الكذب ومجتمع آيل للسقوط
بقلم داليا رشوان
العلاقة بين أفراد المجتمع تعتمد على القول والفعل الظاهر، وأي خلل في مصداقية هذا القول أو الفعل يؤثر سلبيا على هذه العلاقات الإنسانية ويجعلها علاقات تشوبها أجواء الشك والتخوين. مثل هذه السمات تخرج بالعلاقة من حيز العلاقات الإنسانية الطبيعية إلى حيزالعلاقات غير الإنسانية المريضة حيث انعدام الثقة وطلب الإثباتات المادية في كل شئ بعد أن أصبحت الكلمة لا تكفي، وأصبح التصديق للأقوى كذبا وللأعلى صوتا وللأكثر دهاءً وللمسيطر إعلاميا وللسبّاق بالشكوى وهكذا، أما الصادق الذي يعمل في صمت والذي يترفع عن الصغائر فتنقلب الدنيا على رأسه ويصبح في لحظة الجاني دون أدنى علم بتهمته التي جناها.
انعدمت الثقة لكثرة الكذب والتدليس، وإرتضى الجميع ذلك بل وقبلوا وجوده وأصبح الكذب من طبائع الأمور؛ من طبائع التجارة بل والدليل على خبرة ودهاء التاجر؛ المدير يكذب على موظفيه والموظف يكذب على رئيسه كلاهما يعيش حالة من الكذب يقنع أحدهما الآخر بخبرات وقدرات ومواهب كاذبة ليس لها أصل من الصحة ولا ترقى لدنى مستوى مهني؛ المحامي يكذب أمام القاضي ليأخذ لموكله حقوقا هي ليست فقط مخالفة لحقه بل هو أيضا لا يحتاجها ولكن كيدا في الخصم وطمعا في المزيد؛ الأبناء يكذبون على أهلهم والأهل يكذبون على أبنائهم؛ دعاة الإسلام يكذبون على الناس بإسم الدين للسيطرة عليهم بما يتفق مع أهوائهم الشخصية أو توجهاتهم السياسية لتحقيق مكاسب مادية أو معنوية .....إلخ
خلل المصداقية أثر بالفعل في جميع نواحي الحياة من المعاملات التجارية والصناعية والزراعية إلى العلاقات الأسرية وعلاقات العمل والكيان الإداري للعمل وعلاقته بالموظفين مع أن الصدق كان سيوفر علينا الكثير والكثير من الشك والتحري والأحكام الجائرة.
وعلى الرغم من أن المجتمع يبدو وكأن أفراده ارتاحوا واستقروا على فكرة الكذب وابتدعوا لأنفسهم تبريراتهم التي تبدو ظاهريا منطقية لمن يريد أن يصدقهم، إلا أن في النهاية الكاذب يفتضح أمره وتنتفي مصداقيته أمام الناس، وعندها ستصبح جميع أفعاله محل الشك وكأنه يقول لمن أمامه "نيتي خبيثة وداخلي شر لا أستطيع أن أظهره لك" وهكذا سيحيا بقية أيامه في الدنيا، أما إن كان لا يعبأ بذلك فلقد وصل إلى مرحلة الجهر بالسوء وانعدام الحياء. ولكن مجتمع يشك في بعضه البعض مجتمع آيل للسقوط لأن العلاقات الإجتماعية العمل الجماعي الذي يشترك فيه أكثر من فرد سيكون منعمدا لانعدام الثقة بينهم وبين الآخرين مهما كانت العلاقات التي تجمعهم وهذا ما وصلت إليه مجتمعاتنا.
الآن أصبح من الأفضل للإنسان المؤمن أن يعيش وحيدا وأن يعمل وحيدا وأن يتمتع بالدنيا وحيدا وأن يستقي معلوماته عن دينه من المصدر الوحيد المؤكد له وهو القرآن والسنة وبقية المعلومات من العلوم المختلفة عليه البحث الجيد عنها وأخذها أيضا من مصادر متعددة أما الأخبار فعليه أن يسمع من المصادر المختلفة ويحاول استنباط ما يحدث على أرض الواقع لأن الحقيقة غالبا منافية لجميع ما سيسمع ويجب أن يتقبل هذه الحقيقة وأن يتعامل معها بواقعية.
