في إحدى اﻷيام من طفولتي، أتذكر أنه حين لم يعد يفصلني للذهاب إلى المخيم الصيفي سوى يوم واحد؛ كان كل شيء يمر بسلام وأنا أنتظر عقارب الساعة تستقيم على صباح الغد، خرجت برفقة أصدقائي الصغار كي نلعب سويا في الحي الذي نقطن فيه، اللعب بالنسبة لنا هو من صنع عقولنا وإدراكنا وليس ثمة في ألعاب الفيديو او مشاهدة التلفاز متعه مثل التسكع مع أصدقائك و التجول و اللعب في ازقة الحي ..
ﻻزلت أتذكر في العطلة الصيفية كنا نلعب لعبة الميزان بواسطة عمود كهربائي؛ فيواجه حشد من اﻷطفال، حشد آخر، حيث تكون المغامرة أكثر عندما يعرج فريق للأعلى بفعل نزوح فريق آخر للأسفل وهكذا أيضا يحدث معهم، لكن على الرغم من ذلك، كانت أجمل عطلة أستحضرها في ذهني؛ وتمنيت وقتها أن يبقى ذلك العمود ملقاً في مكانه حتى نجد شيئا نترفه به على أنفسنا في وقت لاحق، كنا نلعب أيضا لعبة "الغميطة" في منتصف الليل لكن على من يتم ضبطه أن يتحمل كرهاً قذفه بالكرة، هناك أيضاً اﻹنسلال بسرية إلى حدائق قصد جني الفاكهة والهروب في حالة المطاردة، وأخطر شيء الانسلال وراء اﻷسلاك الكهربائية قصد حرقها وبيعها إلى جانب قنينات خمر فارغة.. هكذا كانت اﻷلعاب تكتسي طابع اﻹثارة والخطورة وأحيانا الربح، كل شيء يبدو جميلا في الطفولة وﻻ تشعر بأنك مجرما مهما كنت مخطئا؛ الطفولة بمثابة الحرية التي ﻻ تعرف مبدأ انتهاءها حين تبدأ حرية اﻵخر؛ غاية الطفل تبرر الوسيلة مهما كانت السبل في نيلها.
أتذكر كنا نريد تحضير "الطاجين المغربي" فاتجهنا للسوق المجاور لنا، في محاولة من الأصدقاء في اختلاس مستحضراته، كانت أول وأخر مرة أجرب معهم، نجح الكل ماعدا محاولتي التي كانت غبية لدرجة ما؛ حيث سرعان ما كان بائع الخضر يلتفث إلى الوراء بغية إصلاح نصب خيمته، حتى قصدت البطاطس وحملت في يدي واحدة كبيرة الحجم؛ تربت أصابعي خشية لها ببطء؛ حتى رمقني ووجه لي سيلاً من السب والشتم ونحن نركض لوجهة مجهولة، في حين هذه المحاولة شفعت لي أن أتذوق طعم الطاجين اللذيذ الذي ربما حتى وإن كان مجهزاً في المنزل لن يماثله لذة، ﻷن فعل الاختلاس والتجهيز في الطبيعة أو خلف منزل "الحياني" طعم أخر، وبالرغم من أنه من بين شروط المتذوقين القيام بهذا الفعل المتمثل في التقاط بعض الخضر مهما كانت قيمتها ؛ الضحك على محاولتي ربما كان سببا في مشاركتي الطعام حتى ولو أنها لم تنجح تلك العملية، هذه المحاولة الفاشلة ﻻزلنا نتذكرها بضحك أنا وصديقي يوسف في الوقت الحالي.
وفي إحدى اﻷيام كنا نلعب فوق عربة ذات عجلتين تعود إلى شركة خاصة، نركض بجوار سطحها إلى اﻷسفل ثم نعاود الكرة؛ بينما اشتغلنا بذلك اﻹيقاع حتى رأينا سيارة آتية بسرعة من الدرب، لنعرف أنه صاحب المحل، هرب الجميع اتباعاً بخطوات سريعة وهممت بالهروب أيضا، وبينما أترجل من العربة بسرعة حتى فاجئني مسمار صدئ باختلاج مرفق قدمي اﻷيسر وهي على متن العربة، ويوم غد هو اليوم المذكور ﻷذهب إلى المخيم الصيفي؛ عندما رأيت حال الجرح الغائر في ذلك الوقت، بدا لي وكأنه يشبه عين كبيرة ملطخة باﻷحمر الذي ينزف بشراهة رغم محاولة أمي فعل ما باستطاعتها، وكأنها عين بائع الخضر تفتحت؛ وصاحب الحدائق؛ والمسؤول عن الأسلاك الكهربائية وأخيرا صاحب الشركة هذا حين تعذرتُ بمسمارها الصدئ، كنت متشوقاً ﻷذهب إلى المخيم و عطبي آل دون ذلك؛ في حين قررنا الذهاب رغماً عن الظروف، حزمت أمي الجرح الذي تطلب خياطة جراحية بعد ذهابي للمستشفى، وهّمني اليوم اﻷول أنه مجرد جرح سيشفى عما قريب عندما رأيت الحزام كفيل بتهدئته إلى جانب بعض اﻷدوية الخفيفة والمخففة للآلم، لكن وبعد أن وطأت قدمي مخيم مدينة الجديدة في اليوم الثاني حتى أصبحت تحتاج إلى عكاز، فكان عوض ذلك، مؤطر فرقتنا يحكم قبضته علي أثناء المشي، صار الجرح أقوى مما كان عليه في السابق؛ الميكروب واللّون اﻷزرق آتتا كل بقعة تحوم بين كل الجنبات، وحدث أن ذهب كل أفراد المخيم إلى الحمام، فلم أتبعهم بنصيحة الطبيب، كذلك نفس اﻷمر حين ذهبوا للبحر مرارا وتكرارا قصد السباحة؛ فاكتفيت فيها بمجاورة أمتعتهم و مشاهدة اﻷمواج من بعيد، كرجل عجوز يطالع بعينيه تلك الذرات الفضية وهو يمضي كل وهلة في أن يراجع ذاكرته للوراء، و يستحضر عناده الطفولي الذي قاده للمشاركة في كل ذلك الشغب و اللّعب في أمتعة الناس.
هذه المرة ربما عند مغازلة الرمال بأصابعي عوض السباحة ستعلمه أنه كم كان مخطئاً.