إن الحمد لله
نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا
ومن سيئات
أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ،
وأشهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .. وبعد
أحكام القرآن لابن
العربي
سورة الفاتحة
الآية الأولى
{
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ } . اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ كِتَابِ
اللَّهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّمْلِ ، وَاخْتَلَفُوا فِي كَوْنِهَا فِي
أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ ، فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَتْ
فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ بِآيَةٍ ، وَإِنَّمَا هِيَ اسْتِفْتَاحٌ
لِيُعْلَمَ بِهَا مُبْتَدَؤُهَا .
وَقَالَ
الشَّافِعِيُّ : هِيَ آيَةٌ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ ، قَوْلًا وَاحِدًا ;
وَهَلْ تَكُونُ آيَةً فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ ؟ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي
ذَلِكَ ; فَأَمَّا الْقَدْرُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْخِلَافِ مِنْ
قِسْمِ التَّوْحِيدِ وَالنَّظَرِ فِي الْقُرْآنِ وَطَرِيقِ إثْبَاتِهِ
قُرْآنًا ، وَوَجْهُ اخْتِلَافِ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْهُ
، فَقَدْ اسْتَوْفَيْنَاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ ، وَأَشَرْنَا إلَى
بَيَانِهِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَوَدِدْنَا أَنَّ الشَّافِعِيَّ
لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، فَكُلُّ مَسْأَلَةٍ لَهُ
فَفِيهَا إشْكَالٌ عَظِيمٌ .
وَنَرْجُو
أَنَّ النَّاظِرَ فِي كَلَامِنَا فِيهَا سَيَمْحِي عَنْ قَلْبِهِ مَا
عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ سَدَلَ مِنْ إشْكَالٍ بِهِ .
فَائِدَةُ
الْخِلَافِ : وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ
بِالْأَحْكَامِ أَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ
الصَّلَاةِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ ، خِلَافًا لِأَبِي
حَنِيفَةَ حَيْثُ يَقُولُ : إنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ ، فَتَدْخُلُ { بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } فِي الْوُجُوبِ عِنْدَ مَنْ يَرَاهُ ،
أَوْ فِي الِاسْتِحْبَابِ [ كَذَلِكَ ] .
وَيَكْفِيَك أَنَّهَا
لَيْسَتْ بِقُرْآنٍ لِلِاخْتِلَافِ فِيهَا ، وَالْقُرْآنُ لَا يُخْتَلَفُ
فِيهِ ، فَإِنَّ إنْكَارَ الْقُرْآنِ كُفْرٌ .
فَإِنْ قِيلَ : وَلَوْ
لَمْ تَكُنْ قُرْآنًا لَكَانَ مُدْخِلُهَا فِي الْقُرْآنِ كَافِرًا ;
قُلْنَا : الِاخْتِلَافُ فِيهَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ تَكُونَ آيَةً ،
وَيَمْنَعُ مِنْ تَكْفِيرِ مَنْ يَعُدُّهَا مِنْ الْقُرْآنِ ; فَإِنَّ
الْكُفْرَ لَا يَكُونُ إلَّا بِمُخَالَفَةِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ فِي
أَبْوَابِ الْعَقَائِدِ .
فَإِنْ
قِيلَ : فَهَلْ تَجِبُ قِرَاءَتُهَا فِي الصَّلَاةِ ؟ قُلْنَا : لَا
تَجِبُ ، فَإِنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَوَى {
أَنَّهُ صَلَّى خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَقْرَأُ : {
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } وَنَحْوَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ مُغَفَّلٍ } .
فَإِنْ قِيلَ : الصَّحِيحُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ :
فَكَانُوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلَاةَ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ كَانُوا
لَا يَقْرَءُونَ شَيْئًا قَبْلَ الْفَاتِحَةِ .
قُلْنَا
: وَهَذَا يَكُونُ تَأْوِيلًا لَا يَلِيقُ بِالشَّافِعِيِّ لِعَظِيمِ
فِقْهِهِ ، وَأَنَسٍ وَابْنِ مُغَفَّلٍ إنَّمَا قَالَا هَذَا رَدًّا عَلَى
مَنْ يَرَى قِرَاءَةَ : { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } فَإِنْ
قِيلَ : فَقَدْ رَوَى جَمَاعَةٌ قِرَاءَتَهَا ، وَقَدْ تَوَلَّى
الدَّارَقُطْنِيُّ جَمِيعَ ذَلِكَ فِي جُزْءٍ صَحَّحَهُ .
قُلْنَا
: لَسْنَا نُنْكِرُ الرِّوَايَةَ ، لَكِنَّ مَذْهَبَنَا يَتَرَجَّحُ
بِأَنَّ أَحَادِيثَنَا ; وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ فَإِنَّهَا أَصَحُّ ،
وَبِوَجْهٍ عَظِيمٍ وَهُوَ الْمَعْقُولُ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ مِنْ
الشَّرِيعَةِ ، وَذَلِكَ أَنَّ مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ ص: 7 ] بِالْمَدِينَةِ انْقَضَتْ عَلَيْهِ الْعُصُورُ
، وَمَرَّتْ عَلَيْهِ الْأَزْمِنَةُ مِنْ لَدُنْ زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى زَمَانِ مَالِكٍ ، وَلَمْ يَقْرَأْ
أَحَدٌ [ قَطُّ ]
فِيهِ { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }
اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ .
بَيْدَ
أَنَّ أَصْحَابَنَا اسْتَحَبُّوا قِرَاءَتَهَا فِي النَّفْلِ ، وَعَلَيْهِ
تُحْمَلُ الْآثَارُ الْوَارِدَةُ فِي قِرَاءَتِهَا .
المسألة الثانية : ثبت
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { قال الله تعالى : قسمت الصلاة
بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل يقول العبد :
الحمد لله رب العالمين يقول الله تعالى : حمدني عبدي يقول العبد : الرحمن
الرحيم يقول الله تعالى : أثنى علي عبدي يقول العبد : مالك يوم الدين يقول
تعالى : مجدني عبدي يقول العبد : إياك نعبد وإياك نستعين يقول الله تعالى
فهذه الآية بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل يقول العبد : اهدنا الصراط
المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين يقول الله :
فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل . }
فقد
تولى سبحانه قسمة القرآن بينه وبين العبد بهذه الصفة ، فلا صلاة لمن لم
يقرأ بفاتحة الكتاب ، وهذا دليل قوي ، مع أنه ثبت في الصحيح عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال : { لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب } .
[ ص: 8 ] وثبت عنه أنه قال : { من صلى صلاة لم يقرأ فيها
بفاتحة الكتاب فهي خداج ثلاثا غير تمام } .