فكيف رضى الجميع بكل ما آلت إليه الأمور؟
هل يرضى أفراد المجتمع بما يحدث؟
ألم يحن الوقت لوقفة جادة لإستعادة الثقة؟
هل يستطيع أحدكم أن يقرر في يوم وليلة إما أن يقول صدقا أو يصمت؟
هل من الممكن أن نتابع أبناءنا ونشدد عليهم حين يكذبون ولو لأقل سبب؟
كان ابني يتحدث في الهاتف وأنا بجانبه فقال لصاحبه "أمي تريدني لذا سأذهب"، فلما أغلق معه قلت له بنبرة حازمة "لماذا قلت ذلك؟ كان من الممكن أن تقول له أي شئ حقيقي ولن يغضب منك، المسلم ليس كذابا وأنا لن أقبل كذابا معي في هذا البيت".
ولكنني أعلم من أين جاء تساهله في مثل هذه الكذبة فكم من المرات أرسلته ليشتري لي بعض الأغراض فيقول لي فرحا لقد قال لي التاجر أنه خفض السعر فأفاجأ بأن القيمة مضاعفة وأنني لو اشتريت أنا من هذا التاجر ما كان سيجرؤ أن ينطق بالقيمة التي قالها لإبني، فاضطر أن أقول لابني لا تصدق كل ما تسمع ولكنني بذلك قد عرَّفته مبكرا بمجتمع الكاذبين، فأصبح يسأل عن الأسعار في عدة أماكن ويقاطع من يزيد في السعر ولكن لأن عمره 9 سنوات فمن الطبيعي أن يتأثر بمجتمع يكذب عليه كلما احتك به.
وهنا أود أن أقول كلمة لكل من يجد طفل أمامه فيستهين به ويقول له "أي كلام" حتى يصرفه: "أبشر فقد فعلت سيئة جارية لأنك علمت هذا الطفل قيمة سيئة وحفرتها داخل نفسه وستظل تأخذ وزرها ووزر من تعلمها منه طالما ظلوا على قيد الحياة ويتحركون بقيمك".
الذي يشق طريقه بالكذب إنسان ضعيف الشخصية وضعيف القدرات؛ هو لا يستطيع أن يواجه الحقائق ولا يقوى على صنع ما يريد في واقع الحياة فيبحث عن أسهل طريقة للمواجهة أو التغيير "بالكذب" فيحيا الحياة التي يريدها على الأقل في أذهان الآخرين.
وكم من الناس إعتاد الحصول على أمواله ومكاسبه بالتدليس وليست لديه القدرات الفعلية والمهارات التي تساعده على جعل كذبه واقعا بل ليست لديه القدرة على تطوير ذاته كي يصبح نجاحه حقيقيا، ولا يمانع من أن يرى نفسه كإنسان وضيع طالما أن الناس تراه كبيرا وعظيما، ولكن المشكلة أن الذي اختار مجد الكذب لساعات أو أيام قد اختار مكسب محدود ولن يفتضح أمره فقط بل سيظهر للناس مدى الوضاعة التي هو عليها والتي قبلها على نفسه.
والسيناريو لا يقف عند ذلك فكثيرا ما تجد هذا الكذَّاب ماكرا د ويحسب حساب اليوم الذي سيفتضح أمره فيه فيربط نفسه بالآخرين بمصالح تجعلهم حتى وهم يرونه وضيعا يضطرون للتعامل معه لإنهاء المصالح التي ربطتهم به، وبذلك أصبحت مؤسسات كبيرة مبنية على مصالح مشتركة بين شخصيات وضيعة لا تعرف شيئا عن كيفية إدارة هذه المؤسسات والمصلحة فيها لا تمت بصلة لصالح العمل ولا صالح العميل بل على مصالح شخصية دنيئة بحتة، وأصبحت زيجات كثيرة مبنية على نفس المصالح التي يخشى أطرافها ضياعها في حالة الطلاق، وهكذا أصبحت العلاقات تبنى بنفس الطريقة، حتى إذا علا البناء اكتشف أصحابه أنه آيل للسقوط لأن الأساس كان كذبا.
