الفن اولا ثم العالم! هكذا كان يرى الأشياء، او هكذا حاول ان يجعلها تبدوا. اختار العيش وحيداَ في شقة صغيرة متواضعة، وبالرغم من انه كان يملكها الا انها كانت تبدو أقرب الى المستأجرة منها الى المملوكة. فقد اثثت بأقل ما يلزم من الاثاث، ولم يتكبد اقل عناء لتزيينها او اضفاء لمسات جمالية عليها، الألوان اما باهتة او محايدة تبعث على الوحشة ولا تعطي أي شعور بالحياة. ولم تكن هذه شاكلة مسكنه فحسب، فقد كان هو نفسه – كالمكان الذي ينتمي اليه- ذو مظهر بسيط جدا يتجنب ارتداء أي شيء قد يعبر عنه وكأن ذوقه بحد ذاته سر خطير لا يجب اطلاع أحد عليه. لقد قرر ان يكرس نفسه من اجل شيء واحد لا غير " لوحاته". ورغم كون غرابة الاطوار مرادفة لكثير من الفنانين والمبدعين، لم يبد عليه ما قد يوحي بكونه فناناً. فأي نوع من الفنانين قد يعيش في عالم احادي اللون الى هذا الحد؟ فعندما قرر تكريس نفسه لأجل فنه لم يقتصر الأمر على طاقته ووقته فحسب، بل وصل الامر به الى ابتلاع حروفه، غلف مشاعره جيدا ولم يطلع عليها احدا. لقد كتم ليس فقط ما كان يخالجه بل اخفى روحه بالكامل، احتفظ بكامل نفسه لأجل فنه. فمشاركة أي من هذه الاشياء بالنسبة إليه – يستهلكه - وكأن الكلمات التي يقولها والمشاعر التي يعبر عنها تموت فور اظهارها فلا تعصف بالذهن ولا تشتعل في القلب انها طيور في قفص وإذا كان لابد من تحريرها فسيكون ذلك من خلال تخليدها فناً. ولأن الأفكار والمشاعر هي مرآة للروح لم يشأ ان ينفذ أحد اليها الا من خلال فنه المجرد. وبينما يغطي نفسه بغطاء السكون والكآبة كان الصخب هو السائد في راسه، ونيران مشاعره واحاسيسه المكبوتة مستعرة في قلبه دونما انطفاء، فكلما ازداد العالم من حوله كآبة وانطفاءاً كان قلبه يزداد اتقاداً. الاف الكلمات، الاشكال والالوان لم يرتض ان ينفخ فيها حياة الا بواسطة فرشاته, فروحه هي مادته، موضوعه ومصدر إلهامه. الى هذا الحد كرس نفسه من أجل لوحاته فغدت بالنسبة اليه الجذوة المتقدة الوحيدة في عالم موحش وبارد! |