المنصوب على الفرات ، واتهام المنذر بالخيانة علي الرغم من قيام المنذر بمهاجمة الحيرة وإحراقها لنفي هذه التهمة عنه ، ودبر له الرومان مكيدة عن طريق ماجنوس حاكم سورية صديق المنذر الذى دعاه لحضور حفل افتتاح كنيسة قد أقامها ماجنوس حيث قام بالقبض عليه بأوامر من الإمبراطور البيزنطي وتم إرساله إلى القسطنطينية مع أبنين له ، ولم يلبث طيباريوس أن توفي وخلفه موريق عدو المنذر اللدود ، فأمر بنفي المنذر إلي جزيرة صقلية ، كما أمر بقطع المعونة السنوية التي كانت تقدمها الدولة البيزنطية لأسرة الغساسنة .
النعمان بن المنذر :
وقد أدى هذا التصرف من جانب البيزنطيين إلى ثورة أبناء المنذر واخذوا يهاجمون حدود الروم بقيادة " النعمان " الذي خدع حوالي عام 584م- كما خدع أبوه من قبل – فأرسل إلى القسطنطينية ، وهكذا تصدع ملك الغساسنة وانقسم أمراؤهم شيعا وأحزابا وحاول الروم أن يجدوا لهم بديلا في القبائل العربية لإعادة الأمن وحماية الحدود من عرب الحيرة ، ولكن دون جدوى.
جبلة بن الايهم :
تنظر الروايات العربية إلى "جبلة بن الايهم" على أنه آخر ملوك الغساسنة وأنه قد حارب المسلمين في جانب الروم في موقعة اليرموك عام 636م ، على أن رواية أخرى أنما تذهب إلى أن جبلة قد مر في سوق دمشق فأوطأ رجلا فرسه ، فوثب الرجل فلطمه ، فأخذه الغسانيون فأدخلوه على " أبي عبيدة بن الجراح " الذي حكم بالقصاص وكان جبلة يريد أن يقتل الرجل أو تقطع يده ، فرفض أبو عبيدة ، إلا الحكم بالبينة ( أن كان لطمك لطمته ) فخرج جبلة إلى بلاد الروم وارتد فهناك رواية ثالثة تذهب إلى أن جبلة لم يدخل في الإسلام أبداً.