كما وعدتكم، فصلان في العيد ^^ لا تجعلو العيد يشغلكم عن قراءة الفصل XD هذا الطقم تطبيق لدرس الرائعة أكا تستيطعون تطبيقه من هنا وتأكدوا من وجود كأس الشاي أو الشاي بلبن أو القهوة بجانبكم مع طبق من حلويات العيد لتستمعوا بالقراءة :tb403: فالفصلين طُوال ولن ينتهوا بسرعة XD ملحوظة: يمكنكم الرد على آخر فصل فقط ولا يلزمكم الرد على كلا الفصلين >انشغال العيد وكذا Xd وإن كان عندكم فراغ وأحببتم الرد على الفصلين فلن أرفض طبعًا ذلك منكم ههههههه رواية عيون لا ترحم [26] كيف كانت البداية؟ -1- "والآن.. ماذا عندك؟" قلتُ ذلك بعدوانية واضحة وأنا أقف أمام مكتب عمي، الذي ضحك بخفة قائلًا: فلتتفضلي بالجلوس أولًا.. قلتُ ببرود: لم آت إلى هنا لنتحدث حديثًا وِدٍّيًّا! تحوّل وجهه إلى الجدّية وأخفى ابتسامته قائلًا: بالتأكيد.. ولكن إذا لم تجلسي فستتعبين من الوقوف، فالحديث طويل! عقدتُ حاجبي عندما اقتنعتُ، وجلستُ ببطء على الكرسي الذي أمام مكتبه، فتساءل برفق وهو ينظر إلى أوراق على مكتبه: هل تناولتِ غداءك؟ شعرتُ بأنني أجلس على جمر موقد بانتظار حديثه الذي سيقرر مصيري في الحياة، وهو يضع يده في مياه مثلجة وليست باردة فقط! قلتُ باستخاف: لم آت لنتكلم عن هذا أيضًا! نظر إليّ مباشرة وقال بإعجاب ساخر: أوه، لقد أصبحتِ جريئة حقا يا قمر! امتلأت عينيّ بنظرة قوية جازمة وحاولت إخفاء لهجتي المرتجفة وأنا أقول: بالطبع، والآن.. أخبرني.. لماذا.. قتلت أبي؟! كان هذا أول سؤال مباشر أسأله لعمي عن جريمته السابقة، ولقد سألته الآن بشكل مفاجئ ليستوعب الانفعالات التي أعانيها الآن ويبدأ في تناول الموضوع بشكل جدّي! وللحق لقد تغيرت نظرة وجهه كلها بعد هذا السؤال وخمدت عيناه، وكأنها أظلمت عندما تذكر ما فعل! أخذ نفسًا عميقًا عندما أدرك أنني جادة تمامًا وإذا لم يبدأ حالاً في الحديث المهم فأنا مستعدة لمغادرة مكتبه. تراجع في كرسيّه ببطء وهو يصوّب نظراته الهادئة إليّ، كنتُ أحترق في حين أن أقصى ما ظهر عليه هو الهدوء الشديد والجدّية.. وإن كنتُ لمحتُ بعض الندم في عبارته التالية: أولًا يا قمر.. قبل أن أتكلم عن هذا، سأحكي لك كل شيء من البداية.. وكيف عرفتُ من هو هيثم، وكل شيء.. لكن عديني أولًا، أن الكلام الذي سأقوله الآن لن يصل حرف واحد منه إلى أي مخلوق في الدنيا غيرك.. أتفهمين؟ وعلى الرغم من رغبتي المستمرة في معاندة عمّي، إلا أنني غمغمتُ في استسلام: فهمتُ.. أومأ عمي برأسه راضيًا، وشرد بعينيه قائلًا وكأنه يحكي قصة يراها أمامه: لا شك أنك تعلمين أنني أنا وآسر كنا توأمًا متطابقًّا لأبوين عانيا الحرمان من تأخر الإنجاب، حتى جئنا نحن بعد 15 سنة من التأخر، وكانت فرحة والدي ووالدتي بي عظيمة، حتى أنني لا أذكر في صغري أي شيء سوى أن طلباتي كلها كانت مُجابة! للأسف أمي حدث لها نزيف بعد ولادتنا واضطرت لاستئصال الرحم، مما حرمها من الأطفال بعدنا أيضًا. كانت أمي تدللنا جدّا.. وأبي يشد علينا نوعًا ما، كان آسر متفوقًا وناجحًا في دراسته مما جعل أبي يفخر به، أما أنا فكنتُ تحت تأثير دلال أمي أعيش مغامرات الشباب والمراهقة وأبذر المال بلا حساب ولا عقاب. لا أدري لماذا.. شعرتُ أنني أشاهد فيلمًا سينمائيًّا، أرى فيه والدي وعمي وهما شباب، كانت القصة قد أخذت كل انتباهي، فتكاسلتُ حتى عن رمش عينيّ وأنا أنظر إلى وجه عمي وهو يحكي حياته الماضية بلهجة ممزوجة بالأسف والحنين: للأسف مرضت أمي وتوفيت ونحن في المرحلة الثانوية، الحزن أثر على كل واحد فينا تأثيرًا مختلفًا، فأنا كنت مستمرًّا في مغامراتي بل تطور الأمر إلى إدمان للسجائر لأنسى وفاة أمي، أما آسر فقد صُدم بشكل آخر، ظهر على وجهه الجدّية الشديدة بخصوص الدراسة وحروب العالم وبدأ يهتم بالأخبار، كنت في وادٍ وهو في وادٍ آخر تمامًا. والدي هو أكثر من تأثر بوفاتها، فقد كبر سنه فجأة وشاب رأسه وبدأ يتوقف عن إصراره بأن نحرز الدرجات العالية كسابق عهده، وكان يجلس في غرفته معظم الوقت مكتئبًا، يرعاه الخدم، كنت أمرّ عليه في نهاية يومي فينظر إليّ بعينين آسفتين على حالي وتارة غاضبتين، كنت حينها لا أتحمل نظراته اللائمة فبدأت أتجنب مقابلته بالكلية.. تتابعت الصدمات وتوفي أبي بعد تخرجنا من الجامعة، تأثرتُ حينها بشدة لوفاته لتقصيري الشديد معه، وبدأت أهجر أصدقاء السوء واتجهت إلى سوق العمل لأبدأ مسيرة حياة جادة بعيدًا عن حياة الندم، واشتريتُ بورثي من أبي شقة فخمة وسيارة وبدأت أبحث عن الزوجة الصالحة التي تأخذ بيدي إلى الجنة كما يقولون. كان أخي أيضًا بدأ يؤسس مشروعه في إحدى الشركات بورثه من أبي، ونجح فيه نجاحًا هائلًا