هذه هي المرة الأولى منذ زمن طويل لم أقف هكذا أمام المرأة، أنا أعلم أن الليلة لن تكون مثل سائر الليالي! تأنقت استعدادًا للمناسبة العائلية الهامة، وأشعلت عود بخور في الغرفة الخشبية، وخبأت شفرة حادة بين أضراسي، ستطير رقبة أحدهم اليوم، وإذا أردت أن تعرف لماذا فأنا لست مهتمًا بالخوض في هذا النقاش برمته، أنا بريء، وهذا يكفي. في سن مبكرة، كان علي أن أختار مساري في الحياة، ولم أكن قد اخترت شيئًا من قبل، وليست لدي أي خبرة في اتخاذ القرارات السليمة. أعني الاختيارات المهمة فعلًا، وقتها كان قد نبت لي شارب خفيف، وبدأت اختبر صوتي الخشن، وأتعامل مع مشاعري الجديدة، وكنت أستمتع برفاهية لعب المصارعة الحرة الجماعية في محل الألعاب الالكترونية، وكل همومي مرتبطة بالدخول إلى الإنترنت في الوقت المناسب لحصاد القمح، وإطعام الخروف، لكي أحصل منه على الصوف، لكي أحقق واحدًا من أهدافي في المزرعة السعيدة! حينما يتعلق الأمر باختيار مساري في الحياة فأنا لا أعلم حقًا ما هو الموجود لكي أختار منه، هل هناك مسار سريع، ومسار بطيء، هل هناك مسار صعب وآخر سهل، هل هناك مسار مهم وآخر بالغ الأهمية! أيًا من هذا لم يكن موجودًا، كانت الاختيارات بسيطة، اختيار مسارك في الحياة يعني اختيار مسارك الدراسي. حياتك كلها تتمحور حول هذا الموضوع، كانت لدي رفاهية اختيار الدراسة خارج المدينة، بعيدًا عن الأهل والأصدقاء، وهذا ما كنت أتوق له، وأرغب في تجربته، وندمت على اختياره بعد أسبوع واحد فحسب، ولم أطق صبرًا حتى ركبت الحافلة عائدًا أدراجي مشبعًا بمشاعر الحنين إلى الوطن. كان اختياري للدراسة خارج المدينة حلمًا يراودني أنا وزملائي جميعًا، حلم الاستقلالية، والعيش في بيت الطلبة، وفعل كل يحلوا لنا، وكنت محسودًا لأنني اخترت مثل هذا الاختيار، كنت أعود فأحكي لزملائي كيف أنه يوجد في المدرسة ملاعب كرة قدم وكرة طائرة وكرة سلة وتنس طاولة. بإمكانك أن تركل الكرة مثل بسام في الكابتن ماجد، أو أن تلعب كرة السلة مثل حسان في سلام دانك، أو تطير لترسل الإرسال الساحق، أو تلعب مع زميلك الهجوم السريع، وكيف أنك تستلم زيًا رياضيًا خاصًا بك، وترتدي زيًا أنيقًا بكرافت، ولديك دولاب خاص بك، وكمبيوتر، ويشرح لك المعلم على سبورة ذكية، وأن الفصل به ثلاثون طالبًا فحسب، والميزة في هذا المسار إذ أنه بعد الانتهاء منه ستصبح بطلًا، ستصبح لديك وظيفة فورًا، وهو مايعتبر قدرة خارقة! العديد من خريجي الكليات يعجزون عن إيجاد وظيفة لائقة، ويسود الشعور بالاستحقاق في الجو، استحقاق وظيفة أفضل، وحياة أفضل، وكانت هذه الوظيفة هي الوظيفة التي لا يُمكن لأحد أن يفصلك فيها، مثل وظيفة في الحكومة، وستكون الحياة سهلة بعد ذلك، وهذا ما ظننت أن حياتي ستكون عليه. وجدت نفسي أصغر موظف في صحيفة مرموقة، بدون خبرة في الحياة، كان شاربي لايزال أخضرًا، وأصبحت مشاعري أكثر تعقيدًا، كان علي أن أتعلم، تعلمت كيف يُكتب العمود، وكيف تكون المقالة، وكيف يتم اختيار العناوين الكبيرة، صرت أفكر أكثر باختيار مساري في الحياة، وتمنيت بعد عامين من العمل، وعام صعب من الخدمة العسكرية أن أختبر الحياة خارج المسارات الضيقة ولو قليلًا، خارج الدراسة، وخارج الوظيفة، ولكن ما كلُّ ما يتمنّى المرءُ يُدركهُ، رٌبّ امرئٍ حتفُهُ فيما تمنّاهُ. تأخرت عودتي للوظيفة بعد انتهائي من الخدمة العسكرية، ووجدت نفسي