بقلم داليا رشوان
العلاقة بين أفراد المجتمع تعتمد على القول والفعل الظاهر، وأي خلل في مصداقية هذا القول أو الفعل يؤثر سلبيا على هذه العلاقات الإنسانية ويجعلها علاقات تشوبها أجواء الشك والتخوين. مثل هذه السمات تخرج بالعلاقة من حيز العلاقات الإنسانية الطبيعية إلى حيزالعلاقات غير الإنسانية المريضة حيث انعدام الثقة وطلب الإثباتات المادية في كل شئ بعد أن أصبحت الكلمة لا تكفي، وأصبح التصديق للأقوى كذبا وللأعلى صوتا وللأكثر دهاءً وللمسيطر إعلاميا وللسبّاق بالشكوى وهكذا، أما الصادق الذي يعمل في صمت والذي يترفع عن الصغائر فتنقلب الدنيا على رأسه ويصبح في لحظة الجاني دون أدنى علم بتهمته التي جناها.
انعدمت الثقة لكثرة الكذب والتدليس، وإرتضى الجميع ذلك بل وقبلوا وجوده وأصبح الكذب من طبائع الأمور؛ من طبائع التجارة بل والدليل على خبرة ودهاء التاجر؛ المدير يكذب على موظفيه والموظف يكذب على رئيسه كلاهما يعيش حالة من الكذب يقنع أحدهما الآخر بخبرات وقدرات ومواهب كاذبة ليس لها أصل من الصحة ولا ترقى لدنى مستوى مهني؛ المحامي يكذب أمام القاضي ليأخذ لموكله حقوقا هي ليست فقط مخالفة لحقه بل هو أيضا لا يحتاجها ولكن كيدا في الخصم وطمعا في المزيد؛ الأبناء يكذبون على أهلهم والأهل يكذبون على أبنائهم؛ دعاة الإسلام يكذبون على الناس بإسم الدين للسيطرة عليهم بما يتفق مع أهوائهم الشخصية أو توجهاتهم السياسية لتحقيق مكاسب مادية أو معنوية .....إلخ
خلل المصداقية أثر بالفعل في جميع نواحي الحياة من المعاملات التجارية والصناعية والزراعية إلى العلاقات الأسرية وعلاقات العمل والكيان الإداري للعمل وعلاقته بالموظفين مع أن الصدق كان سيوفر علينا الكثير والكثير من الشك والتحري والأحكام الجائرة.
وعلى الرغم من أن المجتمع يبدو وكأن أفراده ارتاحوا واستقروا على فكرة الكذب وابتدعوا لأنفسهم تبريراتهم التي تبدو ظاهريا منطقية لمن يريد أن يصدقهم، إلا أن في النهاية الكاذب يفتضح أمره وتنتفي مصداقيته أمام الناس، وعندها ستصبح جميع أفعاله محل الشك وكأنه يقول لمن أمامه "نيتي خبيثة وداخلي شر لا أستطيع أن أظهره لك" وهكذا سيحيا بقية أيامه في الدنيا، أما إن كان لا يعبأ بذلك فلقد وصل إلى مرحلة الجهر بالسوء وانعدام الحياء. ولكن مجتمع يشك في بعضه البعض مجتمع آيل للسقوط لأن العلاقات الإجتماعية العمل الجماعي الذي يشترك فيه أكثر من فرد سيكون منعمدا لانعدام الثقة بينهم وبين الآخرين مهما كانت العلاقات التي تجمعهم وهذا ما وصلت إليه مجتمعاتنا.
الآن أصبح من الأفضل للإنسان المؤمن أن يعيش وحيدا وأن يعمل وحيدا وأن يتمتع بالدنيا وحيدا وأن يستقي معلوماته عن دينه من المصدر الوحيد المؤكد له وهو القرآن والسنة وبقية المعلومات من العلوم المختلفة عليه البحث الجيد عنها وأخذها أيضا من مصادر متعددة أما الأخبار فعليه أن يسمع من المصادر المختلفة ويحاول استنباط ما يحدث على أرض الواقع لأن الحقيقة غالبا منافية لجميع ما سيسمع ويجب أن يتقبل هذه الحقيقة وأن يتعامل معها بواقعية.