وأصبح أحد أبرز رجال الأعمال المتفوقين في البلد، وتزوجنا نحن الاثنان في نفس السنة تقريبًا. سكت عمّي ليستريح قليلًا ويرى نظراتي المنبهرة، كنت متحمسة جدا لكلامه، أول مرة في حياتي أدرك تاريخ والدي بهذا التفصيل! كنت أعرف الخطوط العريضة عنه من صغري، مثل أن جدّي وجدتي قد توفيا، وأن أبي يملك مشروعًا ناجحًا، وما إلى ذلك. لكن كان عندي فضول شديد بخصوص أمي، فسألته بلهفة: ماذا كانت صفات المرأة التي تزوجها أبي؟! ابتسم للهفتي تلك وكأنه فرح لاهتمامي الشديد بكلامه، فقال مبتسمًا: اممم. حسنًا، لا أعرف الكثير عنها بصراحة، لكن كل الذي أعلمه أنها كانت فائقة الجمال، هادئة، رقيقة.. لم أكن أذهب إلى أخي كثيرًا ولم أقابلها سوى يوم الزفاف تقريبًا! وكم حزنتُ عليها عندما عرفتُ أنها توفيت في حادث وأنت في الثالثة من عمرك. فقد كانت صغيرة للغاية! شعرتُ بإحباط لأن المعلومات التي كان عمي يعرفها كنت أعرفها تقريبًا، آه يا أمي..أنا لا أستطيع تذكرك حقا.. هل كنتِ حنونة يا ترى؟ ابتسمتُ بدفء وأنا أتخيل منظر أم لي فظهرت صورة أماني على الفور..! حسنًا، لأقول الحقيقة، أماني شعرتُ منها بدفء الأم وربما أكثر، وأنا متأكدة أن أمي لو كانت حيّة لكانت بمثل حنان أماني. ابتسم عمي قائلًا: هل كنتِ تتمنين أن تعيش والدتك؟ نظرتُ بحيرة وقلتُ: لا أدري، فأنا راضية جدا بكون أماني قد ربتني. ثم تذكرتُ الموضوع الأصلي فسألتُه بحسم: والآن، ماذا حدث لكي تتطور الأمور بينكما هكذا و.. تفعل ما فعلتَ؟ أطرق عمي برأسه في صمت وشرد ثانية: حسنًا، كل ما حدث هو أنني.. بعد الزواج بفترة بسيطة، فقدتُ عملي، ودخلتُ في دوّامة البحث عن عمل جديد، ولأنني لست بتفوق والدك فلم يكن قبولي في أي عمل سهلًا، وفي نفس الوقت كنت أعلم من نفسي فشلي في إدارة المشاريع ولكنني تحديت نفسي لرغبتي في أن أكون ناجحًا كأخي، واستدنت قرضًا لأبدأ أول مشروع أوصاني به بعض الأصدقاء لكنني فشلتُ فشلًا ذريعًا، وزادت ديوني إلى الضعف ولم أعرف ماذا أفعل.. كانت حينها جوهرة حاملًا في باسل، وانشغلت بولادتها ومجيء أول طفل لي، وتزايدت الديون باستمرار دون تصرف جادًّ مني، وبعدها بسنة أخرى جاءت دانة، حتى اضطررت إلى بيع منزلي الفخم وسيارتي، وبعض من أثاث المنزل، وانتقلنا للعيش في حي سكني متواضع، كانت جوهرة دائمًا ما تشتكي من بطالتي وحالي وديوني، وبدأت أشعر بضغط نفسي رهيب حتى أنني لم أكن فرحًا بمجيء دانة، ساعدني أخي آسر حينها بمبالغ كبيرة كان يرسلها كل فترة لكن للأسف لم يكن بإمكانني أن أسدد ديوني بها! وكنت أستهلكها في مصاريف الحياة وفقط، تذكرتُ إدمان السجائر في مرحلتي الثانوية وعدتُ إليه بعد شوق لنسيان عنائي المتواصل، وتطور الأمر حتى أدمنتُ الخمر، وكانت أجمل لحظة في حياتي هي دخولي إلى الحانة وبدء الشرب حتى السكر. ابتسم ابتسامة باهتة لي فبادلته نظرة ازدرداء جعلتْه يقول بانكسار: أظنّ أنك تحتقرينني في داخلك الآن، لكنني أتفق معك تمامًا أنها كانت فترة سيئة في حياتي للغاية! وكم أنا نادم عليها.. وأحاول كل يوم محو آثارها السيئة من حياتي الحالية! فإدماني المتواصل وبطالتي وظروفي السيئة جعلت جوهرة تخاصمني وتذهب إلى أهلها، وأخبرتني أنها لن تعود إلى المنزل حتى أقبل في وظيفة جديدة وأتوقف عن إدماني وأبدأ حياة نزيهة شريفة.. كنت أتمنى من جوهرة أن تدعمني في موقف كهذا لا أن تتركني وتطلب الطلاق، لكن بصراحة معها كل الحق فيما فعلت، فلم يكن من المنطقي أن تتحملني وهي معها طفلان. استدنتُ من أخي مبلغًا لبدء مشروع صغير يمكنني من سد ديوني، لكن مع استهتاري وحياة اللهو والدعة لم أكن أعمل بجد ففشل المشروع كما هو متوقع. طلبتُ من أخي قرضًا آخر وهذه المرة بصراحة لم أنفقه على مشروع وإنما على الخمر! عرف أخي بذلك فأخبرني أنه لن يقرضني مرة ثانية أبدًا! تضايقت منه كثيرًا، وشعرت بأن زوجتي وأخي قد تخلوا عني، واعتمدت أكثر على أصدقائي في الحانة، وكان منهم الطبيب سالم الذي ذهبتُ بك إليه سابقًا، كان فشل في قصة حب له فاتجه إلى إدمان الخمر، وأصبح صديقًا لنا، عرفتُ في تلك الفترة أن عمل والدك قد نجح نجاحًا رائعًا حتى أنه بدأ يؤسس منظمات خيرية لتربية الأيتام، وكنت كلما طلبت منه قرضًا يرفض بحجة أنني سأسيئ استخدامه، فامتلأت كرهًا له، وأعماني الكره حتى أنني.. فكرتُ بقتله!! اتسعت عيناي دهشة ورعبًا، هكذا إذن يا عمي، أردت قتل والدي لأجل أن ترثه! لأنه منعك من ماله! أنت فعلا وغد قاتل! شعرتُ في تلك اللحظة بقهر وألم في قلبي، ونظرتُ إلى عمي نظرات ملؤها الغضب، فابتسم واهنًا: أدرك سبب نظراتك الآن، ولكن تمهلي، سأحكي لك نهاية القصة.. عقدتُ حاجبيّ في ضيق، وأنا أشعر أنني على وشك فقدان أعصابي.. تفضل أيها القاتل أسمعني كيف قتلتَ أبي! هل تتخيلون شعوري الآن؟ أكمل بصوت مُرهق: ذات يوم ذهبتُ إلى أخي مرة ثانية، يئست من طلب القروض، طلبتُ منه المساعدة في الحصول على عمل.. فأخبرني أنه يمكنني العمل في إحدى شركاته بشرط الالتزام.. فرحتُ كثيرًا بذلك، ونويتُ أن أجتهد، وامتلأ قلبي بالأمل.. قابلتُ لديه رجلًا كان هو هيثم، عرفني أخي عليه سعيدًا بقوله إنه شريكه في مشروع مركز الأيتام الذي أتمّه مؤخرًّا. رحبنا ببعضنا البعض بشكل سطحي وانتهى الأمر. عندما بدأت العمل كانت الأيام الأولى مليئة بالحماس وكنت قد انقطعت عن الخمر والسجائر بشكل فجائي ظنًّا مني أن هذا هو الأفضل، لكن بعد أسبوع واحد أصابني شوق رهيب لها وضعفت نفسي وعدت إلى إدمانها، للأسف أدى هذا إلى تكاسلي وتهاوني في العمل وتأخري عليه في أيام وغيابي أيامًا أخرى.. في نهاية الشهر فوجئت بأن كل ذلك قد خصم من المرتب، اشتعلت نار الغضب في داخلي وذهبتُ لأشتكي لأخي، فردّ بهدوء صارم أنه لن يميزني عن بقية موظفي الشركة فكل موظف يتأخر أو يغيب يُخصم من راتبه وهذا هو الطبيعي.. بدأ حماسي يقل تجاه العمل فلم أكن قادرًا عن الانقطاع عن الحانة والشرب وفي نفس الوقت كنت يائسًا لفقدي أملي الوحيد المتبقي.. لم أستطع إيقاف الإدمان بنفسي، كنت بحاجة لأصدقاء أو مساعدة.. لم يكن هناك أي شخص يرشدني. وفي غمرة سكري ذات مرة فوجئت بهيثم ذاك يدخل نفس الحانة التي أنا فيها. صدمت به لأنني ظننتُ أنه قادم لمحاسبتي على تركي للعمل.. لكن خاب ظني عندما سلّم علي مازحًا وسألني عن أفضل نبيذ هنا! سألته بذهول: كيف تشرب هنا؟ قال ببساطة: وما المانع؟ لا بأس ببعض الترفيه أقضيه في إجازتي الأسبوعية أليس كذلك؟ مرّت الأيام وأصبح هيثم نوعًا ما صديق شرب جديد.. لم يكن يأتي كثيرًا ولكنه في إحدى مراته القليلة عرض علي أن يقرضني مبلغًا كبيرًا وبدون فوائد فكانت فرحتي عظيمة، وبدأت أتشجع وأسد ديوني شيئًا فشيئًا لكن بقية المال كنت أصرفه في الحانة! وكثر تردده على الحانة مع عرضه للقروض علي بكل بساطة وسلاسة، صحيح أنه كان يكتب عليّ وصولات أمانة لكن هذا كان ليضمن حقه، وكان يعدني أنه لن يطالبني بها إلا بعد انصلاح حالي. وصارت ديوني منه مجتمعة ما يقارب المليون جنيه، عند هذا الحد بدأ هيثم يتأفف من عدم ردي لأي دين طوال هذه المدة، وطالبني بنصف الديون فقلتُ له محتارًا أنه ليس معي ما يسدها وأنه لم ينصلح حالي بعد، لكنه تنكر لي وقال أنني أتكاسل عن العمل ولن ينصلح حالي أبدًا. بدأت أشعر بهمّ كبير ولم أدر ماذا أفعل، وذهبتُ كالعادة لأخي لكنه أعطاني محاضرة وعظية غاضبة أن أصلح حالي أولًا ليساعدني، فانفجرتُ فيه غيظًا بقلة حيلة لأنه لا يمكن أن أصلح حالي في يوم وليلة كما تعلمون! توسلتُ لهيثم حينها باكيًا أن يمهلني سنة أو أكثر، لكنه هددني بالسجن إذا لم أسدد ديونه في خلال شهرين أو ثلاث على الأكثر.. صُدمت جدًّا من هيثم فلم أتوقع منه أن يكون نذلًا إلى درجة أن يهددني بالسجن! إلى هذا الحد أظنّك في داخلك تبررين لهيثم ما فعله لي صحيح؟ التفت لي عمّي وابتسم ساخرًا، وأكمل: بما أنك تعتبرينه صديقًا لوالدك فستقولين داخل نفسك أنه من المنطقي أن يطالب بديونه صحيح؟ عقدتُ حاجبيّ عابسة، فلم يعجبني أمر أن هيثم كان يتردد على الحانة للشرب مع عمّي! ولم يعجبني أن يقرر إقراض عمي وهو يعلم أنه لن يستطيع رد الدين الآن، كان عليه أن يساعد عمّي في العلاج من إدمان الخمر أولًا. لكن ما فعله الآن لا يُقارن بالجريمة التي صنعها عمّي في بالطبع. قلتُ ببرود: نوعًا ما هذا صحيح، فالجريمة التي فعلتَها أنت يا عمي كانت أفظع! ابتسم عمي بدهاء قائلًا بنظرة خاصة: أتعلمين ما هو الطلب الذي طلبه مني هيثم بعد ذلك ليحل مشكلة الديون التي عليّ؟ تساءلتُ بدون مبالاة: ماذا؟ قال عمّي هامسًا: أن أقتل والدك! انتفضتُ من مكاني بفزع، هيثم هو من طلب من عمّي أن يقتل أبي!؟؟! "هذا مستحيل"! قلتُ ذلك بصرخة، وأتبعتُها: هذه كذبة جديدة منك! بلا شك! ابتسم عمّي منتصرًا وكأنه يستمتع بردة فعلي، وقال بثقة: لك حرية التصديق من عدمه، لكن أنا أحكي لك ما حدث.. حتى تعلمي حقيقة ذلك الوغد! عقدتُ حاجبيّ بغضب وبدأت أنفاسي تزداد حدة، لا أصدّق.. بل لا يمكنني تصديق هذا! فهيثم هو أعز أصدقاء والدي.. لا شك أن عمّي يكذب ليبرر جريمته! وقفتُ فجأة وقلتُ باضطراب حاد: لا يمكنك خداعي.. لقد جئت إلى هنا لتحكي لي ما حدث حقا، لا لتتهم السيد هيثم بتهم كاذبة لتقنعني بضرورة تركه! إن كنت تريد أن أصدق ذلك فهاتِ الدليل وإلا سوف أخرج من هنا! مدّ عمي يده ليمسك يدي بصرامة قائلًا بهدوء: اجلسي يا قمر.. اجلسي واستمعي بهدوء إلى نهاية الحديث، لن يمكنني تقديم دليل بالطبع على كلامي لأن ما حدث لم يكن مُسجلًّا، أنا قلتُ لكِ حرية التصديق لكن يجب عليك أن تسمعي إلى النهاية! نظرتُ إلى وجهه الهادئ وعينيه الصارمتين، وفوجئت بنظراته القوية تخترق عينيّ حتى تكاد تنفذ منها، بدت لي ثقته بنفسه وبكلامه لا نهائية، في حين أنني كنتُ أرتجف اضطّرابًا من داخلي، هل يمكن أن السيد هيثم هو من خدعني؟ كلّا.. أنا أثق به أكثر من عمّي الكاذب! ولكن لا بأس.. سأجلس حتى نهاية حديثه لأريه أنني لا أخاف من كذبه الصريح! سحبتُ يدي منه بسرعة وخبأتها في حجري وأنا أجلس وأحاول السيطرة على رعشة جسدي لأقول بصوت ثابت: سوف أسمع حديثك السخيف إلى نهايته إذن! انفرجت شفتاه عن ابتسامة هازئة من مقولتي، لكنه أخفاها بسرعة قائلًا: لا بأس، أنا سأحكي كل شيء كما حدث، سأحكي الأحداث التي تدينني والتي تدين هيثم على حد سواء.. لذا لا يمكنك اعتباره كذبًا صريحًا، فأنا لم أحاول تبرئة نفسي في أي شيء. تراجع بظهره إلى الوراء وقال بصوت عميق: هيثم لم يطلب مني قتل والدك صراحة، ففي بداية الأمر قال بتلميح خبيث منه: يا لسوء حظك يا ياسر، فأنت ستسجن وتقضي بقية حياتك في السجن، في حين أن آسر يستمتع بثروته دون أن يبالي بك، لكن بمجرد موته.. ستصل ثروته كلها إليك، مما سيحل كل مشاكلك صحيح؟ فهمتُ تلميحه الخبيث ذلك على الفور وغضبتُ قائلًا: هل تظن أنني سأتمنى موت أخي لمصلحتي الخاصة؟! إن كان الأمر يقتضي موت أخي فلأسجن أنا بالطبع! كل ما فعله هيثم حينذاك أن أطلق ضحكة عالية سافلة، وقال بعينين برّاقتين: لنرى هل ستظل بنفس رأيك هذا في السجن أم ستغيره؟ وللحقيقة لقد استطاع هيثم أن ينبت بداخلي الخوف، الخوف الشديد أنه يمكنه سجني في أية لحظة، وفي نفس الوقت الحقد الشديد على أخي الذي لم يكن مباليًّا بي، كل هذه المشاعر سببت لي يأسًا واكتئابًا فظيعًا، جعلني أدمن الحانة أكثر من منزلي، حتى أنهم كانوا يطردونني منها عندما يأتون لإغلاقها في الصباح، وكان هيثم يأتي بعض الأحيان ليساعدني على المشي وأنا سكران حتى شقتي. ومعظم الأوقات كان يحاول التلميح لي بأن موت أخي هو الحل الوحيد لمشكلتي، فأنا لا يمكنني العمل حتى أعالج نفسي من الإدمان، وفي نفس الوقت لا يوجد متسع لا للعمل ولا للعلاج، أي أن السجن هو مصيري المحتوم! كنت أرفض هذا الكلام وأقوم بتقريع هيثم حتى وأنا سكران! لكن مع الوقت أصبحت تلك التلميحات تمس رغبة دفينة في داخلي.. رغبة الموت لهذا الأخ غير المبالي القاسي! لكنني لم أفكر في قتله، صحيح أنه وصل بي الحال أن أتمنى موته بالفعل، لكن لم أفكر قط بفعل شيء بنفسي. حتى صرّح لي هيثم ذات مرة بقوله متهكمًا: هل تريد أن تعرف كيف تقتل رجلًا بمجرد سكين يا ياسر؟ استهدف مناطقه الحيوية! سألته على مضض: وما هي مناطقه الحيوية؟ اتسعت ابتسامته الحقيرة وأراني رسمًا على هاتفه لمخطط إنسان، مع تبيان للمناطق الحيوية التي إذا أصيبت تؤدي إلى الموت السريع، كان هذا كله إعدادًا.. ليجعلني أفعل ما يريد، ثم قال متظاهرًا بالتفكير: أتعلم أن منزل السيد آسر يكون خاليًا تقريبًا من الخدم في الساعة الثانية عشر ليلًا؟ أما في يوم الجمعة فيكون خاليًا من الخدم والسائق أيضًا! كنت أعرف مقصده جيًّدا من قول ذلك لكنني غضبتُ بشدة وصرخت فيه هذه المرة: ماذا تعني يا هيثم؟! أجبني أيها الحقير.. وأمسكتُه من تلابيبه غاضبًا، كان وجهه مبتسمًا ابتسامة صفراء مقيتة وهو يجيب: أقصد ما تتمناه في داخلك يا ياسر! انفجرتُ فيه صارخًا: وما مصلحتك فيما أتمناه أنا أيها الوغد؟ لماذا تلمّح لي تلك التلميحات القذرة؟ قال بعينين لامعتين كعين الثعابين: مصلحتي في مصلحتك! هتفتُ بجنون وأنا أهزّه: وما مصلحتك في موت أخي؟ انطق..! تغيرت ملامحه للغضب عندما وجدني أضربه في الحائط وأنا ممسك بتلابيبه، فنزع يدي بقبضة حديدية وهو يقول: مصلحتي أيها الغبي في مالي الذي سأسترده منك! فبطبيعة الحال ورثك سيوزع أولًا للدائنين والمتبقي لك. نظرتُ له باستحقار قائلًا: أتعني أنك تتمنى موت شريكك فقط لأجل المال؟ قال بعينين جامدتين: نعم! صدقته في ذلك الوقت، وفهمتُ أنه حقير مثلي يتمنى زوال شخص فقط لأجل المال، حتى جاءت تلك الليلة.. التي قُتل فيها والدك. ارتعشت شفتاي وأوشكت عيني على إنزال الدموع، لكنني تماسكتُ لأسمع الجزء المهم.. كيف فقد أبي حياته على يد هذا المجرم! قال عمي بعينين خامدتين ولهجة جامدة: في ذلك اليوم -يوم الجمعة-، كنت أنهيت عملي كرجل أمن في أحد المتاجر، ذلك العمل الذي كان أسهل شيء أحصل عليه عند تورطي في مصاريف الحياة اليومية، أنهيت ورديتي في الساعة الثانية عشر صباحًا، وذهبتُ إلى الحانة لأكمل سهرتي حتى الصباح، هيثم دخل إلى الحانة وقتها وسهر معي، بعد الشرب نعست جدا وبمجرد أن وضعت رأسي على الطاولة نمت، عندما استيقظت.. كانت المفاجأة. عقدتُ حاجبيّ بانتباه شديد، هل قتل عمي أبي وهو سكران؟! تابع عمي بنبرة متعبة: وجدت نفسي على أريكة في شقة هيثم القريبة من الحانة، كنت متوقعا ما حدث فلا شك أنني نمت على نفسي ولم أستطع الإيقاظ واضطر أصحاب الحانة لطردي في الصباح مما جعل هيثم يساعدني ويجلبني إلى شقته، كان في رأسي صداع فظيع، رفعتُ رأسي لأنظر إلى الساعة وجدتها السابعة صباحًا، تنهدتُ بإرهاق وأنا أعاود الاستلقاء على الأريكة لولا أنني فوجئت بمنظر قميصي الأبيض الذي كان ملطخًّا بالدماء! قمتُ فزعًا، ما هذا؟ هل جرحني أحدهم في الحانة أم ماذا؟ فتشتُ في صدري، لم يكن هناك أي جرح، ولا أشعر بأي ألم، معنى ذلك أن هذه دماء شخص آخر؟! أنا لا أذكر بتاتًا ما فعلتُه البارحة، هل يُعقل أن السكر جعلني أعتدي على شخص ما؟ أيقنتُ ذلك برعب.. وقمتُ ملهوفًا أنادي على هيثم بهيسترية وقدميّ ترتعشان.. ظهر هيثم من غرفته ونظر إليّ نظرات خاصة لم أفهم معناها، وقفتُ أرتجف وسألتُه بجنون: هيثم.. ما.. هذا .. الدم الذي على صدري؟ هل.. فعلتُ شيئًا وأنا.. مخمور؟ أجاب هيثم بنظرات باردة صادمة: نعم.. لقد قتلتَ شخصًا!! اتسعت حدقتا عينيّ من الذهول حتى كادت أن تخرج من مكانها، وتمتمتُ باختناق: قـ..قـتلتُ.. شخصًا؟!! ما الذي تقوله.. بالله عليك يا هيثم.. لا.. تمزح معي! لم تلن ملامح هيثم الجامدة، غاب في غرفته ثم خرج حاملًا خنجرًا ملطخًا بالدم، وقال بتهكم مرعب: هذا السلاح الذي استخدمته.. ارتخت قدماي وجثيتُ راكعًا على الأرض وأنا أهتف بانهيار: ماذا تقول.. أتعني أنني قتلتُ أحدهم فعلًا؟! من.. هو؟ برقت عينا هيثم ثم قال بابتسامة شامتة: مبارك يا ياسر.. أنت الآن وريث المليونير! صُعقت، جحظت عيناي من الألم والصدمة، رددتُ في رجفة: قتلتُ.. أخي؟! كلا... مستحيل! لا.. لا .. وبدأت بالصراخ منهارًا، أمسكني هيثم بقوة وكتم فمي قائلًا: رويدك يا رجل، أأنت مجنون؟! هل تريد أن يبلغ عنا الجيران ويأتون للقبض عليك؟ بدأت دموع عيني تسيح لأول مرة بحرقة شديدة، قال هيثم بغضب: حالتك يُرثى لها فعلًا، عندما تهدأ سأقص عليك ما حدث! تركني وقام، فأكملت بكائي بصمت، مرّ أمامي ثانية فرفعتُ رأسي قائلًا بصوت منبوح متوسل: هيثم.. أرجوك أخبرني ما حدث! ابتسم بزاوية فمه، وجلس على كرسيّ المائدة ووضع رجلًا على رجل، قائلًا: ماذا تتوقع؟ كنت كالعادة مخمورًا ولا تشعر بنفسك ولا بتصرفاتك، ساعدتك حتى الوصول إلى هنا، ودخلتُ غرفتي لأسهر قليلًا قبل نومي.. لأفاجأ بصوت باب الشقة يُفتح، خرجتُ لأجدك قد قمت من نومك وخرجتَ من الشقة! لم أعرف إلى أين ذهبت، وحاولتُ البحث عنك في الشارع بلا فائدة.. حتى فوجئت بك راجعًا إلى شقتي ملطخا بالدم وحاملًا الخنجر، لم يكن هناك أي شخص في الشارع قد لاحظك فقد كان الوقت الثالثة فجرًا.. وأكملت نومك وكأن شيئًا لم يكن! وفي الصباح انتشر خبر مقتل أخيك في القنوات الإخبارية كلّها.. فتأكدتُ أنها من فعلتك! عند تلك اللحظت سكت عمّي، أنا كنت مستغرقة في حديثه حتى النخاع، لم أستطع أن أبدي أي ردة فعل ولا أقول أي كلمة، كل ما شعرتُ به هو الألم.. عمّي فعلها وهو سكران إذن، لكن هذا لا يبرر ما فعله أبدًا! اكتسى وجه عمّي الأسى ونظر إلي نظرات باهتة وهو يقول: هذا ما حدث.. وقد قصصتُ عليك كل شيء من البداية لتفهمي حقا ما حدث. هيثم ذاك ما هو إلا كذاب ومخادع، لقد صادق والدك في الظاهر لكنه كان يحقد عليه من داخله ويتمنى موته! وابتسم ابتسامة واهنة وهو يغمغم: ولا شك أنه أقنعك بأنني مجرم وقائد منظمة جاسوسية وأنني لم أقتل أخي إلا لأغراض التجسس، وأنت صدقتِه دون أدلّة أو براهين قاطعة وتبعتيه كالعمياء.. عقدتُ حاجبيًّ ضيقًا لوصفي بالعمياء، صحيح أنني الآن مصدومة في داخلي من هيثم، وأشعر بحيرة عظيمة فيما حدث، لكن أضع في اعتباري كون عمي كاذبًا أيضًا! فحتى إن كنت سأفقد ثقتي في هيثم فهذا لا يعني أنني سأثق بالمقابل في عمي! سيكون الاثنان مجال شك لي.. قلتُ بحنق: وهل هذا كان ذنبي أنا أم ذنبك أنت؟ أليس أنت من صنع تلك الجريمة البشعة؟ ألست القاتل الحقيقي؟! أنت من جعلتني أفعل كل ذلك وألجأ إلى أول شخص شعر بي وتفهم ما أعانيه! سكت عمّي وهو ينظر إليّ باستسلام، كأنه يقرّ بالكلمات التي أقولها، مما شجعني على قول المزيد بحرقة وغصة: لقد كنت تتعامل معي طوال عمرك باستهزاء وسخرية، وكأنني غير موجودة في حياتك، أو كأنني عبأ ما أضيف إلى سلسلة أعبائك، ولم تكلف نفسك يومًا أن تنفي التهمة عن نفسك أو حتى تثبتها! كنتَ تتجاهلني بالكليّة، وتريد مني ألا أنساق خلف هيثم الذي أبدى ثقته بي وحكى لي أشياء لم أكن أعرفها عن أبي؟! ثم أضفتُ بحدة: ومن قال لك أنني تبعتُه دون دليل؟ لقد أراني صورة لأبي معه وقال أنه كان أعز أصدقائه، وقال لي أنه يعرف القاتل! فكان هذا أقوى دليل بالنسبة لي لأعلم أنه صادق فيما يدّعيه! كما أنه عرض علي هدفا مشتركًا، فقد كان يريد الانتقام منك وأنا أيضًا.. فأنا لم أتبعه بشكل أعمى كما تقول! وسكتت لآخذ أنفاسي بثورة، في حين أن عمي كان صامتًا ينظر إلي وإن كان في عينيه مزيج من الأسى والندم، سكت عمّي لبضع ثوان ثم قال بابتسامة حزن: إذن أنت تريدين الانتقام منّي، لهذا انضممتِ له؟! قلتُ بتحدٍّ: نعم، وعلى فكرة، لن أترك منظمة هيثم إلا وقد انتقمتُ منك، فإن كنت تريد أن أتركهم، فاجعل انتقامي يتحقق بصورة مرضية لي! تساءل بوهن: وما الانتقام الذي تريدينه أن يتحقق فيّ؟ قلتُ بجمود: أن تسلّم نفسك للشرطة إن كنتَ صادقًا في ندمك على قتل أبي! شرد عمّي بعينيه، ثم غمغم بيأس: لا أستطيع فعل ذلك بالطبع! قلتُ بعدوانية: لماذا؟ ألم تقل أنك نادم على ما فعلتَ؟! ثم قلتُ مستهزئة: أم أنك خائف من تدمر صورتك أمام زوجتك وأبنائك!؟ بأن يعرفوا أنك مجرم! قال باكتئاب مرير وكأن وقع كلامي عليه يصيبه في مقتل: ليست المسألة أنني نادم أم لا، أنا نادم بالفعل وتبتُ، لكن لا يمكنني تسليم نفسي لأسباب كثيرة، أهمّها أنه ليس معي أي دليل، ولا أريد إثارة بلبلة دون داع ستؤذي سمعة أطفالي وزوجتي وأنت أيضًا! كما أنه لا أحد بعدي يتولى أموركم، وإن سلمت نفسي كما تقولين، فربما تشك المحكمة في صحة عقلي إذ لا دليل لدي أقدمه، ولا يوجد عاقل يقول إن أخًا قد يقتل أخاه التوأم! وطريق المحكمة طويل، قد يُزج بي في المصحة العقلية مثلًا لأقضي ما تبقي فيها من عمري، أو إذا صدقوني فعلًا بدون دليل، فقد يحكمون علي بالسجن المؤبد أو الإعدام.. لأصدقك القول كل تلك الاحتمالات ترعبني جدَّا.. ليس لأجلي فقط وإنما بالتفكير في مصير باسل.. ودانة.. وأنت وبراءة، وزوجتي جوهرة.. خمستكم ستظلون تعانون لبقية حياتكم في مجتمع مريض جاهل، تظلون منبوذين، وسيؤثر ما حدث على الشركة، مما يعني خسارة الصفقات الهائلة وربما تفلس، بالتالي تصبحون على أبواب الفقر.. وبدلًا من أن يضيع مستقبلي أنا فقط، يضيع مستقبلكم معي! وأنا لا أريد أن يحدث كل هذا لكم لمجرد أنني نادم على جريمتي! فيؤدي ندمي إلى جريمة أخرى بالنسبة لكم! كان كلامه منطقيا حينها، لكنني شعرتُ بغضب من فكرة أنه يريد التهرب من المسؤولية ولا يريد التكفير عن ذنبه بأي طريقة! فقلتُ بعينين ناريّتين: أتعني أنه لا سبيل لتسليم نفسك، بالتالي لن أستطيع الانتقام منك وأخذ حق والدي، وفي المقابل تطالبني بالتخلي عن منظمة هيثم! أومأ برأسه بهدوء أثار استفزازي: نعم.. هذا مطلبي ولا يمكنني تقديم شيء في المقابل يحقق انتقامك كما تقولين! ثارت ثائرتي حقا، شعرتُ بغضب هادر يعصف بأحشائي، الوغد.. قتل أبي، وضيّع مستقبلي ويّتمني، ويطالبني الآن بالتخلي عن انتقامي بكل بساطة وترك المنظمة التي يتهمها بأنها مخادعة، كل هذا بلا شروط ولا ضمانات.. وبدون أن يكلف نفسه أي شيء! قمتُ واقفة وقلتُ بشفتين مرتجفتين من الغضب: بل هناك شيء يمكنك تقديمه يا عمّي! تساءل بحذر: وما هو؟ قلت بقوة: حياتك! اتسعت عيناه بصدمة، فقلتُ بكراهية: إذا كنت لا تريد تسليم نفسك لكل الأسباب التي ذكرتَ، يمكنك إذن تسليم حياتك! وسأتأكد حينها أنك نادم حقا على قتل أبي! وأترك منظمة السيد هيثم للأبد! ظهر على وجه عمّي الجدية وهو يقول: تريدين قتلي إذن؟! قلتُ بثبات: نعم! ابتسم نصف ابتسامة قائلًا: ومستقبلك؟! قلتُ باستحقار: لا شأن لك به، إنه مستقبلي الخاص.. تنهد عمّي بحرارة ثم فتح أحد أدراجه، وأخرج شيئًا طويلًا ملفوفًا بقماش، فتحه ببطء وابتسم على نظراتي المتحفزة قائلًا: لا تقلقي.. سأعطيك ضمانًا! سلّمني الشيء الذي فوجئت به على يدي، كان مليئا بالنقوش، أمسكتُ جزءًا منه وفتحته، تفاجأت بأنه.. خنجر! لم يبد على عمّي أي مشاعر وقال بنظرات جامدة: إنه الخنجر الذي قتلتُ به آسر! اتسعتْ عيناي ذهولا وتسارعت نبضات قلبي بجنون، وارتعشت شفاهي وأنا أردد: هذا الخنجر.. اخترق صدر أبي؟! شعرتُ برغبة مفاجئة في البكاء واحتضانه، لكن في نفس الوقت تزايدت رغبتي في الانتقام من هذا الوغد الماثل أمامي، والذي كان يقول ببطء: هذا هو الضمان، يمكنك الاحتفاظ به، واعتبار حياتي ملكًا لك منذ الآن، يمكنك الإجهاز علي في أي لحظة، ولكنني لا أنصحك بهذا.. ف أنا لا أريد لك أن تقتلي بيديك البريئتين تلك مجرمًا مثلي. قال الجملة الأخيرة بسخرية وألم، ثم ابتسم وهو يأخذ مني الخنجر قائلًا بعطف: سوف أغلّفه وأضعه في أول درج من مكتبي، فلا تستطيعين الاحتفاظ به معك خوفًا أن يجده أحد ما، وأنت تستطيعن التسلل لمكتبي في أي لحظة كما تعلمين. وابتسم مازحًا، لكنني تمسكتُ بالخنجر، ونظرتُ له بمقت، لماذا يتعامل بسخرية وبشكل طبيعي معي؟ هل يدرك أنه سلّمني حياته الآن؟! أم أنه يظنني فتاة حمقاء لا يمكنها حمل سكين لتنتقم لأبيها؟! لا شك أنه يعتبرني كذلك.. وإلا لما أراني الخنجر الذي قتل به أبي بهذه البساطة وكأنه يعتبرني قطة جبانة! غضبي الشديد ورغبتي في الانتقام، ورغبتي في تخييب ظنونه، جعلتني أتمسك بالخنجر وأبعده عن يده بحسم، مما جعله يرفع رأسه باستغراب مغمغمًا: قمر.. ماذا بك؟ وفي لحظة واحدة كنتُ قد تجاوزت المكتب بقفزة سريعة ووقفت خلفه، وأمسكتُ رقبته بيدي اليسرى من خلفه، وبيدي اليمنى وضعتُ طرف الخنجر على رقبته! كنت أتوقع أن يصاب بالخوف أو القلق، بعد أن قلتُ له ببرود: إن حاولت تحريك يديك فقد يسبق الخنجر. شعرتُ بابتسامته، فغضبتُ أكثر، وضغطت على حد الخنجر الذي جرحه في ثوانٍ، وقلتُ من بين أسناني: ما الذي يضحكك؟ تعتبرني طفلة لا تجرؤ على فعل ذلك صحيح؟ قال بهدوء: بل أعلم أنه يمكنك ذلك! قلتُ بعصبية: بل تعتقد أنني مجرد فتاة بريئة لا يمكنها قتل حيوان فضلًا عن قتل عمّها، ولهذا قلتَ مقولتك السخيفة وتخليت عن حياتك لي بكل برود وأنت واثق أنني لن أجرؤ على فعلها! هل تستهزئ بي!؟! "ماذا تفعلين؟!" كانت تلك صرخة مستنكرة من امرأة عمّي، شلت تركيزي تمامًا وجعلتني أنظر لها متفاجأة وهي تتقدم بخطواتها تجاهي بسرعة مضيفة بصدمة: أتحاولين قتله؟! -2- عندما طرقت الباب بعد أن سمعت حوار إيليت وأمي، كانت نظراتي باردة تجاههما، خاصة عندما فتحت لي إيليت الباب وابتسمت أمي بتوتر قائلة: مرحبًا بعودتك يا نور.. رددتُ التحية بصوت خافت، ودخلت إلى غرفتي قائلا: لماذا أنت موجودة اليوم يا أمي؟ هل أخذت إجازة من المدرسة؟ قالت بصوت رقيق فرح -ربما لشعورها بالاهتمام من هذا السؤال-: كلّا، لقد أخذتُ إذنًا بالخروج باكرًا وحسب.. نظرتُ لها بطرف عيني قائلًا: ولماذا؟ فابتسمت ابتسامة واسعة: لأحضر لكم الغداء بنفسي هذا اليوم، فمنذ زمن لم أطبخ لكم.. لم أعلّق، وقلتُ وأنا أغلق باب غرفتي: إذن ستزيحين عنّي همّ أخذ إيلين من الحضانة صحيح! امتزج صوتها بالإحباط بعد أن أغلقت باب الغرفة في وجهها قائلة: بالطبع لا تقلق يانور سأذهب أنا إليها، لكن ألن تتناول الغداء معنا؟ قلتُ بصوت عالٍ من وراء الباب: كلّا.. أريد النوم بشدة، سوف آكل عندما أستيقظ! سمعتُ صوت أمي بأسى يقول: لا بأس.. شعرتُ بالشفقة عليها من أسلوبي الجاف، لكن هذا أسلوبي منذ زمن بعيد، كانت سابقًا تعترض بصراخ وتوبيخ، وأحيانا تحكم، وكنت أنا الذي أرضخ لرغبتها في النهاية! لكن منذ عرفت حقيقتها ومنذ حصل ما حصل لبوارو، فقد تغير أسلوب أمي تجاهي نوعًا ما. أصبحت تخاف مني أو لنقل تشعر بشعور الأسى والحزن عندما أعاملها بجفاء والغريب أنها لا تعترض على ذلك، كأنها تتوقع مني هذه المعاملة وتظنها أقل شيء أفعله! على كل حال، شعرتُ بغضب كبير من إيليت في الحقيقة، لقد رغبتُ بطردها للتو واللحظة عندما سمعت حديثها مع أمي على الباب.. لكن لا بأس، سأمثل أنني لم أسمع أي شيء، وسأتسلل إلى السيارة التي ستستقلها وهي ذاهبة لمهمّتها! حاولت النوم ونمت بعد جهد من التفكير، استيقظت على صوت إيلين كالعادة وهي تطرق غرفتي.. نظرتُ إلى الساعة فإذا هي الرابعة عصرًا.. قمتُ ورحّبتُ بإيلين واتجهت إلى المطبخ لأتناول أي شيء فقد كنت جائعًا جدا.. قابلتُ أمي في المطبخ فابتسمت بحنان وهي تقول: نور استيقظت؟ طعامك في الفرن! فتحت الفرن بملل ووجدتُ صينية طعام مغطاة فأمسكتها وخرجت من المطبخ، ولحقتني إيلين بتوسلها المعتاد أن ألعب معها! لا أدري حقا كيف تعود من حضانتها بهذه الحيوية! إنني أعود من المدرسة لا أكاد أبصر ما أمامي.. أما هي فتريد اللعب حتى موعد نومها! أكلتُ وهي أمامي تلعب وتريني أساليب جديدة للعب، وعدتها أن ألعب معها بعد تناول الطعام فتركتني آكل بسلام! وعلى المغرب كنت ألعب مع إيلين لأجد أمي تستعد للخروج وأطلّت علينا باسمة تقول: نور.. هل ستستطيع الاهتمام بإيلين حتى عودتي؟ قلتُ باعتراض: أين ستذهبين؟ فقالت بهدوء: لديّ درس خصوصي لإحدى التلاميذ المتورطين في امتحانات الترم، وسأجلس معه عدة ساعات حتى يفهم المنهج كاملًا. ابتسمتُ بداخلي في سخرية حاولت إخفاءها من لهجتي وأنا أقول: لا أستطيع يا أمي أن أجلس مع إيلين كل هذا الوقت! فأنا لدي امتحان بالغد ويجب علي المذاكرة أيضًا! ظهر التوتر على وجهها ومطت شفتيها الملونتين بتفكير عميق قائلة بهمّ: إذن هل سأضطر إلى أن أتركها مع جارتي حتى أعود..! هززتُ كتفي بلا مبالاة قائلًا: يبدو ذلك! أزالت عن وجهها الضيق وقالت لإيلين: هيا يا إيلين لتنزلي عند جارتنا وتلعبي مع سيف قليلًا.. تضجرت إيلين قائلة: كلّا.. سيف ممل! لا أحب اللعب معه! أريد اللعب مع نور! قالت أمي بحزم: نور الآن لديه مذاكرة، لا يمكنك اللعب معه! بدأت إيلين بالتأفف والبكاء، فتنهدت أمي بحرارة وهي تهم بأخذ يدها عنوة، فقلت على آخر لحظة: لا بأس يا أمي، سأنزلها أنا إلى جارتنا.. اذهبي إلى درسك أنت ولا تحملي همَّا! نظرتْ أمي إلي غير مصدقة تعاوني المفاجئ، وفرحت بقوة قائلة: حقا يانور.. شكرًا يا عزيزي.. واقتربت مني بسرعة وقبّلتني مع حضن خفيف، جعل خديّ تحمرّان رغم أنني لا أريد التأثر بتلك التصرفات القائمة على المصالح، لكن لا بأس، سلّمت على إيلين وحضنتها وقبلتها أيضًا وأوصتها بتنفيذ كلامي.. ثم أمسكت هاتفها لتجري مكالمة ما وهي تنزل من باب الشقة، أما أنا فعلى الفور أمسكت يد إيلين بدون أن أنطق حرفًا، وجررتُها ورائي ونزلتُ خلف أمي، اعترضت إيلين في البداية ظنًّا منها أنني سأنزلها عند جارتها، فهمستُ لها بنظرة خاصة لتشويقها: سوف نفعل شيئًا آخر يا إيلين! ولكن عديني أن تنفذي ما أقول بالضبط حتى ألعب معك كثيرًا في الغد، اتفقنا؟! أومأت برأسها على الفور بحماسة طفولية، فقلتُ لها التعليمات بصوت منخفض سريع، ولم أتركها إلا وقد فهمتْ ما أعنيه بالكامل، ونزلتُ إلى باب جارتنا ورننتُ الجرس مرتين ونزلتُ بسرعة قبل أن تفتح، ثم خرجتُ بحذر من باب العمارة لأجد أمي واقفة على طرف الشارع تنتظر.. كادت إيلين أن تهمس فرحة: إنها مام... وضعتُ يدي كاتمًا فمها وهمستُ من بين أسناني مذكرًا لها باتفقنا: ششش.. فسكتت على الفور.. وقفنا منتظرين مع أمي حتى جاءت سيارة فخمة حمراء وقفت أمامها بالضبط، عقلي يفكر بجنون عن مصيري إذا ما ركبتُ السيارة مع أمي واكتشفتني المافيا! وحاولتُ طمأنة نفسي أن أمي ستشفع لي عندهم بكل تأكيد!! فأنا ابنها.. ولكن ماذا لو.. أنكرت معرفتها بي؟! لا لا.. هذا لا يمكن فأنا لن أهون عليها طبعًا! لكن حتى لو كان الوضع خطرًا، فعلي الذهاب مع أميّ، واكتشاف ذلك العالم الذي تنتمي إليه، وحمايتها منه! نعم.. حتى لو كانت منضمة بإرادتها وبرغبتها، عليّ منعها من وضع نفسها في الخطر! ابتسمتُ عند تلك اللحظة معجبًا بنفسي، وعندما همّت أمي بالركوب نظرتُ إلى إيلين نظرة خاصة، ودفعتُها برفق واختفيتُ إلى الوراء أراقبها وهي تهتف بحيوية وتنطلق إلى أمي: ماما.. أمي نظرت إلى إيلين مصدومة! وقالت متفاجأة: ماذا جاء بك إلى هنا؟ ألم ينزلك نور عند جارتنا؟ ضحكت إيلين وهي تقول: نعم..تركني أمام الباب ورنّ الجرس وصعد، ولم يفتح الباب فنزلت لكي أبحث عنك يا ماما! تغير وجه أمي بضيق وقالت: يا إلهي، لم أكن أعرف أن نور عديم المسؤولية هكذا! تبًّا! لم أستطع منع نفسي من الضحك، وأنا أراقبها تمسك يد إيلين وهي تقول بعصبية: سوف أوبخ نور مطوًّلا عندما أعود! تعالي يا إيلين لنصعد لجارتي.. أخرجتُ نصف رأسي من خلف العمارة ونظرتُ إلى إيلين التي كانت تعرف مكاني وتنظر إليه وعندما رأتني ابتسمت ضاحكة فالتفت أمي إلى المكان الذي تنظر إليه لتجدني قد أخفيتُ وجهي.. وقالت لها غاضبة: إلام تنظرين يا إيلين! هيا بدون تباطؤ.. آه.. من الجيد أن إيلين قد سكتت، إنها نوعًا ما ذكية! لكن يجب عليّ المحافظة على طاقتي لأنها ستنتهي غدًا من اللعب معها طوال اليوم! وعلى الفور اتجهتُ إلى السيارة ونظرتُ إلى السائق، كانت امرأة شقراء تنظر ببرود إلى مدخل عمارتنا، طرقتُ زجاج نافذتها وقلت ببراءة بالإيطالية: هناك قطة بين إطارات سيارتك الخلفية يا سيدتي.. ستموت إن حركتِ السيارة! ظهر على المرأة بعض الاهتمام وأخذت مفاتيح السيارة وخرجت من مقعدها لتنظر في الخلف، عندما جثت بجانب الإطارات تتأملها، قمتُ أنا بفتح الباب حريصًا ألا يصدر أي صوت وأغلقته ببطء، ولحسن حظي لم تنتبه تلك المرأة لصوت فتح الباب ولا إغلاقه بسبب سيارة قد ركنت خلف سيارتها بالضبط ونزل ركابها منها وهي تبحث عن القطة، اختفيتُ في المكان السفلي تحت المقاعد الخلفية، لم تجد المرأة أي شيء بعد عدة دقائق من البحث وعادت إلى مقعدها منزعجة، كانت أمي قد نزلت حينئذ فركبتْ وهي تعتذر عما حدث، ولم تخبرها المرأة عن أي شيء، وانطلقتا بصمت! |