عاطلًا عن العمل، خارج المسار، كثير النوم، قليل الكلام، تائهًا لا يعرف ماذا يفعل، مثل ورقة في مهب الريح. التحقت بمطبعة محلية، وتعلمت بعض الفنون، وتشربت الحبر حتى كدت أُدمن رائحته، ثم لم أعد راغبًا في العمل كما كنت في البداية، ولم أكن لأتركه، إلا أن صاحب العمل استنذل معي، وأعطاني أقل من أجرتي، قائلًا أنني لم أعمل كما ينبغي لي، وقد وافقته بابتسامة وإيماءة رأس، وحينما اتصل بي في اليوم الثاني قائلًا لي أنني قد تأخرت عن موعدي أجبته بأنني لن آتي، وبطريقة ما عرف هو أن هذه النهاية، قال لي أنه كان يختبر ولائي، وردة فعلي حينما نصبح في أزمة، وأنه سيعطيني أجرتي كاملة إذا عدت، ولكنني ببساطة لا أحب أن يختبرني أحد. تنقلت من عمل إلى آخر، ولم أمكث في أحد الأعمال أسبوعين، حتى وجه إلي المقربون أصابع الاتهام بأنني لا أصلح لشيء، كنت أخبرهم أن هذه الوظائف لم تكن تصلح لي فحسب، ورغم هذا لم أستطع رفع التهمة عني، حتى عندما كنت أصارع للبقاء ضمن وظيفة سيئة، مع صاحب عمل بعقلية طفل، وكنت حسب الأدلة والبراهين بريئًا من التهمة براءة الذئب من دم ابن يعقوب. قررت بعدها الاتفاق معهم أن الخطأ يقع علي فعلًا، لأنني كنت أوافق على العمل في أي شيء، وزاد على هذا أن ذهبت مع صديق لي لإجراء مقابلة عمل في فندق، وقد وبخني الرجل الكبير المسؤول عن المقابلة بشدة، قائلًا لي أن عملي مطلوب، ويمكنني أن أجني منه مايكفي من المال، وأن العمل في شيء تحبه هو ما بجعل الحياة أكثر احتمالًا ولذا عزمت أمري، واتخذت قراري. صارعت كل يوم لمدة عشرة سنوات حتى أصل إلى ما أنا عليه الآن، فنانًا شاملًا، عشت الحياة كما أريدها بالضبط، ولا يتبقى لي إلا أن أستمر في هذا الحياة الحلوة لآخر يوم في عمري، وكنت متأكدًا بأنني قمت هذه المرة باختيار مساري في الحياة، حتى جاء هذا اليوم اللعين. تطوع والديّ بتقديم طلب إلى عمي لإعادتي إلى وظيفتي السابقة التي مر عليها عشر سنوات، وشعرت فجأة بضغط كبير لتلبية دعوته، لست مهتمًا لتلك الدرجة بتلك الوظيفة الروتينية المملة، ولا أظن أنني سأحقق أموال مثل تلك التي أحققها الآن، ولا أرغب في أن أرفض طلبه بهذا العذر! عمي رجل موظف عاش عمره سعيدًا بما يجنيه من هذه الوظيفة، حتى حب الناس له كان بسبب اجتهاده في وظيفته هذه، ويدير أعماله في الخارج بناءً على سمعته بأنه موظف كبير في الحكومة، يعتبر عمي نفسه قد وصل إلى قمة النجاح، وعلى كل من يريد أن يبلغ القمة أن يتبع خطواته، وربما يصل إلى شيء مما حققه هو بنفسه، وإذا لم يصل إلى شيء في هذا المسلك فبالتأكيد لن يحصل على شيء في الخارج، لأنه لاشيء في الخارج، وإلا كان هو قد حصل عليه قبلًا. ولذا صرت أتجنب الاقتراب منه دائمًا. تلومني والدتي بشدة، وتزعم بأنني أتعمد استخراج أسوء مافي الناس، ثم أقرر التعامل معهم على هذا الأساس،أقنعتني بأنه لا يوجد لدي شيء لأخسره إذا استفدت من كرم الرجل، نحن مدينون إليه بمعروف، سواءً ذهبت أم لم أذهب. أشد ما أكره أن أرى عائلتة مدينة بسببي، لم يأخذوا رأيي قبل أن يتدخلوا في حياتي، ومع ذلك يتذمرون! دخلت الباب وطلبت لقاء المسؤول، مر بي زميل قديم كان يرسم الكاركتير، رحب بي وسأل عن سبب قدومي، وعندما عرف بالقصة هنأني على عودتي، وأخبرني أن عمي رجل كبير، ولن يستطيع أحد أن يرفض له طلبًا، ولذا فهو يعتبر هذا الأمر منتهيًا. كان رسام الكاركتير ساخرًا