فكيف رضى الجميع بكل ما آلت إليه الأمور؟
هل يرضى أفراد المجتمع بما يحدث؟
ألم يحن الوقت لوقفة جادة لإستعادة الثقة؟
هل يستطيع أحدكم أن يقرر في يوم وليلة إما أن يقول صدقا أو يصمت؟
هل من الممكن أن نتابع أبناءنا ونشدد عليهم حين يكذبون ولو لأقل سبب؟
كان ابني يتحدث في الهاتف وأنا بجانبه فقال لصاحبه "أمي تريدني لذا سأذهب"، فلما أغلق معه قلت له بنبرة حازمة "لماذا قلت ذلك؟ كان من الممكن أن تقول له أي شئ حقيقي ولن يغضب منك، المسلم ليس كذابا وأنا لن أقبل كذابا معي في هذا البيت".
ولكنني أعلم من أين جاء تساهله في مثل هذه الكذبة فكم من المرات أرسلته ليشتري لي بعض الأغراض فيقول لي فرحا لقد قال لي التاجر أنه خفض السعر فأفاجأ بأن القيمة مضاعفة وأنني لو اشتريت أنا من هذا التاجر ما كان سيجرؤ أن ينطق بالقيمة التي قالها لإبني، فاضطر أن أقول لابني لا تصدق كل ما تسمع ولكنني بذلك قد عرَّفته مبكرا بمجتمع الكاذبين، فأصبح يسأل عن الأسعار في عدة أماكن ويقاطع من يزيد في السعر ولكن لأن عمره 9 سنوات فمن الطبيعي أن يتأثر بمجتمع يكذب عليه كلما احتك به.
وهنا أود أن أقول كلمة لكل من يجد طفل أمامه فيستهين به ويقول له "أي كلام" حتى يصرفه: "أبشر فقد فعلت سيئة جارية لأنك علمت هذا الطفل قيمة سيئة وحفرتها داخل نفسه وستظل تأخذ وزرها ووزر من تعلمها منه طالما ظلوا على قيد الحياة ويتحركون بقيمك".
الذي يشق طريقه بالكذب إنسان ضعيف الشخصية وضعيف القدرات؛ هو لا يستطيع أن يواجه الحقائق ولا يقوى على صنع ما يريد في واقع الحياة فيبحث عن أسهل طريقة للمواجهة أو التغيير "بالكذب" فيحيا الحياة التي يريدها على الأقل في أذهان الآخرين.
وكم من الناس إعتاد الحصول على أمواله ومكاسبه بالتدليس وليست لديه القدرات الفعلية والمهارات التي تساعده على جعل كذبه واقعا بل ليست لديه القدرة على تطوير ذاته كي يصبح نجاحه حقيقيا، ولا يمانع من أن يرى نفسه كإنسان وضيع طالما أن الناس تراه كبيرا وعظيما، ولكن المشكلة أن الذي اختار مجد الكذب لساعات أو أيام قد اختار مكسب محدود ولن يفتضح أمره فقط بل سيظهر للناس مدى الوضاعة التي هو عليها والتي قبلها على نفسه.
والسيناريو لا يقف عند ذلك فكثيرا ما تجد هذا الكذَّاب ماكرا د ويحسب حساب اليوم الذي سيفتضح أمره فيه فيربط نفسه بالآخرين بمصالح تجعلهم حتى وهم يرونه وضيعا يضطرون للتعامل معه لإنهاء المصالح التي ربطتهم به، وبذلك أصبحت مؤسسات كبيرة مبنية على مصالح مشتركة بين شخصيات وضيعة لا تعرف شيئا عن كيفية إدارة هذه المؤسسات والمصلحة فيها لا تمت بصلة لصالح العمل ولا صالح العميل بل على مصالح شخصية دنيئة بحتة، وأصبحت زيجات كثيرة مبنية على نفس المصالح التي يخشى أطرافها ضياعها في حالة الطلاق، وهكذا أصبحت العلاقات تبنى بنفس الطريقة، حتى إذا علا البناء اكتشف أصحابه أنه آيل للسقوط لأن الأساس كان كذبا.