كعادته، وجهه يشع طاقة وحيوية، وأضاف إليه الشيب وقارًا وهيبة، دعاني للجلوس معه ريثما يأتي دوري، دلفت معه إلى غرفة تبدوا من الخارج كأنها مكتب، ولكنها عالم مختلف تمامًا، كانت عبارة عن استراحة ومطبخ وغرفة نوم، كان هناك الكثير من الموظفين، لم ينتبه أحد إلينا ونحن ندخل، كان كلٌ منهم منهمكًا فيما يفعله، نظر إليهم زميلي وعلق بسخريته المعهودة بأن محركاتهم تأخذ بعض الوقت حتى تدور، كان الوقت مبكرًا، وكنا فيما مضى نتناول طعامنا، ونشرب الشاي أولًا ثم نشرع بعد ذلك في العمل، وعلى مايبدوا كان هذا الطقس مستمرًا حتى الآن. قام زميلي بتقديمي إلى رجل جالس يفتح أكياس الطعام، وقال له هذا السيد عين، تايبست، كان زميلًا لنا منذ عشر سنوات وعاد إلينا من جديد، ونظر لي بسخرية وقال وهذا السيد نون وسيكون رئيسك بداية من اليوم، لم ينبس الرجل ببنت شفة، وإنما وضع بين يدي أرغفة الخبز وقال إذًا سيحتاج إلى الشروع في العمل بسرعة، طلب مني أن أقلب الخبز على النار من أجل تسخينه، وهذه عادة لاتوجد إلا في مناطق قليلة في العالم، ولنوعية معينة من الخبز، وتحتاج إلى تركيز كبير، حتى يسخن الخبز، ولا يحترق تمامًا، وقد بذلت جهدي غير أنني انهرت تحت الضغط، وانتهى بي الأمر بحرق رغيف أو اثنين، وشعرت بالسوء لأنني فعلت ذلك. أكلنا وشربنا الشاي، ورفع أحد الرجال طاولة الطعام ووضع طاولة الشطرنج، وبدأ يتحدى الجميع بطريقة من يرغب أن يُهزم شر هزيمة؟ من يرغب في أن أُحلي به بعد الطعام؟ من يرغب في أن أضربه في أفكاره؟ وقد تطوع زميلي رسام الكاركتير وهزمه بسهولة شديدة، جعلته ينام على جنبه، معطيًا ظهره لنا طوال الوقت. توقعت أنه يشعر بالخزي، ولكن يبدوا بأنه قد غفا وبات صوت شخيره وأنفاسه المتقطعة جزءًا من جو الغرفة. دعاني زميلي رسام الكاريكتير إلى مواجهته، وهو يعرف بأنني جاد للغاية، بينما هو يستحق لقب ملك الكلام البذيء في هذه اللعبة، ولا أعني بالبذيء أنه كلام بذيء، وإنما ذلك النوع المستفز الموجود في الرياضات التنافسية، ولم يكن أيًا من هذا الكلام يؤثر بي، ولكنه كان وبطريقة ما يعرف كيف يصل إلي، وكنت أتجنب اللعب معه منذ وقت طويل. ولكن عندما أعلنت له عن عدم رغبتي في اللعب بدأ يستفزني بسخريته المعهودة بعد عشرة سنوات قررت الرجوع لوظيفتك القديمة، تضحي بحياتك، وتضيع نفسك، من أجل أن تجبر بخاطر عمك السمين، ألا يمكنك أن تجبر بخاطري أنا المسكين؟ العب معي مباراة لأجل الأيام الخوالي! نظرت إليه بتحدٍ وقلت له بأنني لن أتهاون، رد علي بأن هذا هو مايريده! بدأ اللعب وكان زميلي هذا لاعب شطرنج عبقري، لا يتعلم استراتيجيات، ولا ينفذ أي تكتيكات، وإنما يلعب بالحدس، وكان معروفًا في الشوارع والمقاهي وأماكن اللعب العامة، كان اندماجه في اللعب، وتحريكه للقطع بهيسترية، واستهزائه بالخصوم سمات مميزة له، ولكنه كان ضعيفًا للغاية بالنسبة لي، ويقع ببساطة في فخاخي على الطاولة، لدرجة أن السيد نون تطوع لمساعدته وصار يقدم له بعض المعونة. وكنت أجد في هذا إشادة بمهاراتي، واعترافًا منه بقدرتي على الفوز عليه بسهولة، ولكنني قللت من حذري ووقعت في أحد فخاخه المشهورة، إذ وجهني بكلامه لارتكاب خطأ كبير أضعت فيه وزيري، وضربت وجهي ندمًا، وعندما رأى كرهي للخسارة، ولاحظ لومي لنفسي، صار يحمل الكلام ويضعه علي، وأغاظني بقوله أن الشيب الذي يغزوا شعره هذا ليس من فراغ، وبالمقارنة بي فإن خلف أذني لايزال رطبًا! ولما فطنت إلى أنه يعني أنني مازلت طفلًا رضيعًا، وأن أمامي الكثير لأتعلمه، جرى الدم في عروقي، وأصبحت أتمنى من الأرض أن تنشق وتبلعني. توقف الضحك في المكان، وبدأ زميلي يخفف عني بالحديث معي، كيف كانت حياتي، ولماذا سأعود، حكيت له قصة عمي، وكيف أن أعماله في الخارج تدر عليه ذهبًا ورغم هذا هو ملتصق بالوظيفة، ويقضي وقته فيها، شعر بالمكان الذي أذهب إليه، فقال لي هؤلاء مجرد بائسين متعطشين للشعور الزائف بالاستقرار، لو أن لدي دجاجة ما تجاوزت عتبة باب هذه الصحيفة! أخبرته بأن عمي هذا هو الوحيد الذي لو قُطع لسانه فسيكون أفضل إنسان في العالم، رد علي بأن القلوب قدور، والألسنة مغارفها، ويستحسن بي أن أقلع قلبه لأنه لن يتوقف عما يفعله إذا خسر لسانه، أو ربما أقطع شريانه السباتي الموجود في الرقبة بحيث تتغير الدماء الذاهبة إلى الدماغ، وربما يفكر بشكل مختلف. أوتعرف، قد يكون من الأفضل مجابهته بنفس سلاحه، يستحسن أن تبدأ الحديث معه أولًا، إذا لم يستجب يمكنك أن تفعل أيًا ما تراه مناسبًا. حينها تذكرت أن اسأله عن حياته بالمثل، وقد بدا صوته حزينًا وهو يخبرني بأنه لا جديد يُذكر، وأنه يتمنى أن يأخذ أسبوع أجازة، وليس عشر سنوات كما فعلت أنا، لكنه لم يعد يستطع فحسب، أصبحت حياته متمحورة حول هذا الوظيفة، يرسم الكاركتير، ويضحك الناس، مقابل قروش بسيطة، تزوج لأنه موظف، لديه هذه القدرة الخارقة، وأدخل أولاده في مدارس خاصة لأنه موظف، ويعمل بالقطعة في الخارج لأنه موظف، ولذا عليه أن يستمر في الوظيفة حتى يبلغ سن التقاعد، على الرغم من أنه لا يملك خيارًا آخر قال لي والعبرة تخنقه: لقد أضعت نفسي، وأنصحك وأنت لاتزال بالخارج، لا تضيع نفسك. سيكون عليك أن تكرر هذه الساعة كل يوم، العمل ينتهي في دقائق، وباقي اليوم تقضيه في النميمة والقيل والقال. قلت له مواسيًا بأنني لو قمت بتكرار هذه الساعة كل يوم فسأكون أسعد رجل في العالم، بدا عليه الضيق، وقال لي نصحتك لوجه لله، وأنت افعل ماتريد. خرجت من عنده وأنا أشعر بالمفارقة، إذا اخترت العمل في هذه الوظيفة فسأشعر بأنني ضيعت نفسي، وإذا لم أعمل في هذه الوظيفة فسأكون قد ضيعت نفسي، نفس الشيء، إلا أنني إذا رفضت هذه الفرصة المقدمة على طبق من ذهب سأصبح حديث المدينة، من جلب العار لنفسه وأهله، وألقى بجميل الرجل الطيب على الأرض، وسيحرص الرجل الطيب على إخبار الجميع بما حديث. "قدمت له وظيفة وركلها بقدميه، هذا الفتى لا يصلح لشيء". سيقول. وقد حدث ما توقعت، حتى أقرب أصدقائي قال لي بابتسامة مشفقة: ستكون تحت المجهر، سيكون عليك أن تُري الناس لأي شيء تركت الوظيفة. وكدت أجن، لقد تركت الوظيفة لأنني لا أرغب في أن يتم تقييمي في ضوء وظيفتي، لا أرغب في أن أتزوج من عائلة تهتم بأمر الوظيفة أكثر مما تهتم بأمر الإنسان نفسه، لماذا قد أرغب في إثبات أنني كنت محقًا، وأنني تركت هذه الوظيفة لشيء أفضل منها، أنا أعرف أنني مُحق، وأنني قد تركت الوظيفة لشيء أفضل منها، وإلا لماذا قد أتركها! بينما أكمل تعديل هندامي أمام المرآة أنا أرى الآن؛ لقد أصبحت الرجل الذي ضيع نفسه، يمكنني التعامل مع هذا، ولكن إذا تفوه أحدهم –ولن أذكر اسمه- على طاولة الطعام فأقسم بأنني لن أتردد في إخراج الشفرة من تحت لساني وضرب شريانه السباتي دون رحمة، لست مجرمًا ولكنني لن أتردد في فعلها. تمت |